اقتباس
هي بلاد الرباط الروحي الذي يجمع المسلمين؛ فما أن تُذكر مكة أو المدينة أو المملكة إلا وتحن قلوب المسلمين وتهفو وتصفو وتتوق إلى إتيانها ولقياها، وبعد أن تلتقي الأرواح والأفئدة والقلوب والنفوس على حب هذه البلاد، فإنها بلاد تجمع الأجساد من شتى الأمصار في موسم الحج بالملايين، وفي غير موسم الحج ألوفًا مؤلفة...
أمنيتي... وأمنية كل مسلم موحد على هذه الأرض: أن تطأ قدمه أرضًا كان يمشي عليها خير الأنام -عليه الصلاة والسلام- وصحابته الكرام، وأن تكتحل عينيه بالنظر إلى بيت الله الحرام، وأن يسعد بصلاة في مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأن يسيح في البلاد التي شهدت تنزل الوحي من السماء، وأن يراقب غار حراء الذي حظي باحتضان النبي -صلى الله عليه وسلم- في مطلع نبوته، وغار ثور الذي شرف بإيواء النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم هجرته.
ثم نرى أرض بدر التي كانت محل غزوة الفرقان، حيث صال المسلمون وجالوا، ونمر على جبل أحد الذي سالت عليه دماء الصحابة الأطهار من المهاجرين والأنصار، ثم نعرج على الطائف لنتذكر كل موطئ مشى فيه صحابي أو تابعي... إن كل هذه المواقع وكل هذه الأحداث قد حوتها واحتوتها أرض بلاد الحرمين الطاهرة.
***
فهي بلاد الذكريات والتاريخ: فها هو نبي الله إبراهيم -عليه السلام-، وها هي زوجته هاجر، وها هو ولدهما إسماعيل في وسط الصحراء، ثم يتركهما إبراهيم ويمضي؛ فتناديه هاجر: "يا إبراهيم، أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي، الذي ليس فيه إنس ولا شيء؟ فقالت له ذلك مرارًا، وجعل لا يلتفت إليها، فقالت له: آلله الذي أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذن لا يضيعنا، ثم رجعت" (البخاري)، وتفجرت زمزم، وأقبلت قبيلة جرهم واستوطنت المكان فصار معمورًا.
وشب إسماعيل -عليه السلام- عن الطوق، وأُمر إبراهيم بذبحه، وفداه ربه بذبح عظيم... ذكريات كثيرة، وتاريخ عريق قديم هو المنهل والرفد والأصل لجميع المسلمين، وكانت هذه اللحظات التي مررنا عليها بداية قيام مكة ثم بلاد الحرمين.
***
وهي بلاد الشعائر والمناسك: ففيها المسجد الحرام والكعبة التي يصلي إليها الأنام، (جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ)[المائدة: 97]؛ فهي بلاد القبلة والصلاة: فمن توجه بوجهه إليها واستقبلها في صلاته صحت صلاته، ومن أعرض عنها متعمدًا فصلاته باطلة، وكونها قبلة كان أمنية لنبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) [البقرة:144].
***
وفيها البلد الحرام: بلد ذو حرمة وبيت ذو حرمة، وتلك الحرمة من عند الجليل الكبير العظيم -سبحانه وتعالى-، قال تعالى: (إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا) [النمل:91]، "أي: جعلها الله حرمًا آمنًا، لا يسفك فيها دم، ولا يظلم فيها أحد، ولا يصاد صيدها، ولا يختلى خلاها، ولا يدخلها إلا محرم" (تفسير الخازن)، وعن ابن عباس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم الفتح -فتح مكة-: "إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يعضد شوكه، ولا ينفر صيده، ولا يلتقط إلا من عرفها، ولا يختلى خلاها" (متفق عليه).
***
وهي بلاد الرباط الروحي الذي يجمع جميع المسلمين: فما أن تذكر المملكة العربية السعودية إلا وتحن قلوب المسلمين وتهفو وتتوق إلى مكة المكرمة والمدينة المشرفة؛ فكما أنها البلاد التي تهفو إلى الأرواح؛ فإنها البلاد التي تجمع الأجساد من شتى الأمصار في أداء فريضة الحج وشعيرة العمرة.
***
وهي بلاد مضاعفة الأجور والحسنات: فأي مكان تتضاعف فيه أجور الصلوات بألف أو بمائة ألف كما في الحرمين الشريفين؟! فعن جابر، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "صلاة في مسجدي أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه" (ابن ماجه)، كما يتضاعف الأجر -كذلك- بحرمة المكان وشرف البقعة.
***
وهي البلاد الآمنة الوادعة: أمان لمن حولها وأمان ممن جاءها وأمان لمن قصدها، هي نعمة امتن الله بها على أهلها: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا) [العنكبوت:67]، وحين أقسم الجليل -عز وجل- قال: (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ) [التين: 1-3]، ومعنى "الأمين" هنا: "الآمن، وهو مكة، حرسها الله -تعالى-، لأنه الحرم الذي يأمن فيه الناس في الجاهلية والإسلام" (تفسير الخازن).
ومرة أخرى يقول الله -سبحانه وتعالى-: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا) [البقرة:125]، ومعنى: "(مَثابَةً لِلنَّاسِ) أي: مرجعًا، من ثاب يثوب إذا رجع، والمعنى: يثوبون إليه من كل جانب يحجونه، (وَأَمْنًا) أي: موضعًا ذا أمن، يأمنون فيه من أذى المشركين فإنهم كانوا لا يتعرضون لأهل مكة، ويقولون: هم أهل الله، وقال ابن عباس: لا يقضون منه وطرًا؛ يأتونه، ثم يرجعون إلى أهليهم، ثم يعودون إليه" (تفسيري الخازن وابن كثير).
***
وهي بلاد نشر الدين وإقامة الشريعة: ففيها يطبق شرع الله -عز وجل-، فهو البلد الوحيد -فيما أعلم- الذي تُغلق فيه المحال التجارية والمصالح الحكومية عند حضور وقت الصلاة، وهو البلد الذي تقام فيه الحدود والشريعة الإسلامية في حين استعاضت دول كثيرة بالقوانين الوضعية عن شريعة رب البرية.
***
وهي البلاد التي ترعى الحرم المكي والحرم المدني والحج والحجيج: ففي كل موسم حج نرى جديدًا وإنجازًا واضحًا وجهدًا مبذولًا؛ توسعة في مساحة الحرم أو وسائل انتقال ميسورة بين المناسك، أو أدوار علوية للمطاف... فجزى الله القائمين على تطويرها خيرًا.
***
ومن بلاد الحرمين ينبعث نور السنة وهدي التوحيد: ليشمل جميع أنحاء الأرض علمًا وتأصيلًا وتنويرًا وتثقيفًا، فهي معقل النور ومصباح الهدى وفواحة المسك والعنبر...
وهي بلاد نشر المصحف الشريف: فما من أحد قصدها إلا ما خرج منها إلا وهو يحمل مصحفًا شريفًا طبعه خادم الحرمين الشريفين، بل وهذي مساجد المسلمين في شتى بقاع الأرض قد امتلأت وتزينت بتلك المصاحف ذات الغلاف الأخضر والطباعة الفاخرة؛ "مصحف المدينة المنورة"، رمزًا ومنارة وصيانة لكتاب الله -تعالى-.
***
وإننا لا نملك إلا أن نبتهل إلى الله ربنا أن يحفظ بلاد الحرمين ويحميها من كل سوء، وأن ندعو أهلها الذين مَنَّ الله عليهم بالسكنى فيها أن يحافظوا عليها، فإن الحفاظ عليها فريضة واجبة محتمة.
وما ذكرناه في مقدمتنا هذه إلا بعض خصائص بلاد الحرمين، وما بقي أكثر مما سردناه، ويبقى واجب على أهل الإسلام تجاه بلاد الحرمين؛ لذا فنحن نفسح المجال الآن لخطبائنا النابهين؛ ليذكروا بمكانة هذه الأرض الطاهرة جموع المصلين، وإليكم بعض الخطب لنخبة من الخطباء.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم