عناصر الخطبة
1/العلم طريق الإيمان 2/ فضل العلم الشرعي 3/ فضائل أهل العلم 4/ صفات أهل العلم 5/ المراد بالعلم في القرآن علم الشريعة 6/ علوم الدنيا أجرها بقدر نية صاحبها 7/ تجديد النية في طلب العلم 8/ أمجاد المسلمين عندما نشروا العلم .اهداف الخطبة
بيان فضل العلم والعلماء / بيان العلم الذي يثاب عليه / التعريف بصفات أهل العلمعنوان فرعي أول
ورثة الأنبياءعنوان فرعي ثاني
بين علوم الدنيا وعلوم الآخرةعنوان فرعي ثالث
مجدنا بعلمنااقتباس
والخير كل الخير يناله أهل العلم بمقتضى قول الله تعالى (يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا) البقرة:269 وبمقتضى قول النبي صلى الله عليه وسلم :(من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين) رواه الشيخان من حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله...
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإن خير الكلام كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الناس:خلق الله تعالى الخلق ليعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وبين سبحانه الطريق الموصلة إليه بما أرسل من الرسل ، وأنزل من الكتب (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء:25].
ولا سبيل إلى عبادة الله تعالى إلا بمعرفة مراده ، ولا يمكن الوصول إلى معرفة ذلك إلا بقراءة كتابه ، والتلقي عن رسوله صلى الله عليه وسلم ، وطريق ذلك هو العلم بالقرآن والسنة ؛ ولذا كانت العلوم الشرعية أفضل العلوم وأجلها ؛ لأنها توصل إلى العلم بالله تعالى وأسمائه وصفاته، وأمره ونهيه ، ووعده ووعيده ، وثوابه وعقابه. وفي ذلك يقول الله تعالى: (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) [المجادلة:11]، وروى عامر بن واثلة : "أن نافع بن عبد الحارث لقي عمر بعُسْفَان وكان عمر يستعمله على مكة فقال: من استعملت على أهل الوادي؟ فقال: ابن أَبْزَى، قال: ومن ابنُ أبزى؟ قال: مولى من موالينا، قال: فاستخلفت عليهم مولى؟ قال: إنه قارئ لكتاب الله عز وجل، وإنه عالم بالفرائض، قال عمر: أما إن نبيكم صلى الله عليه وسلم قد قال: إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين" رواه مسلم.
ومن فضيلة العلم: أن الله تعالى أشهد أهله على أجل مشهود عليه وأصدقه وأفضله ، وهو توحيده سبحانه وتعالى ، وقرن شهادة أهل العلم بشهادته عز وجل وبشهادة الملائكة الكرام عليهم السلام (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالمَلَائِكَةُ وَأُولُو العِلْمِ قَائِمًا بِالقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ) [آل عمران:18].
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: استشهد بهم على أجل مشهود به وأعظمه وأكبره وهو شهادة أن لا إله إلا الله، والعظيم القدر إنما يستشهد على الأمر العظيم أكابر الخلق وساداتهم.
وقد نفى الله تعالى التسوية بين أهل العلم وبين غيرهم كما نفى التسوية بين أصحاب الجنة وأصحاب النار فقال تعالى (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ) [الزُّمر:9]. كما قال تعالى: (لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الجَنَّةِ) [الحشر:20] وهذا يدل على غاية فضلهم وشرفهم.
وجعل سبحانه وتعالى صاحب الجهل بمنزلة الأعمى الذين لا يبصر فقال عز وجل (أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى) [الرعد:19] فما ثَمَّ إلا مبصر أو أعمى، وقد وصف سبحانه أهل الجهل بأنهم صم بكم عمي في غير موضع من كتابه.
وأهل العلم هم من يعرف كلام الله تعالى ، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم ، ويعلمون أنه الحق دون سائر الناس (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ العَزِيزِ الحَمِيدِ) [سبأ:6] وفي الآية الأخرى (وَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ) [الأنعام:114].
وتشتد حاجة الناس لأهل العلم؛ لأنهم يبصرونهم ويرشدونهم ويفتونهم في أمور دينهم (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) [النحل:43]وأهل الذكر هم أهل العلم بما أنزل على الأنبياء عليهم السلام.
وأهل العلم هم أهل الخشية، خصهم الله تعالى بها من بين سائر الناس: (إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ) [فاطر:28] وهذا حصر لخشيته في أولي العلم ، وفي الآية الأخرى: (جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) [البيِّنة:8 ] وقد أخبر أن أهل خشيته هم العلماء ، فدل ذلك -بمجموع الآيتين- على أن هذا الجزاء المذكور هو للعلماء قال ابن مسعود رضي الله عنه: "كفى بخشية الله علما، وكفى بالاغترار بالله جهلا".
وأهل العلم هم أكثر الناس خشوعا إذا سمعوا آيات الله تعالى تتلى (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا) [الإسراء:109].
وكيف لا يكونون كذلك وقلوبهم مستودع الكتاب والسنة، ويعملون عقولهم في نصوصهما تدبرا وفهما واستنباطا (بَلْ هُوَ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ) [العنكبوت:49]. ولمكانة أهل العلم عند الله تعالى فإنهم يشهدون يوم القيامة على الكفار والمنافقين (وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ وَالإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللهِ إِلَى يَوْمِ البَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ البَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) [الرُّوم:56].
والأمثال التي ضربها الله تعالى لعباده يدلهم بها على صحة ما أخبرهم به في كتابه ، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم لا يفهمها حق الفهم إلا أهل العلم (وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا العَالِمُونَ) [العنكبوت:43]. وفي القرآن بضعة وأربعون مثلا، وقد كان بعض السلف إذا مرَّ بمثل لا يفهمه يبكي ويقول: "لست من العالمين".
والخير كل الخير يناله أهل العلم بمقتضى قول الله تعالى (يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا) [البقرة:269]. وبمقتضى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين" رواه الشيخان من حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما.وفي لفظ للطبراني: "يا أيها الناس تعلموا إنما العلم بالتعلم والفقه بالتفقه ومن يرد الله به خيرا يفقهه في الدين".
والمراد بالفقه هنا: معرفة ما يجب لله سبحانه وتعالى، وفهم الأحكام الشرعية ، ومعرفة الحلال والحرام ، والعمل بمقتضى العلم بذلك، قال ابن القيم رحمه الله تعالى : "وهذا يدل على أن من لم يفقهه في دينه لم يرد به خيرا، كما أن من أراد به خيرا فقهه في دينه".
ويكفي في فضل العلم أن الله تعالى لم يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بطلب الازدياد من شيء إلا الازدياد من العلم فأمره به (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا) [طه:114].
والعلم طريق يوصل إلى الجنة ؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : "ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة" رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وأصحاب الأعمال الصالحة تنقطع أعمالهم بوفاتهم إلا من ورَّثَ علما ينتفع به، فإن علمه يجري عليه في قبره إلى قيام الساعة؛ كما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له" رواه مسلم.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى بعد أن ذكر جملة من فضائل العلم والعلماء: "والأحاديث في هذا كثيرة ، وقد ذكرنا مائتي دليل على فضل العلم وأهله في كتاب مفرد ، فيا لها من مرتبة ما أعلاها ، ومنقبة ما أجلها وأسناها: أن يكون المرء في حياته مشغولا ببعض أشغاله، أو في قبره قد صار أشلاء متمزقة ، وأوصالا متفرقة، وصحف حسناته متزايدة يملي فيها الحسنات كل وقت، وأعمال الخير مهداة إليه من حيث لا يحتسب، تلك والله المكارم والغنائم، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون، وعليه يحسد الحاسدون، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم، وحقيق بمرتبة هذا شأنها أن تنفق نفائس الأنفاس عليها، ويسبق السابقون إليها، وتوفر عليها الأوقات، وتتوجه نحوها الطلبات، فنسأل الله الذي بيده مفاتيح كل خير أن يفتح علينا خزائن رحمته، ويجعلنا من أهل هذه الصفة بمنه وكرمه، وأصحاب هذه المرتبة يدعون عظماء في ملكوت السماء؛ كما قال بعض السلف:من علم وعمل وعلم فذلك يدعى عظيما في ملكوت السماء" انتهى كلامه.
أيها الإخوة: وفضائل العلم كثيرة ، ومزاياه عديدة ، لا يحيط بها كتاب ، ولا يحصيها مقام ، وكل البشر يحبون الانتساب إلى العلم وإن كان بعضهم ليس من أهله، وكل الناس يتبرؤون من الجهل وإن كان أكثرهم من أهله ، فنعوذ بالله من الجهل، ومن عمى البصائر، ونسأله أن يعلمنا ما ينفعنا، وأن يرزقنا العمل بما علمنا، إنه سميع قريب مجيب.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالقَلَمِ عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) [العلق:1-5].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى وأطيعوه (وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [البقرة:282].
أيها المسلمون: إذا أطلق العلم في الكتاب أو السنة فالمراد به العلم الشرعي ، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: "وكل علم أطلق في القرآن أو في السنة فإنما يراد به علم الكتاب والسنة ...ثم نقل عن الطحاوي رحمه الله تعالى قوله: اسم العالم يُستحق بشيئين: بعلم الكتاب والسنة وشرائع الدين فهو العالم الفقيه ، والآخر بخشية الله تعالى قال تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ) [فاطر:28] فالمراد بالعالم: هو العالم الفقيه لأن آباط الإبل لا تضرب إلا في طلب العلم الذي هو الفقه، لا في طلب العلم الذي هو الخشية، فمن كان معه من الفقهاء من خشية الله تعالى ما ليس مع غيره منهم فهو في أرفع مراتب العلماء.
وقال الحافظ أيضا: والمراد بالعلم العلم الشرعي الذي يفيد معرفة ما يجب على المكلف من أمر دينه في عباداته ومعاملاته، والعلم بالله وصفاته وما يجب له من القيام بأمره وتنزيهه عن النقائص.اهـ
وعلوم الدنيا كالطب والهندسة والفلك وغيرها مما ينفع الناس، لصاحبها من الثواب والأجر بقدر نيته الصالحة في نفع الناس، والارتقاء بمجتمعه وأمته حتى لا تكون عالة على غيرها من الأمم، وهذه العلوم النافعة هي من فروض الكفايات التي يجب أن ينفر لها طائفة من المسلمين؛ ليغنوا مجتمعاتهم عن الحاجة إلى غيرهم، ومن نفر إليها مخلصا لله تعالى فهو مشارك في رفع الحرج عن عموم المسلمين، وله من الأجر بقدر نيته الصالحة.
أيها الإخوة: يجب أن يراجع كل مدرس ومدرسة وطالب وطالبة ، نواياهم تجاه بذل العلم وطلبه؛ إذ إن من أهم أسباب تأخر المسلمين في شتى العلوم ضعف الإخلاص في التعليم والتحصيل، وتقديم حظوظ الدنيا على حقوق الآخرة، وإلا فالمخلصون لله تعالى موفقون في كل أعمالهم، ويظهر إنتاج الواحد منهم كما لو كان أمة وحده.
لقد أدى إخلاص المعلم والمتعلم فيما مضى من تاريخنا إلى نهضة حضارية شاملة، تبع المسلمين فيها غيرُهم ، فكانت الطوائف الأخرى من يهود ونصارى وغيرهم يرون أن الشرف كل الشرف في أن يتقنوا اللغة العربية وآدابها وفنونها.. يبزون بذلك أقرانهم ، ويفاخرون به في مجتمعاتهم؛ وذلك إبان الحضارة الإسلامية في الأندلس، حتى كتب أحد المؤرخين القساوسة من الأوربيين يصف الأحوال آنذاك فمما كتب قوله: "كثيرون من أبناء ديني يقرؤون أشعار العرب وأساطيرهم، ويدرسون ما كتبه علماء الدين، لا ليخرجوا عن دينهم، وإنما ليتعلموا كيف يكتبون اللغة العربية مستخدمين الأساليب البلاغية. ثم يقول: أين نجد اليوم مسيحيا عاديا يقرأ النصوص المقدسة باللغة اللاتينية؟ من منكم يدرس اليوم الكتاب المقدس أو ما قاله الرسل؟ إن كل الشباب النابه منصرف الآن إلى تعلم اللغة والأدب العربيين، فهم يقرؤون ويدرسون بحماسة بالغة الكتب العربية، ويدفعون أموالهم في اقتناء المكتبات، ويتحدثون في كل مكان بأن الأدب العربي جدير بالدراسة والاهتمام، وإذا حدَّثهم أحد عن الكتب المسيحية أجابوه بلا اكتراث: بأن هذه الكتب تافهة ولا تستحق اهتمامهم، ثم يقول: يا للهول، نسي المسيحيون حتى لغتهم، ولن تجد بين الألف منهم واحدا يستطيع كتابة خطاب باللغة اللاتينية، بينما تجد بينهم عددا كبيرا لا يحصى يتكلم العربية بطلاقة، ويقرض الشعر أحسن من العرب أنفسهم" انتهى كلامه.
وذكرت مستشرقة ألمانية أن الأسقف والقاضي الأوربيين آنذاك يلبسان زيا عربيا، ويحملان اسمين عربيين، ويتلوان كغيرهما من النصارى الإنجيل بالعربية.
وليس يعنينا في هذا المقام التذكير بالأمجاد السالفة قدر أن نأخذ العبرة من التاريخ، وأن لا نفرط فيما خطه الأجداد بمداد من ذهب في صفحات التاريخ الأوربي، وما أحوج الناس في مشارق الأرض ومغاربها إلى الأخذ بأيديهم إلى حظيرة هذا الدين العظيم، ولا يتأتى ذلك إلا بالعلم والتعليم، والدعوة إلى الله تعالى على بصيرة، ولا بصيرة بلا علم صحيح.
فاتقوا الله - أيها المسلمون - في أنفسكم وأولادكم وأمتكم، وتعلموا العلم النافع وعلموه، واغرسوا في نفوس أولادكم وطلابكم الإخلاص في العمل، والجد في الطلب، والابتعاد عن الملهيات التي فتكت بعقول الشباب، ودمرت كثيرا من أخلاقهم، وأوهنت عزائمهم، وأضعفت قوتهم عن تحمل المسؤوليات. عسى الله تعالى أن يصلح شباب المسلمين وفتياتهم، وأن يجعلهم قرة أعين لوالديهم ولمجتمعاتهم، إنه على كل شيء قدير.
وصلوا وسلموا على نبيكم...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم