اقتباس
يعيش المرء في زحام هذه الحياة حتى أنه من شدة ما يجد فيها من اللهو واللعب والمشاغل يكاد ينسى الغاية التي خلقه الله -تعالى- لأجلها، حيث قال الله -جل في علاه-: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)[الذاريات: 56]..
يعيش المرء في زحام هذه الحياة حتى أنه من شدة ما يجد فيها من اللهو واللعب والمشاغل يكاد ينسى الغاية التي خلقه الله -تعالى- لأجلها، حيث قال الله -جل في علاه-: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)[الذاريات: 56]؛ لكن من عظيم رحمة الله وفضله على عباده أن شرع لهم في دينه القويم وصراطه المستقيم ما يذكرهم بهذه الغاية العظيمة، بل وأكرمهم بمواسم يتعرضون فيها إلى النفحات الإيمانية واختصهم كذلك بعبادات ينالون بها الكرائم الربانية.
ألا وإن من هذه العبادات الجليلة عبادة الاعتكاف ولزوم المساجد خصوصا في العشر الأخيرة من رمضان، ونقول -يا كرام- أن من جاز له الاعتكاف وصار في حقه مسنونا ينبغي عليه أن يراعي أمورا مهمة في الاعتكاف وغاياته وحكمه؛ لأن من الناس من يكره في حقه الاعتكاف لحاجة أهله له أو الديه أو أولاده أو غير ذلك، وإليكم -أيها الكرام- إشارات سريعة متعلقة بمقاصد الاعتكاف وحِكَمه:
الأولى: الخلوة مع الله والتبتل والإقبال والانقطاع، قال الله: (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا)[المزمل: 8]، والتبتل: يعني الانقطاع عن الدنيا إلى الله, قال البغوي في تفسير قوله تعالى: (وتبتل إليه تبتيلا)؛ أي: "انقطع إليه في العبادة انقطاعًا وهو الأصل في الباب، يقال: تبتلت الشيء أي: قطعته، وهو رفض الدنيا وما فيها والتماس ما عند الله، ويقصد به كذلك: تفرّغ البال والفكر إلى ما يرضي الله؛ فكأنّ الفرد انقطع عن النّاس، وانحاز إلى جانب الله.
والتبتل يجمع أمرين: الانفصال والاتصال؛ فالانفصال: هو انقطاع القلب عن حظوظ النفس التي تزاحم مراد الرب، وعن التفات القلب إلى ما سوى الله, والاتصال، وهو اتصال القلب بالله -تعالى- والإقبال عليه, وإقامة القلب على مراد الله، ولله در القائل:
لما علمت بأن قلبي فارغ *** مما سواك ملئته بهواك
وملئت كلي منك حتى لم أدع *** مني مكانا خالياً لسواك
فالقلب فيك هيامه وغرامه *** والنطق لا ينفك عن ذكراك
والسمع لا يصغى إلى متكلم *** إلا إذا ما حــدثوا بعلاك
الثانية: الخلوة مع النفس ومحاسبتها وإصلاحها وتهذيبها والتوبة من سوء فعالها، (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا)[الشمس: 9- 10]، فقد كان السلف الصالح يعكفون في هذه الأيام المباركة يحاسبون أنفسهم وينقونها من الذنوب والمعاصي. وفي النفس أمراض وبلاء لا يذهبها إلا الخلوة مع الله والانعزال بالنفس لمعرفة أمراضها وعلاجها منه.
الثالثة: التماس ليلة القدر التي حازت الفضائل الكثيرة والمزايا العظيمة، وشهودها في أحب البقاع إلى الله وهي المساجد وإدراك المسلم لها وهو على حال يرضاها الله ورسوله؛ (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ)[القدر: 3 - 5].
الرابعة: الاعتكاف وسيلة للتخفيف من خلطة الناس عموما وتخفيف الانشغال بالأهل والأولاد، قال ابن رجب: "وإنما كان يعتكف النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذا العشر التي يطلب فيها ليلة القدر؛ قطعاً لإشغاله وتفريغا للياليه وتخلياً لمناجاة ربه وذكره ودعائه وكان يحتجر حصيراً يتخلى فيها عن الناس فلا يخالطهم ولا يشتغل بهم"، ولهذا ذهب الإمام أحمد -رحمه الله-، "إلى أن المعتكف لا يستحب له مخالطة الناس حتى ولا لتعلم علم وإقراء قرآن، بل الأفضل له الانفراد بنفسه والتخلي بمناجاة ربه وذكره ودعائه، وهذا الاعتكاف هو الخلوة الشرعية وإنما يكون في المساجد لئلا يترك به الجمع والجماعات؛ فالخلوة المشروعة لهذه الأمة هي الاعتكاف في المساجد خصوصا في شهر رمضان خصوصا في العشر الأواخر منه كما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يفعله فالمعتكف قد حبس نفسه على طاعة الله وذكره وقطع عن نفسه كل شاغل يشغله عنه وعكف بقلبه وقالبه على ربه وما يقربه منه فما بقي له هم سوى الله وما يرضيه عنه".
الخامسة: الانعزال عن الدنيا وشهواتها ومتاعها والانشغال بالتجارة والمرابحة والوظائف وغيرها؛ (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا)[الكهف: 28].
السادسة: الاعتكاف التفرغ للعبادة كالذكر والدعاء والقيام وقراءة القرآن، (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ)[الشرح: 7- 8]؛ لا كما يصنع بعض المعتكفين -هداهم الله- حيث يقضون نهارهم في النوم وتصفح الشبكة العنكبوتية وبرامج التواصل الاجتماعي كالواتس والسناب وتويتر وفيسبوك ويضيعون ليلهم باستقبال الزيارات والجلسات الاجتماعية وربما صاحبت القيل والقال والزور -والعياذ بالله- وهؤلاء في الحقيقة لم يراعوا مقاصد الاعتكاف الشرعي ولم يبلغوا حقيقته وإن سمي صنيعهم عند أهل اللغة اعتكافا.
السابعة: أن الاعتكاف فرصة لمراجعة القرآن الكريم ومدارسته، ولا شك أن مراجعة القرآن وحفظه وإتقانه ومدارسته من أجل القربات ويدل على ذلك نزول جبريل -عليه السلام- إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- لتدارس القرآن، عن عبدالله بن عباس -رضي الله عنهما-، "أنَّ رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- كان من أجودِ الناسِ وأجودَ ما يكونُ في رمضانَ حين يلقاهُ جبريلُ يلقاهُ كلَّ ليلةٍ يُدارِسُهُ القرآنَ" (رواه أحمد).
الثامنة: ترويض النفس على ارتياد المسجد والتعلق بها والأنس بمرتاديها، وقد بشر النبي -صلى الله عليه وسلم- بثواب المعلقة بقلوبهم بالمساجد حين ذكر السبعة اللذين يظلهم الله في ظله ومنهم: "ورجلٌ قلبُه مُعلَّقٌ في المساجدِ"، وفي روايةٍ: "ورجلٌ مُعلَّقٌ بالمسجدِ، إذا خرج منه حتى يعودَ إليه" (رواه البخاري ومسلم)، ولا شك أن تعلق القلب بالمسجد سمة أهل الإيمان بخلاف أهل النفاق وضعاف الإيمان يتضايقون من المساجد والمكث فيها؛ فتجدهم آخر الناس دخولا لها وأولهم خروجا منها وأكثرهم رغبة عنها وهذا من الحرمان -والله المستعان-.
التاسعة: لم شعث القلب وإصلاحه، يقول الإمام ابن القيم -رحمه الله-: "لما كان صلاح القلب واستقامته على طريق سيره إلى الله تعالى، متوقفاً على جمعيته على الله، ولم شعثه بإقباله بالكلية على الله -تعالى- فإن شعث القلب لا يلمه إلا الإقبال على الله -تعالى-، وكان فضول الطعام والشراب، وفضول مخالطة الأنام، وفضول الكلام، وفضول المنام، مما يزيده شعثاً، ويشتته في كل واد ويقطعه عن سيره إلى الله -تعالى-، أو يضعفه أو يعوقه ويوقفه، اقتضت رحمة العزيز الرحيم بعباده أن شرع لهم من الصوم ما يذهب فضول الطعام والشراب، ويستفرغ من القلب أخلاط الشهوات المعوقة له عن سيره إلى الله -تعالى-، وشرعه بقدر المصلحة، بحيث ينتفع به العبد في دنياه وأخراه، ولا يضره ولا يقطعه عن مصالحه العاجلة والآجلة".
العاشرة: اكتساب الأجور العظيمة لمجرد البقاء في المساجد بنية القربى منه -سبحانه وتعالى- (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ)[العلق: 19]، أو لأجل انتظار الصلاة؛ ناهيك عن أجور الطاعات الأخرى إذا مارسها؛ كصلاة وقراءة للقرآن وذكر ومدارسة وحضور مجلس علم وغيرها.
الحادية عشر: إحياء سنة المصطفى القولية والفعلية؛ فقد كان -عليه الصلاة والسلام- يعتكف في العشر الأواخر حتى لقي ربه، عن أم سلمة هند بنت أبي أمية -رضي الله عنها-، "أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- اعتكفَ أوَّلَ سنةٍ العشرَ الأولَ ثمَّ اعتكفَ العشرَ الوسطى ثمَّ اعتكفَ العشرَ الأواخرَ وقالَ إنِّي رأيتُ ليلةَ القدرِ فيها فأنسيتُها فلم يزل رسولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يعتكفُ فيهنَّ حتَّى توفِّيَ -صلى الله عليه وسلم-".
خطباؤنا الكرام: إشارات سريعة عن بعض مقاصد الاعتكاف وومضات عجلى عن بعض حكمه، معها مجموعة من الخطب المنتقاة لثلة من الخطباء؛ سائلين الله -تعالى- أن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح وأن يوفقنا لرضاه والفوز يوم لقاه.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم