عناصر الخطبة
1/ منزلة القلب من باقي الأعضاء 2/ صلاح القلب وسعادته في عبادة الله 3/ الفرق بين قلب المؤمن وقلب المنافق 4/ خوف الصحابة من النفاق 5/ جعل الله القلوب على ثلاثة أقسام 6/ من آثار قسوة القلب 7/ نصيحة لأصحاب القلوب المريضةاقتباس
وللقلوب كذلك صفات: فقلب قاسٍ بمنزلة اليد اليابسة لا ينفعل، بمنزلة الحجر، وقلب مائع رقيق جدًا، بمنزلة الماء، وكلاهما ناقص، وأصح القلوب القلب الرقيق الصافي الصلب، فهو يرى الحق من الباطل بصفائه، ويقبله ويؤثره برقته، ويحفظه ويحارب عدوه بصلابته، وهذا أحب القلوب إلى الله، وهو القلب ..
الخطبة الأولى:
إنَّ الحمدَ لله نحمدُه ونستعينه ونستغفره، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَنْ يَهْدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له ومَنْ يُضْلِل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله. اللهم صلِّ على سيدنا محمد النبي، وأزواجِه أمهاتِ المؤمنين، وذرِّيته وأهل بيته، كما صليتَ على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعدُ: فإنَّ أصدقَ الحديث كتابُ الله تعالى، وخيرَ الهدي هديُ محمد صلى الله عليه وسلم، وشرَّ الأمور مُحْدثاتُها، وكلَّ محدَثة بدعةٌ، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عباد الله: اتقوا الله حق تقاته، وعظّموه حق تعظيمه، وأثنوا عليه بما هو أهله، وآمنوا به حق الإيمان، واحذروا مخالفة أوامر ربكم وعصيانه، واعلموا أن القلب أشرف عضو في الإنسان، وهو ملك الجوارح، بصلاحه يستقيم القول والعمل، وتستقيم الجوارح، والعكس بالعكس.
عباد الله: إن القلوب دول محكمة وخزائن مقفلة، لا يملك مفاتيحها إلا مالكها وحده، لذا يقول سيد المرسلين -صلوات الله وسلامه عليه- فيما ثبت عن عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ -رضي الله عنها-، قال: إنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "إِنَّ قُلُوبَ بَنِي آدَمَ كُلَّهَا بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ، كَقَلْبٍ وَاحِدٍ، يُصَرِّفُهُ حَيْثُ يَشَاءُ" ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "اللهُمَّ مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ صَرِّفْ قُلُوبَنَا عَلَى طَاعَتِكَ" [مسلم:2654].
والله تعالى يحذّر عباده من قسوة القلب، ومن الغفلة المهلكة، ويناديهم ويفتح لهم أبواب الأمل في رحمته، فقال -تبارك وتعالى-: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) [الحديد: 16]. وقال الله تعالى: (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) [البقرة:74].
عباد الله: إن صلاح القلب وسعادته وفلاحه في عبادة الله وحده، والاستعانة به دون ما سواه، قال تعالى: (فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ) [الشعراء:213]، وهلاك القلب وشقاءه، وضرره العاجل والآجل في عبادة المخلوق، والاستعانة به، فاحذروا ذلك، قال تبارك وتعالى: (لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولاً) [الإسراء:22].
فاستمسكوا -إخواني في الله- بالشرع الحنيف، واعلموا أن الوحي للنفوس والقلوب بمنزلة الأرواح للأجساد، فكما أن الجسد بلا روح لا يحيا ولا يعيش، فكذلك الروح والقلب بدون روح الوحي لا يصلح ولا يفلح (فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ) [غافر:14-15].
والعبد إن من لم يكن في قلبه نور الإيمان، فسيرى العزة بالأموال والأشياء، لا بالإيمان والأعمال، وبذلك يُحرَم من الأعمال الصالحة، ويتعلق قلبه بالفانية، وكلما ضعف الإيمان نقص الدين، فتوجّه الناس إلى غير الله، والعمل بلا يقين كالجسد بلا روح لا فائدة فيه، واليقين أن نعتقد أن جميع الفوز والفلاح، في الدنيا والآخرة، بيد الله وحده لا شريك له، وبذلك يصلح القلب فتستقيم الجوارح.
عباد الله: يقول ابن القيم -رحمه الله-: "وقد قسم الصحابة -رضي الله تعالى عنهم- القلوب إلى أربعة، كما صح عن حذيفة بن اليمان -رضي الله تعالى عنه-: القلوب أربعة: قلب أجرد فيه سراج يُزهر، فذلك قلب المؤمن، وقلب أغلف، فذلك قلب الكافر، وقلب منكوس، فذلك قلب المنافق، عرف ثم أنكر، وأبصر ثم عمي، وقلب تمده مادتان: مادة إيمان ومادة نفاق، وهو لما غلب عليه منهما".
فالقلب الصحيح هو الحي المخبت الواع اللين، السليم الذي قد صارت السلامة صفة ثابتة له، قد سلم من كل شهوة تخالف أمر الله ونهيه، ومن كل شبهة تعارض خبره، فسلم من عبودية ما سواه، وسلم من تحكيم غير رسوله، وسلم من أن يكون لغير الله فيه شرك بوجهٍ ما، بل قد خلصت عبوديته لله تعالى إرادة ومحبة، وتوكلاً وإنابة، وخشية وإخباتًا وخوفًا ورجاء، وخلص عمله لله، فإن أحب، أحب في الله، وإن أبغض، أبغض في الله، وإن أعطى أعطى لله، وإن منع منع لله، ولا يكفيه هذا حتى يسلم من الانقياد والتحكيم لكل من عدا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فهذا أزكى القلوب، وهو القلب السليم الذي لا ينجو يوم القيامة إلا من أتى الله به: (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الشعراء:88-89].
وهو قلب مضيء، يمشي صاحبه على نور من الله -سبحانه وتعالى-، قال تعالى: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ) [الأنعام:122] وقال -جل وعلا-: (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [الملك:22] ومثل هذا القلب كمثل نُورِ الإيمان الذي يقذفه الله -سبحانه وتعالى- فيه: (كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ) [النور:35].
والقلب السليم هو القلب الذي روي عنه في الحديث القدسي عن رب العزة أنه قال: "الْإِخْلَاصُ سِرٌّ مِنْ أَسْرَارِي أَوْدَعْتُهُ قَلْبَ مَنْ أَحْبَبْتُ مِنْ عِبَادِي" [مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح:1/ 62].
والنوع الثاني من أقسام القلوب: هو القلب اليابس الميت الذي لا حياة به، فهو قلب أغلف، وهو قلب الكافر، ومعنى أغلف: مختوم عليه ومطبوع عليه، فلا ينفذ إليه حق، ولا يعرف ربه، ولا يعبده بأمره وما يحبه ويرضاه، بل هو واقف مع شهواته ولذاته، ولو كان فيها سخط ربه وغضبه، فهو لا يبالي إذا فاز بشهوته وحظه رضي ربه أم سخط.
فهو متعبد لغير الله حبًّا وخوفًا ورجاءً، ورضًا وسخطًا، وتعظيمًا وذلاً، إن أحب أحب لهواه، وإن أبغض أبغض لهواه، وهواه أحب إليه وآثر عنده من رضا مولاه، فالهوى إمامه، والشهوة قائده، والجهل سائقه، والغفلة مركبه، والسيئات تجارته، والمعاصي بضاعته، والمحرمات سلعته، لا يستجيب لداعٍ ولا لناصح، ويتبع كل شيطان مريد، من الإنس والجن، فهذا أخبث القلوب وأنجسها وأركسها فـ(الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ) [غافر:35].
والقلب الثالث: قلب له حياة وبه علة، فهو السقيم المريض، فإن كان له مذكّر فهو إلى السلامة أدنى، وإن لم يكن له مذكّر فهو إلى العطب أدنى، وهو صيد من يسبق إليه، وقد جمع الله بين هذه القلوب الثلاثة في قوله -سبحانه-: (لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [الحج:53-54].
وهذا القلب منكوس، وهو قلب المنافق، والفرق بين الأغلف (قلب الكافر) والمنكوس (قلب المنافق): أن القلب الأغلف مختوم مقفل لا ينفذ إليه شيء، والمنكوس يمكن النفاذ إليه في الأصل، لكن لما انتكس صار غير قابل لبقاء الخير فيه، ولو بقي مستقيمًا لامتلأ، قال الله تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ) [المنافقون:3]، فالمنافقون آمنوا ثم انتكسوا، فقلب المنافق ليس مختومًا عليه من أصل الخلقة ولا مغلقًا لا يدخل فيه شيء؛ لكن لما انتكس صاحبه أصبح لا يقبل الحق وإن سمعه، فصار لا يمكن أن يمتلئ لانتكاسه، أما قلب الكافر فهو مختوم عليه كالحجر القاسي، لا ينفذ إليه شيء، وعليه فالقاسي يحتاج إلى أن يلين، والمنكوس يحتاج إلى أن يُقوَّم حتى يستقيم ويعود إلى حالته الطبيعية.
عباد الله: ولنحذر من التخليط بين الخير والشر، فالقلب المريض له مادتان: مادة إيمان، ومادة نفاق، تمده هذه مرة، وهذه أخرى، وهو لما غلب عليه منهما، ففيه من محبة الله تعالى، والإيمان به، والإخلاص له، والتوكل عليه، ما هو مادة حياته ونجاته، وفيه من محبة الشهوات وإيثارها، والحرص على تحصيلها، والحسد والكبر والعجب، وحب العلو والفساد في الأرض بالرياسة، والظلم، ما هو مادة هلاكه وعطبه، وهو ممتحن بين داعيين: داعٍ يدعوه إلى الله والدار الآخرة، وداعٍ يدعوه إلى العاجلة، وهو إنما يجيب أقربهما منه بابًا، وأعلاهما صوتًا، وأكثرها حضورًا.
ومثال ذلك: من يسمع القرآن ويصلي، ثم يخرج فيسمع الأغاني وينظر إلى النساء، فتختلط هذه المادة بتلك المادة، ولا يدري ما الذي يغلب في الأخير؛ لأن ضعف مادة الخير الذي ينتج من عدم خلوصها وصفائها قد يستدعي أن تغلبها المادة الأخرى، فتكون الخاتمة لها، وقد صح عنه -صلى الله عليه وسلم- من حديث سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ -رضي الله عنه- قوله: "وَإِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالخَوَاتِيمِ" [البخاري:6607].
فعلى العبد المؤمن أن يحذر غاية الحذر من الخلط بين الخير والشر، ومن هنا كان الصحابة -رضوان الله تعالى عليهم- يخافون سوء الخاتمة، حتى قال حنظلة : "نَافَقَ حَنْظَلَةُ" [مسلم:2750]؛ لأنه كان يظن أن ضعف الإيمان من النفاق! فكيف لو عاد هذا الضعف على الأصل بالإبطال؟! لذا خاف حنظلة -رضي الله تعالى عنه- منه، وهكذا كان الصحابة الكرام -رضي الله عنهم-، حتى قال أَبُو ذَرٍّ: "وَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي شَجَرَةٌ تُعْضَدُ" [أحمد:21516]، وقال أبو بكر -رضي الله عنه-: "لو أن إحدى قدمي في الجنة والأخرى خارجها، ما أمِنت حتى أضع الأخرى"، وقال ابن أبي مليكة: "أدركت ثلاثين من أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- كلهم يخشى على نفسه النفاق"، فهؤلاء الذين كانت قلوبهم بيضاء تزهر، متألقة بالنور، يخشون من المادة الخبيثة أن تدخل ولو قليلاً، فتفسد هذا الصفاء وهذا النور.
ومن سلامة قلوبهم أن عبد الرحمن بن عوف قُدم له إفطاره مما أحل الله، وكان صائمًا، فيبكي ويقول: "أخشى أن تكون طيباتنا عُجّلت لنا في هذه الحياة الدنيا" فقام وما ذاق منه شيئًا [أخرجه البخاري]، سبحان الله! لقد بلغ به الأمر أنه يخاف من الدنيا أن تُفسد عليه علمه وعمله وجهاده وهجرته مع الرسول -صلى الله عليه وسلم-!.
عباد الله: هناك فرق عظيم بين قلب المؤمن وبين قلب المنافق وشعور كل منهما، وهذا ما وصفه عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ -رضي الله عنه- قال: "المنافق يرى الذنب كذباب وقع على أنفه ثم طار" [أحمد:2497]، وإذا سُئل هذا الصنف عن إيمانه قال: الحمد لله! نحن مؤمنون! ومن ذا الذي يشك في إيماننا؟! ومن هذا الذي يطعن في ديننا؟! فهو مريض لا يشعر بمرضه، ولا يبحث له عن العلاج؛ فكيف يشفى إذاً؟، لكن المؤمن الصادق هو الذي وصفه النبي -صلى الله عليه وسلم- بأنه "يَرَى ذُنُوبَهُ كَأَنَّهُ فِي أَصْلِ جَبَلٍ يَخَافُ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ" [أحمد:2497]، ولهذا يسلم من ذلك بإذن الله -سبحانه وتعالى-.
وهذا القلب يسلِّم انقياده لما غلب عليه من الخير والشر؛ فإن غلبت على القلب مادة الخير تحول إلى قلب أجرد، وإن غلبت عليه المادة الأخرى انتكس وطبع عليه، وذلك لوقوع صاحبه في المعاصي، فلا تجعل قلبك مترددًا بين طاعة الله ورسوله، وبين طاعة الشيطان والهوى، فما يدريك لعل الحالة الأخرى هي التي يُختَم لك بها.
نسأل الله السلامة والعافية في الدين والدنيا والآخرة، ونسأله -سبحانه- أن يصلح لنا قلوبنا، ويهدي لنا نفوسنا، ويصلح لنا أحوالنا، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي بدأ الخلق ثم يعيده وهو على كل شيء قدير، الحمد لله الذي خلق الخلق ليعبدوه فيجازيهم بعملهم والله بما يعملون بصير، فسبحانه من رب عظيم وإله غفور رحيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في الخلق والملك والتدبير، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا.
أيها الناس: اتقوا الله ربكم حق تقاته، وعظموه حق تعظيمه، واحرصوا على سلامة قلوبكم من الشبهات والشهوات، وكل ما لا يرضي رب الأرض والسموات، واعلموا أن القلب الصحيح السليم ليس بينه وبين قبول الحق ومحبته وإيثاره سوى إدراكه، فهو الإدراك للحق، ثم الانقياد له والقبول، والقلب الميت القاسي لا يقبل الحق ولا ينقاد له، والقلب المريض إن غلبت عليه صحته التحق بالقلب السليم، وإن غلب عليه مرضه التحق بالقلب الميت القاسي.
كل ما يلقيه الشيطان في الأسماع من الألفاظ، وفي القلوب من الشُّبَه والشكوك، فهو فتنة لهذين القلبين، وقوة للقلب الحي السليم؛ لأنه يرد ذلك ويكرهه ويبغضه، ويعلم أن الحق في خلافه، ويُستدَل على معرفة ما في القلوب بحركة اللسان؛ فإن القلوب كالقدور تغلي بما فيها، وألسنتها مغارفها، فلسان المرء يغرف لك من قلبه: حلو وحامض، وعذب وأجاج، وحار وبارد، وطيب وخبيث، وحسن وقبيح، وحق وباطل، وخير وشر.
عباد الله: القلب السليم هو الذي سلم من الشرك والغلّ، ومن الحقد والحسد، ومن الشح والبخل، ومن الكبر والعلو، ومن حب الدنيا وحب الرياسة، فسلم من كل آفة تبعده عن الله، وسلم من كل شبهة تعارض خبره، وسلم من كل شهوة تعارض أمره، وسلم من كل إرادة تزاحم مراده، وسلم من كل قاطع يقطع عن الله والدار الآخرة، ولا تتم له سلامته مطلقًا حتى يسلم من خمسة أشياء: من شرك يناقض التوحيد، ومن بدعة تخالف السنة، ومن شهوة تخالف الأمر، ومن غفلة تناقض الذكر، ومن هوى يناقض الإخلاص.
والقلوب بالنسبة للاستجابة للحق تنقسم قسمين:
أحدها: قلوب مستجيبة للحق، فهذه بأرفع المنازل في الدنيا والآخرة.
والثاني: قلوب معرضة عن الحق، والإعراض مراتب: فالإعراض مرتبة. والتكذيب مرتبة فوقها، ثم الاستهزاء مرتبة فوقها، والمرتبة الأسوأ من ذلك هي الصد عنه كما قال الله -سبحانه-: (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ) [النحل:88]
عباد الله: والله -جل جلاله- جعل القلوب على ثلاثة أقسام: مخبتة، ومريضة، وقاسية. فالقلوب المخبتة: هي التي تنتفع بالقرآن، وتزكو به، والإخبات: سكون الجوارح على وجه التواضع والخشوع لله، والقلب المخبت ضد القاسي والمريض.
ومن آثار الإخبات: وَجَلُ القلوب لذكر الله -سبحانه-، والصبر على أقداره، والإخلاص في عبوديته، والإحسان إلى خلقه كما قال -سبحانه-: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ * الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) [الحج: 34، 35].
أما القلوب القاسية الحجرية، فهي التي لا تقبل ما يبث فيها، ولا ينطبع فيها الحق، ولا ترتسم فيها العلوم النافعة، ولا تلين للقيام بالأعمال الصالحة، فالقسوة يُبْس في القلب تمنعه من الانتفاع، وغِلْظَة تمنعه من التأثر بالنوازل، فلا يتأثر لغِلَظه وقساوته.
ومن آثار قسوة القلب: تحريف الكلم عن مواضعه، وعدم قبول الحق، والصدّ عنه، ونسيان ما ذُكِّر به، وهو ترك ما أمره الله به علمًا وعملاً، كما قال سبحانه: (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) [البقرة:74].
والقلوب المريضة هي التي يكون الحق ثابتًا فيها، لكن مع ضعف وانحلال، كما قال -سبحانه-: (لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ) [الحج:53].
فذكر الله -سبحانه- القلب المريض وهو الضعيف المنحل الذي لا تثبت فيه صورة الحق، ثم القلب القاسي اليابس الذي لا يقبلها ولا تنطبع فيه، فهذان القلبان شقيان معذبان، ثم ذكر القلب المخبت المطمئن إليه، وهو الذي ينتفع بالقرآن ويزكو به، وهذا الاختبار والامتحان مظهر لمختلف ما في القلوب الثلاثة، فالقاسية والمريضة ظهر خبؤها من الشك والكفر، والمخبتة ظهر خبؤها من الإيمان والهدى، وزيادة محبة الرب، وبغض الكفر والشرك.
عباد الله: وللقلوب كذلك صفات: فقلب قاسٍ بمنزلة اليد اليابسة لا ينفعل، بمنزلة الحجر، وقلب مائع رقيق جدًا، بمنزلة الماء، وكلاهما ناقص، وأصح القلوب القلب الرقيق الصافي الصلب، فهو يرى الحق من الباطل بصفائه، ويقبله ويؤثره برقته، ويحفظه ويحارب عدوه بصلابته، وهذا أحب القلوب إلى الله، وهو القلب المستقيم المخبت المطمئن: (فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ * الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) [الحج:34-35]، وقوله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) [الأنفال:2-3].
وإن أبغض القلوب إلى الله وأبعدها القلب القاسي، والقلب القاسي والمريض كلاهما منحرف عن الاعتدال، هذا بمرضه، وهذا بقسوته: (أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) [الزمر:22].
عباد الله: والقرآن شفاء وهدى ونور، وإن الإنسان ليعجب من هؤلاء أصحاب القلوب المريضة والقاسية، المعرِضُون عن دين الله، المعارضون له، ألا يتدبرون كتاب الله، ويتأملونه حق التأمل؟ فإنهم لو تدبروه لدلهَّم على كل خير، وصرفهم من كل شر، ولملأ قلوبهم من الإيمان، وأفئدتهم من اليقين، ولأوصلهم إلى المطالب العالية، والمواهب الغالية، ولبيَّن لهم الطريق الموصلة إلى الله وإلى جنته، والطريق الموصلة إلى العذاب، وبأي شيء تحذر؟، ولعرفهم بربهم سبحانه، وبأسمائه وصفاته وإحسانه، ولشوقهم إلى الثواب الجزيل، ورهبهم من العقاب الوبيل، أم قلوبهم مقفلة على ما فيها من الشر، فلا يدخلها خير أبدًا: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) [محمد:24].
والقلوب موضع نظر الرب -سبحانه-، ويعامل عباده على ما فيها، فرب العالمين لا ينظر إلى الأجساد والصُّوَر، وإنما ينظر إلى القلوب والأعمال، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللَّهَ لاَ يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ" [مسلم 2564]. ويقول عبد الله ابن مسعود -رضي الله عنه-: "اطلع الله علي قلوب العباد فوجد قلب محمد -صلى الله عليه وسلم- خير قلوب العباد لرسالته، ثم اطلع علي قلوب العباد بعده فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد فاختارهم لرسالته..". وهذا هو القلب السليم الذي لا يعرف الشرك، والغش ولا الحسد ولا البغضاء ولا الشحناء، وإنما هو قلب يطمئن بذكر الله.
ولذلك كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يخاف من تحول القلوب وانصرافها عن الخير، فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يُكثر أن يقول: "يا مقلب القلوب! ثبّت قلبي على دينك"، فقلت: يا رسول الله! آمنا بك وبما جئت به، فهل تخاف علينا؟ قال: "نعم، إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله يقلّبهما كما يشاء" [الترمذي 2140 وصححه الألباني].
فاللهم يا مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك، وارزقنا حسن تلاوة كتابك، وحسن العمل بشرعك، وصدق الإخلاص في عبادتك: (رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ) [آل عمران:53].
فجددوا -أيها الإخوة إيمانكم- واحذروا أمراض القلوب، وعودوا لربكم، ولا تغرنكم الحياة الدنيا.
نسأل الله كمال الإيمان به، وجميل التوكل عليه، وحسن الظن فيه، ونسأله أن يصلح لنا قلوبنا.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم