اقتباس
عُدْ يا عيد أخرى ولا تتركنا بغير فرحة، عُدْ يا عيد ولا تنسَ أن تمر على إخواننا المستضعفين، عُدْ يا عيد علَّ الله يخفف بك عنا ما بنا من آلام وأوجاع، عُدْ يا عيد ولا تخذل طفلًا يتمنى لقياك بكل قلبه.. ولا شيخًا ألِفَ عودك عامًا بعد عام...
جميل أن نلقاك يا عيدنا وأن تلقانا؛ فإن غيرنا قد حُرِموا لُقياك ورحلوا قبل أن تراهم... جميل يا عيد أن تأتي فتجدنا آمنين في بيوتنا؛ فإن أقوامًا لم تعد لهم دُورٌ ولا بيوت، يبيتون تحت القصف ويصبحون إلى القبور... جميل يا عيد أن نستقبلك في ملابسنا الزاهية وحللنا الجديدة وقد شبعت بطوننا من نِعَم ربها؛ فإن لنا إخواننا عرايًا ضامري البطون من الجوع قد تقطعت حلوقهم من الظمأ...
أتيتنا يا عيد ولم يبق لنا وجه يتبسم لك، أتيتنا يا عيد ولا ساق لنا تقوى أن تقوم لاستقبالك، أتيتنا يا عيد ولا مكان في قلوبنا ليفرح بك، أتيت وقد نزلت بساحتنا الفتن وكثرت بحلوقنا الغصص وحلت بأجسادنا الأسقام...
لكنا سنحاول أن نضحك في وجهك إن حيينا حتى يهل علينا هلالك لكنه ضحك المحزون، والسؤال: هل ستسعد أنت بنا حين تَقْدُمُ علينا؟! حين ترانا -يا عيد المسلمين- نفرح وإخواننا في الحزن غارقون.. نلهو وإخواننا بثقيل الأسلحة يبادون.. نلعب وإخواننا في السجون والمعتقلات يُعذبون..
هل ستسعد بنا وقد عُدنا إلى مثل ما كنا عليه قبل رمضان من غفلة ومعصية وقسوة قلب... فما غيَّر رمضان فينا من شيء؟! هل ستسعد بالمسلمين وقد عاد صاحب الكذب إلى كذبه، وصاحب الفتن إلى فتنه، وصاحب الربا إلى رباه، وصاحب الفتاة إلى فتاته، وصاحب الغش إلى غشه... وإن كانوا في رمضان قد تركوها صورة، فما هجرتها قلوبهم ولا تابت منها أفئدتهم... لسان حالهم جميعًا قول من قال يناجي خمره الذي حُرِمه في رمضان:
رمضان ولى هاتها يا ساقي *** مشتاقة تسعى إلى مشتاقِ
بالأمس قد كنا سجيني طاعة *** واليوم مَنَّ العيدُ بالإِطلاقِ
(البيتان لأحمد شوقي)
***
ولا ندري -يا عيدنا- أنفرح بقدومك أم نأسى لفراق شهر رمضان؟! أنسعد بلقياك أم نحزن لحال الأمة التي تلقاك؟! أهي هي الأمة التي كانت قبل أيام تاركة شهواتها وملذاتها وعاداتها وأهوائها امتثالًا لأمر الله، والآن صارت أمة لاهية لاعبة عابثة؟! أهم هم الرجال الذي كانوا من يوم وليلة يصفون أقدامهم في صلاة القيام، فصاروا فيك -يا عيدنا- يصطفون أمام المسلسلات والمباريات والأفلام؟! أهؤلاء الذين كانوا في رمضان يهرعون إلى المساجد عند كل أذان، هم الآن يهرولون إلى الغفلة والملاهي؟!
من هؤلاء الضائعون؟ أفهؤلاء المسلمون؟!
الفاسدون, المفسدون, الظالمون, المظلمون
الشاربون الدمع ممن في المجازر يصرخون
السائقون الخلق كالقطعان ساجدة العيون
مبهورة, منهورة بالسوط تجهل ما يكون
بلهاء روعها الصدى واجتاح قينتها الجنون
وأحالها عدمًا يُكبِّر للردى.. لو تسمعون!
من هؤلاء الخانعون؟ أفهؤلاء المسلمون؟!
أبدًا تكذِّبني وترجمني الحقائق والظنون!
(الأبيات لمحمود حسن إسماعيل)
***
أتنتظرون مني نصحًا أو توجيهًا! هل أقول: "لا تفرحوا؟!"، كلا، بل أقول: افرحوا، لكن فرحًا يحبه الله ولا يبغضه؛ (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) [يونس: 58]، افرحوا بما وفقكم الله -عز وجل- إليه من طاعة، افرحوا وأنتم ترون جموعًا قد عادت إلى ربها بعد أن كانت بعيدة، افرحوا حين يجتمع المسلمون بالثياب الجديدة في صلاة العيد وهو يهتفون: "الله أكبر الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله... الله أكبر الله أكبر ولله الحمد"، فما أعذبها من كلمات، وما أروعه من حشد، وما أجملها من فرحات تتساقط على قلوب المسلمين! وصدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين قال: "للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه" (متفق عليه)، فهذي فرحة فطرنا، ونحن في اشتياق لفرحة أخرى عند لقاء ربنا.
***
أيها المسلمون: واصلوا ما بدأتم؛ فمن كان جمع منكم زادًا لرمضان فلا يضيعه، فإنه يحكى أنه كان بمكة امرأة خرقاء اسمها: ريطة بنت عمرو كلما غزلت شيئًا نقضته بعد إبرامه وإتمامه وإحسانه فنزلت هذه الآية تخوِّف من مثل صنيعها: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا) [النحل: 92]، (ينظر: تفسير ابن كثير وتفسير القرطبي)، وحالها هو نفس حال من ألِفَ الصيام واستعذب القيام وصاحب القرآن شهرًا كاملًا حتى شعر في قلبه بلذة الطاعة والقرب من الله حتى كاد أن يكتمل بصدره صرح الإيمان، ثم هو ينتكس وينقلب على وجهه فيتخاذل عن القيام ويهجر الصيام ويخاصم القرآن! فذاك هو المخذول المحروم المتندم المتحسر يوم القيامة على ما هدمه بعد أن بناه!
ولقد سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن أحب عمل إلى الله -تعالى- فأجاب: «أحب الأعمال إلى الله تعالى أدومها، وإن قل»، ولئن سألت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- عن أحب الأعمال إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأجابتك: «كان أحب العمل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي يدوم عليه صاحبه» (متفق عليهما)، فكن -أخي المسلم- كما يحب الله، وكن كما يحب رسوله -صلى الله عليه وسلم-.
فمن شوال صوموا ستًا حتى لا تنقطعوا عما تعودتموه من الصيام، ومن الليل صلوا ولو ركعتين كي تصبحوا من المداومين على القيام، واجعلوا لأنفسكم صدقة يومية -وإن قلت- كي تكتبوا من المنفقين، ولا تحرموا أنفسكم وردًا قرآنيًا حتى لا تكونوا له هاجرين، وتزودوا من الطاعات حينًا بعد حين فتكونوا من المفلحين.
***
وفي الختام نناجيك: عُدْ يا عيد أخرى ولا تتركنا بغير فرحة، عُدْ يا عيد ولا تنسَ أن تمر على إخواننا المستضعفين، عُدْ يا عيد علَّ الله يخفف بك عنا ما بنا من آلام وأوجاع، عُدْ يا عيد ولا تخذل طفلًا يتمنى لقياك بكل قلبه.. ولا شيخًا ألِفَ عودك عامًا بعد عام.. ولا امرأة تريد أن تزيل بك عن زوجها مرارة الأيام.. ولا جائعًا ينتظر لتشبع بطنه فيك.. ولا مرضعًا تتلهف عليك لتجد لبنًا لرضيعها.. عُدْ يا عيد فالجميع في انتظارك؛ الحزين والموجوع والطريد والآمن والسعيد.. فلا تخذل الجميع.
***
وقد حاول الخطباء المشاركة في نداء العيد ليرجع ويعود على أمل أن ينشر الله به بيننا الخير والسرور، وفي ملتقى الخطباء قد جمعنا بعض نداءاتهم المتمثلة في خطبهم، وهذي طائفة منها:
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم