اقتباس
إن باب المساجد يؤدي مباشرة -لمن أخلص ثم أتقن- إلى باب الجنة... وإن تعلق القلب بالمسجد يوصل حتمًا إلى ظل عرش الرحمن -عز وجل- يوم القيامة... وإن المشي للمسجد في الظلام فجرًا ومغربًا وعشاءً يورث النور التام يوم القيامة...
كإنسان حُرِم من الماء حتى كاد أن يهلك وحتى صارت قطرة الماء بالنسبة له أغلى من جبل من الذهب... وكطفل حُرِم من أمه ودفء حضنها حتى صار الارتماء بين ذراعيها أهم عنده من نور عينيه... وكغريب نُفي من وطنه فتقلب في الأهوال والذل والأوحال حتى أصبح يتمنى لو تنازل عما بقي من عمره مقابل ليلة واحدة يقضيها بين ربوع وطنه... هذا تمامًا هو حال من تعلق قلبه بالمساجد بعد أن حُرم منها، فكاد يموت كمدًا كلما رأى أبواب المسجد مغلقة دونه، وحتى أخذه الهم الذي لا يستفيق منه إذ يشعر أنه ما حُرِم من مسجده إلا بسبب ذنوبه ومعاصيه...
ففي واقعة لا نعلم أنها قد وقعت في سابق الزمان أبدًا، تُغلَق المساجد، وتعطل الجُمع والجماعات، ونُحرَم من القيام والتراويح في رمضان، ونصلي صلاة العيد في بيوتنا!... فهل هو سخط من الله نزل علينا؟! أم هي خطايانا التي لم تجعلنا أهلًا لأن نعمر بيوت الله؛ (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ)[التوبة: 18]! كرب وهَمٌ وغم وحيرة!
لكن هذا الكرب، وذلك الحزن، وذاك الهم، سرعان ما زال وولى وانقضى حين شاع الخبر أن المساجد -بحول الله- ستفتح أبوابها... لقد كان كيوم عيد، كيوم لقاء الحبيب بالحبيب، بهجة وحبور وسعادة وسرور، وعيون تدمع من الفرح، وصدور تنشرح من المرح... فما أجمل العطاء بعد المنع! وما ألذ الرشف بعد الحرمان!... إنه يوم ليس كالأزمان.
***
وكيف لا يفرح المؤمنون أشد الفرح لفتح المساجد التي هي بيوت الله في الأرض: (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا)[الجن: 18]، وهي مواضع الطاعة والتقرب منه -سبحانه وتعالى-، وهي بيوت التقوى والتقاة، قالها الله كما قالها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأما الله -عز وجل- فقد قال: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ)[النور: 36-37]، وأكد نفس الأمر رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- حين قال: "المسجد بيت كل تقي"(رواه البزار في مسنده).
والمساجد بلا منازع هي أحب بقاع الأرض إلى الله -عز وجل-، فعن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "أحب البلاد إلى الله مساجدها"(رواه مسلم)، لذا تجد الجليل -سبحانه وتعالى- قد أضافها إلى نفسه، فقال -عز من قائل-: (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ...)[التوبة: 18].
والمساجد -بحق- هي مصانع الرجال ومفارخ الأبطال:
لا يُصنع الأبطال إلا *** في مساجدنا الفساح
في روضة القرآن في *** ظل الأحاديث الصحاح
شعب بغير عقيدة *** ورق يذريه الرياح
من خان حي على الصلاة *** يخون حي على الكفاح
فكيف بعد كل تلك الفضائل للمساجد لا يطير المؤمن سعادة بفتح أبوابها؟! إن باب المساجد يؤدي مباشرة -لمن أخلص ثم أتقن- إلى باب الجنة، فعن أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من غدا إلى المسجد أو راح، أعد الله له في الجنة نزلًا، كلما غدا أو راح"(متفق عليه)... وإن تعلق القلب بالمسجد يوصل حتمًا إلى ظل عرش الرحمن -عز وجل- يوم القيامة، فعنه أيضًا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "سبعة يظلهم الله في ظله، يوم لا ظل إلا ظله... ورجل قلبه معلق في المساجد"(متفق عليه)... وإن المشي للمسجد في الظلام فجرًا ومغربًا وعشاءً يورث النور التام يوم القيامة؛ فعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "بشر المشائين في الظلم إلى المساجد، بالنور التام يوم القيامة"(ابن ماجه)؛ فالحمد لله الذي فتح لنا أبواب مساجدنا، وأعادنا إليها مشتاقين تواقين إلى عبادته والتقرب منه.
***
لكن دوام هذه النعمة؛ نعمة فتح المساجد، مشروط بشرط؛ أن نشكرها ولا نكفرها، فيبارك الله لنا فيها ولا ينزعها منا مرة أخرى: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ)[إبراهيم: 7]، ويكون شكر نعمة المساجد بأن نعمرها ولا نهجرها، فكم من مسجد كان يجأر إلى الله بالشكوى إذ يخلو من المصلين خاصة في صلاة الفجر!... ويكون شكر نعمة المساجد بأن نحسن فيها العبادة والإخلاص ونكثر من التبتل إلى الله والابتهال، وأن يكون همنا مرضاة الله -تعالى- وجنته... ويكون شكر نعمة المساجد بأن تتآلف قلوب المصلين فيه فيتحدوا ولا يختلفوا، ويتعارفوا ولا يتنافروا...
***
وإن كان جميع المسلمين قد فرحوا بفتح المساجد وعودتهم إليها؛ فإن أشد الناس فرحًا بذلك هم الأئمة والخطباء، ولقد انعكس فرحتهم تلك في أول خطبة وأول جمعة لهم بعد فترة من حبسهم عن منابرهم وانقطاعهم عن الإمامة والخطابة... فكانت منهم الخطب التالية التي تفوح فرحًا وسعادة، وتقطر حمدًا وشكرًا، وتتألق إيمانًا وبرًا.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم