اقتباس
وكفاك ثم كفاك ثم كفاك إن دخلت المسجد النبوي أن تطأ بقدميك موضعًا وطئته قدما النبي -صلى الله عليه وسلم- وأقدام صحابته، أو أن تضع جبهتك ساجدًا في مكان وضعوا فيه جباههم، كفاك ثم كفاك أن تصلي في مسجد شهد تنزل جبريل -عليه السلام- بالقرآن الكريم على قلب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-...
ما أروعه من مشهد مؤثر مهيب؛ حين يدخل رسولنا -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه أبو بكر الصديق مشارف يثرب والتي أضاءت ونوَّرت بقدومه -صلى الله عليه وسلم- حتى صارت "المدينة المنورة"، فما أن تقع عليه -صلى الله عليه وسلم- أعينُ الأنصار المنتظرين المتلهفين حتى ترفرف قلوبهم فرجًا فكأن لها أجنحة، وتدمع عيونهم سرورًا وتمتلئ صدورهم بهجة وحبورًا... فهذا البراء بن عازب -رضي الله عنهما- يروي فيقول: "ثم قدم النبي -صلى الله عليه وسلم-، فما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء فرحهم برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، حتى جعل الإماء يقلن: قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-"(متفق عليه).
فما لبث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- طويلًا في المدينة حتى شرع في الإعداد لبناء مسجده النبوي، فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قدم المدينة، فنزل في علو المدينة في حي يقال لهم بنو عمرو بن عوف، فأقام فيهم أربع عشرة ليلة... فكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلي حيث أدركته الصلاة، ويصلي في مرابض الغنم، ثم إنه أمر بالمسجد، فأرسل إلى ملأ بني النجار فجاءوا، فقال: "يا بني النجار، ثامنوني بحائطكم هذا"، قالوا: لا، والله لا نطلب ثمنه إلا إلى الله، قال أنس: فكان فيه ما أقول: كان فيه نخل وقبور المشركين وخرب، فأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالنخل فقطع، وبقبور المشركين فنبشت، وبالخرب فسويت، قال: فصفوا النخل قبلة، وجعلوا عضادتيه حجارة، قال: فكانوا يرتجزون، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- معهم، وهم يقولون: "اللهم إنه لا خير إلا خير الآخره، فانصر الأنصار والمهاجره"(متفق عليه).
ويقال أنهم "لما أسسوه جعلوا قبلته إلى بيت المقدس، وجعلوا طوله مما يلى القبلة إلى مؤخره: مائة ذراع، وفى الجانبين الآخرين مثل ذلك فهو مربع، وقيل: كان أولًا سبعين ذراعًا في ستين ثم لما فتح -صلى الله عليه وآله وسلم- خيبر زاد عليه مثله، وجعل له ثلاثة أبواب: باب في مؤخره، وباب عاتكة المسمى بباب الرحمة، والباب الذى كان يدخل منه -صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم- المسمى بباب آل عثمان"( المنهل العذب المورود، لمحمود خطاب السبكي).
وعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- "أن المسجد كان على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مبنيًا باللبن، وسقفه الجريد، وعمده خشب النخل، فلم يزد فيه أبو بكر شيئًا، وزاد فيه عمر وبناه على بنيانه في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- باللبن والجريد وأعاد عمده خشبًا، ثم غيره عثمان فزاد فيه زيادة كثيرة وبنى جداره بالحجارة المنقوشة والقصة [هي ما يسميه أهل الشام كلسًا، وأهل مصر جيرًا، وأهل الحجاز جصًا]، وجعل عمده من حجارة منقوشة وسقفه بالساج"(رواه البخاري).
هكذا كان البناء؛ من جذوع النخل ومن الحجارة، فهو بناء بلغة عصرنا "متواضع" يفوقه أقل المساجد اليوم زينة وجمالًا ورونقًا وتجهيزات، لكن هذا البناء النبوي -وإن كان من حجارة وجذوع نخل- فقد شهد بين جنباته أطهر جيل مشى على وجه هذه الأرض، وقد استمعت جدرانه صوت النبي -صلى الله عليه وسلم- يصدع بالقرآن، وقد احتضن الصلوات والاعتكافات ودروس العلم وخروج السرايا والغزوات، وقد حنَّ منبره وهو من جذع نخلة إلى وقوف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عليه حتى بكى شوقًا، لقد حوى هذا البناء من الروحانيات والنفحات والبركات والفيوضات الربانية ما لم تحوه أغلب بقاع الأرض... فطوبى لها من جذوع نخل، وطوبى لها من لبنات.
ثم توالت بعد ذلك التوسيعات والتحسينات والإضافات والتجميلات عبر العصور الإسلامية كلها، فلا يكاد يمر عصر من العصور إلا وتضاف إلى المسجد النبوي إضافة.
***
ولهذا المسجد النبوي الشريف فضائل وخصائص وبركات، فأولها: أن الصلاة فيه مضاعفة الأجر؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه، إلا المسجد الحرام"(متفق عليه).
وثانيها: أن فيه طريقًا مؤدية إلى الجنة: فعن أبي هريرة أيضًا قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة"(رواه البخاري)، يقول النووي: "ذكروا في معناه قولين، أحدهما: أن ذلك الموضع بعينه ينقل إلى الجنة، والثاني: أن العبادة فيه تؤدي إلى الجنة"(شرح النووي على مسلم).
وثالثها: أنه أحد المساجد الثلاثة التي تُشد إليها الرحال: فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ومسجد الأقصى"(متفق عليه).
ورابعها: أنه آخر المساجد التي لها خصوصية وفضل على باقي مساجد الأرض، وهو آخر مسجد بناه نبي، فهذا أبو هريرة يروي فيقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "فإني آخر الأنبياء، وإن مسجدي آخر المساجد"(رواه مسلم)، يقول القاضي عياض شارحًا: هذا الحديث "ظاهر جلى في تفضيل مسجده لهذه العلة"(إكمال المـُعْلِمِ، للقاضي عياض).
وخامسها: أنه المسجد الذي أسس على التقوى المقصود بقول الله -تعالى-: (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ)[التوبة: 108]، فعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: دخلت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بيت بعض نسائه، فقلت: يا رسول الله، أي المسجدين الذي أسس على التقوى؟ قال: فأخذ كفا من حصباء، فضرب به الأرض، ثم قال: "هو مسجدكم هذا"؛ لمسجد المدينة(رواه مسلم).
وكفاك ثم كفاك ثم كفاك إن دخلته أن تطأ بقدميك موضعًا وطئته قدما النبي -صلى الله عليه وسلم- وأقدام صحابته -رضي الله عنهم-، أو أن تضع جبهتك ساجدًا في أماكن وضعوا فيها جباههم... كفاك ثم كفاك أن تصلي في مسجد شهد تنزل جبريل -عليه السلام- بالقرآن الكريم على قلب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-...
***
وفي خلال هذه القرون الطويلة والأزمنة المتعاقبة شهد المسجد النبوي أحداثًا ووقائع كثيرة ومتنوعة، ستعثر على كثير منها -إن شاء الله- خلال تصفحك لهذا الملف العلمي الشامل بمحاوره المتعددة والتي جاءت على الصورة التالية:
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم