اقتباس
وللعالِم في رقبة كل مؤمن دين واجب الوفاء؛ فاحترامه واجب وتوقيره واجب، فعن عبادة بن الصامت قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ليس من أمتي من لم يجل كبيرنا، ويرحم صغيرنا، ويعرف لعالمنا حقه"، وفي لفظ للبزار: "ويف لعالمنا"...
أوبعد هذا التشريف من شرف؛ "إن العلماء ورثة الأنبياء"(رواه الترمذي)، إنه وسام نبوي على صدر كل عالم رباني، فلا ورثة للأنبياء أبدًا أبدًا إلا العلماء، حتى أموالهم التي يخلفونها بعد موتهم فأزواجهم وأولادهم محرمون منها، يقول -صلى الله عليه وسلم-: "لا نورث، ما تركنا صدقة"(متفق عليه)، فإنهم لا يورِّثون مالًا، إنما يورِّثون عِلمًا...
والعلماء هم المرفوعون في الدنيا والآخرة: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ)[المجادلة: 11]، فالعلماء هم مصابيح الهدى وأنوار الرشاد، ولولا أن الله قيضهم للدين لتبدَّل وحُرِّف، ولولا العلماء لغرقت سفينة المجتمع، ولولا العلماء لضل الناس الصراط المستقيم...
وللعالِم في رقبة كل مؤمن دين واجب الوفاء؛ فاحترامه واجب وتوقيره واجب، فعن عبادة بن الصامت قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ليس من أمتي من لم يجل كبيرنا، ويرحم صغيرنا، ويعرف لعالمنا حقه"(رواه الطبراني في مكارم الأخلاق)، وفي لفظ للبزار: "ويف لعالمنا"... أوليس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد قال: "من لا يشكر الناس لا يشكر الله"(رواه الترمذي)، وإن أحق من يُشكر -بعد الأنبياء- هم العلماء.
ومن أراد الخير والبركة والسكينة والطمأنينة فليكن مع العلماء، فعن ابن عباس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "البركة مع أكابركم"(رواه ابن حبان)، قال الشراح: "أراد العلماء والأولياء وإن صغر سنهم... فمن له منصب العلم وإن صغر سنه يجب إجلالهم؛ حفظًا لحرمة ما منحهم الحق -سبحانه وتعالى-"(المناوي في فيض القدير بتصرف).
***
ولنلق نظرة الآن كيف كان من قبلنا يوقرون العلماء ويجلُّونهم، فهذا مغيرة الضبي يقول: "كنا نهاب إبراهيم هيبة الأمير"(سنن الدارمي)، يقصد: إبراهيم النخعي.
وينقل إلينا البيهقي في: "المدخل إلى السنن الكبرى"، نماذج رائعة فيما نحن بصدده، فهذا الزهري يقول: "إني كنت لآتي باب عروة فأجلس ثم أنصرف ولا أدخل، ولو شئت أن أدخل لدخلت؛ إعظامًا له".
ويقول القاسم بن سلام: "ما دققت على محدث بابه قط؛ لقول الله -عز وجل-: (وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ)[الحجرات: 5]"... وجعلها الخطيب البغدادي قاعدة فقال: "إذا وجد الطالب الراوي نائمًا، فلا ينبغي له أن يستأذن عليه، بل يجلس وينتظر استيقاظه، أو ينصرف إن شاء"(الجامع لأخلاق الراوي)
وراقب الآن هذا المشهد المهيب الذي ينقله إلينا عبد الوهاب بن حبيب العبدي قائلًا: "كنا نأتي مالك بن أنس نجلس في دهليز له وعليه مصراعان، فتجيء هاشم فتجلس، وتجيء قريش فتجلس على منازلها، ثم نجيء نحن فنجلس، وتخرج جارية له بالمراوح فيأخذ الناس يتروحون، فيقول الشيخ بالمصراع فيفتحه فيخرج فينظر إلى قريش كأنما على رؤوسها الطير إذا نظروا إليه إجلالًا، قال: وفي ذلك يقول الشاعر:
يأبــى الـجواب فما يراجع هيبة *** والسائلــــــون نواكس الأذقـان
أدب الوقار وعز سلطان التقى *** فهو الأمير وليس ذا سلطان
***
ومن هنا نقول في ثقة: إن استخف بقدر العلماء الربانيين فقد حقَّر ما عظمه الله، ووضع ما رفعه الله، وأهان من كرَّمه الله، بل لقد حكم عليه عمر وعمار -رضي الله عنهما- بالنفاق فقالا: "ثلاثة لا يستخف بحقهن إلا منافق بيِّن نفاقه: إمام مقسط، ومعلم الخير، وذو الشيبة في الإسلام"(مصنف ابن أبي شيبة)، وأولى وأكثر وأفضل من يعلم الناس الخير هم العلماء.
وقد اعتبر سفيان الثوري مجرد التقديم بين يدي العلماء والتصدر دونهم علامة على فقدان فاعله للخير وعلى قلة مروءته وحيائه: "إذا رأيت الشاب يتكلم عند المشايخ، وإن كان قد بلغ من العلم مبلغًا، فآيس من خيره فإنه قليل الحياء"، وليس هذا مجرد كلام نظري من سفيان -رحمه الله- بل لقد طبقه عمليًا؛ فقد حضر مجلسه شاب من أهل العلم، وهو يترأس، ويتكلم، ويتكبر بالعلم على من هو أكبر منه، قال: فغضب سفيان وقال: لم يكن السلف هكذا كان أحدهم لا يدعي الإمامة، ولا يجلس في الصدر حتى يطلب هذا العلم ثلاثين سنة، وأنت تتكبر على من هو أسن منك! قم عني ولا أراك تدنو من مجلسي"(المدخل إلى السنن الكبرى للبيهقي).
***
وواجباتنا نحو العلماء كثيرة لا تكاد تنحصر، ولعل أوجب واجباتنا نحوهم ألا نقطع أمرًا دونهم، بل لا بد أن نصدر عن أمرهم ونقدمهم؛ فهم مصابيح الهدى التي تدل على الطريق المستقيم، وفي القرآن الكريم يقول الجليل -سبحانه وتعالى-: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)[النحل: 43]، و[الأنبياء: 7]، وعند أبي داود وغيره: "ألا سألوا إذ لم يعلموا؛ فإنما شفاء العي السؤال"، ومن يسألون غير العلماء الربانيين.
والعلماء واجبوا التقديم في كل أمر جليل وفي كل خطب جلل، وهذا مثال يرويه أبو مسعود الأنصاري أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء، فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء، فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء، فأقدمهم سلمًا"(رواه مسلم)، يقول النووي شارحًا: "ولا يختص هذا التقديم بالصلاة؛ بل السنة أن يقدم أهل الفضل في كل مجمع إلى الأمام"(شرح النووي على مسلم).
والسؤال الملح الآن: لماذا يجب تقديمهم؟ والجواب: لأنهم هم الحجة في فهم النصوص الشرعية، وهم الأعلم بمناطها وسياقها ومواردها؛ فهم المتصلون بالقرآن المتقربون للسنة، المخالطون لأنفاس الأجيال الأولى الفاضلة، المتقلبون بين أمهات الكتب والمجلدات، الناهلون من فقه أحمد والشافعي ومالك وأبي حنيفة، المغترفون من معين البخاري ومسلم وابن حجر والطحاوي... وفوق هذا كله فرب العزة -سبحانه وتعالى- يقول: (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ)[النساء: 83]، قال الخازن في تفسيره: "وهم العلماء...".
وقد جمعنا هنا عددًا من الخطب التي تبين سامق مكانة العلماء وسمو منزلتهم، فإليك:
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم