اقتباس
وإن هذه الحقيقة الخطيرة تُفسِّر كثيرًا من الأمور، كقول بعضهم متعجبين: "كيف نُهزَم ونتخلف ونصبح في ذيل الأمم ونحن مسلمون؟!"؛ فقد صار الأمر واضحًا؛ إن وسط صفوفنا منافقون مخذِّلون مراؤون، إن كثيرين منا مصابون من دواخلهم بأمراض أقعدتهم عن نصرة الدين ونصرة الأمة... فمتى نُقيت الصفوف ومُحِّصت القلوب جاء النصر والرفعة...
أهي أحجية؟! لكأنها أحجية تقول: "ما الشيء الذي إذا أمنته أصابك، وإن خفته سلمت منه؟!" والجواب: إنه "النفاق" -والعياذ بالله-، ولعلك تسأل: ومن صاحب هذه الأحجية؟ وأجيبك: هو الحسن البصري فقد قال عن النفاق: "ما خافه إلا مؤمن، ولا أمنه إلا منافق"(رواه البخاري).
وما من المؤمنين الفطناء رجل ولا أنثى إلا وهو يخاف النفاق على نفسه، حتى خير قرون الأمة؛ الصحابة -رضي الله عنهم-، يقول التابعي الجليل ابن أبي مليكة: "أدركت ثلاثين من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- كلهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم أحد يقول: إنه على إيمان جبريل وميكائيل"(رواه البخاري).
ومن هؤلاء الصحابة الخائفين من النفاق الفاروق: عمر بن الخطاب؛ فعن الحسن قال: هلك رجل من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكان جار حذيفة، فلم يصل عليه حذيفة، فبلغ ذلك عمر لحذيفة، وأقبل عليه: يموت رجل من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا تصلي عليه؟! فقال: "يا أمير المؤمنين، إنه منهم"، قال: فنشدتك الله، أأنا منهم أم لا؟ قال: "اللهم لا، ولا أؤمن منها أحدا بعدك"(مسند البزار، ومساوئ الأخلاق للخرائطي، واللفظ له).
فهؤلاء الصحابة الأطهار والتابعون الأبرار والصالحون الأخيار! فكيف بمن دونهم؟! وكيف بأهل زماننا؟! لقد ترددت كثيرًا قبل أن أجيب هذا السؤال قائلًا: إن عدد المنافقين في عصرنا قد يفوق عدد المؤمنين، بل إن المنافقين في عصرنا أضعاف عدد المؤمنين، فقد سمع حذيفة -رضي الله عنه- رجلًا يقول: اللهم أهلك المنافقين، فقال: "يا ابن أخي، لو هلك المنافقون لاستوحشتم في طرقاتكم من قلة السالك"(مدارج السالكين، لابن القيم)، وهذا في عصر من العصور الفاضلة، فكيف بعصرنا.
وقلَّ أن تجد رجلًا -إن برأ وعوفي من النفاق العقدي- إلا وهو مصاب ببعض خصال النفاق العملي أو -على الأقل- أصابته شظاياه! وهذا إبراهيم التيمي التابعي الجليل يقول: "ما عرضت قولي على عملي إلا خشيت أن أكون مكذبًا"(رواه البخاري)، يقصد منافقًا!
وإن هذه الحقيقة الخطيرة تُفسِّر كثيرًا من الأمور، كقول بعضهم متعجبين: "كيف نُهزَم ونتخلف ونصبح في ذيل الأمم ونحن مسلمون؟!"؛ فقد صار الأمر واضحًا؛ إن وسط صفوفنا منافقون مخذِّلون مراؤون، إن كثيرين منا مصابون من دواخلهم بأمراض أقعدتهم عن نصرة الدين ونصرة الأمة... فمتى نُقيت الصفوف ومُحِّصت القلوب جاء النصر والرفعة.
ومع أن الأمراض التي تفتك بالمجتمعات الإسلامية كثيرة متعددة، لكن يبقى النفاق هو الداء العضال الذي يحار فيه المعالجون ويعجز أمامه الأطباء الماهرون؛ ذلك أننا لا نعرف من المبتلى به فنداويه ومن المصاب به فنسعفه، فهو مرض مختفٍ عن العيون يسكن -كالداء الخبيث- في القلوب، بل إنك قد تجد المصاب به من ألين الناس لسانًا وأطلقهم وجهًا! وهو -في الحقيقة- من أخبث الناس قلبًا وأسوئهم سريرة! يختلون الدنيا بالدين، يلبسون للناس جلود الضأن من اللين، ألسنتهم أحلى من السكر، وقلوبهم قلوب الذئاب.
وهنا تكمن خطورة النفاق؛ وأي خطر أعظم من أن تُطعن من حيث تأمن! وتخان ممن فيهم تثق! وتُلدغ ممن كنت تأمل حمايتهم! ويحيك ضدك من كنت تظن أنهم يحيكون لك! وما أبعد الكفء وولى البليد إلا النفاق! وما فرَّق القلوب ومزق الأمة إلا النفاق! وما جلب الهزائم والمصائب والبلايا إلا النفاق!
وسل دم عثمان بن عفان الذي سال ظلمًا من كان السبب؟ وسل عائشة وعليًا ومن معهما من الأطهار من أوقع بينهم الحرب؟ واسأل قبلهم منافقي المدينة ما قالوا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعن الصحابة وما دبروا لهم من مكائد! ثم سل عن كل حرب نشبت بين المسلمين من أشعلها؟ ثم سل عن كل هزيمة ونكسة حلت بالأمة الإسلامية من جلبها؟
ومع شنيع جرائم المنافقين وفظيع أفعالهم فقد لا يعاقب أغلبهم في الدنيا على تلك الأفعال، والسبب: أن الناس لا تعلمهم فتعاقبهم، لكن الله يعلمهم وسيعاقبهم يوم القيامة لا محالة، وإن كانوا متخفين غير ظاهرين في الدنيا، فإنهم مفضوحون غدًا في يوم الفضائح: (يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) [الحديد: 13-15].
فما أشد حسرتهم يوم الحسرات؛ لقد كانوا في الدنيا يلبسون ثياب المؤمنين، ويتكلمون بلسان المؤمنين، ويدخلون المساجد أحيانًا مع المؤمنين، وقد يمسكون بالمصحف كالمؤمنين، لكن شتان يوم القيامة بين حالهم وبين حال المؤمنين المخلصين! هذا في عليين، وذاك في أسفل سافلين!
والنفاق نفاقان؛ عقدي وعملي، فالعقدي أن يُظْهِر الإيمان ويبطن الكفر، وأما النفاق العملي فأن يُظْهِر الصلاح ويخفي المكر والإصرار على الذنوب! أن يدعو بلسانه إلى ما يخالفه عمله! أن يقول ما لا يفعل، ويفعل عكس ما يقول!
ولقد حدثنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن مصير بعضهم يوم القيامة قائلًا: "يؤتى بالرجل يوم القيامة، فيلقى في النار، فتندلق أقتاب بطنه، فيدور بها كما يدور الحمار بالرحى، فيجتمع إليه أهل النار، فيقولون: يا فلان ما لك؟ ألم تكن تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر؟ فيقول: بلى، قد كنت آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه"(متفق عليه).
وحول ذلك الداء الدوي؛ داء النفاق قد عقدنا هذا الملف العلمي من مواد متناثرة متغايرة؛ مقروءة ومسموعة ومرئية... تحذِّر منه، وتوضح تاريخه وأسبابه، وتُفصِّل خطورته وقبحه، وتعلن عواقبه ومصائر أصحابه، وتفضح أهله بصفاتهم وعلاماتهم، وتبين سبل الوقاية منه، وطرائق العلاج للمبتلين به... فلعلها تكون ذكرى للأمة ويقظة لها من غفلتها، وقد انتظمت هذه المواد العلمية في المحاور الآتية:
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم