د. خديجة أبوري
بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم:
يعد بناء المسجد من أولى المهام التي بادر بها النبي الكريم صلى الله عليه وسلم يوم هاجر المدينة، لما له من مكانة هامة ترتبط بوظيفته السامية التي تسهم في بناء الشخصية المسلمة وتنشئتها. وتنفيذا لأمر الله تعالى الذي رغب في بناء المساجد وعمارتها حين قال: (إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين) [1]، كما رغب النبي صلى الله عليه وسلم في بنائه ووعد فاعل ذلك بالأجر والثواب الجزيل فقال: ” من بنى مسجدا لله بنى الله له في الجنة مثله ” [2].
إن المسجد في العهد النبوي لم يكن دوره محصورا على آداء العبادات وحدها؛ بل كان له دور مهم في المجتمع، وفي هذا المقال سأتحدث فيه -كما هو مبين من عنوانه- على الآتي:
أولا: البعد السياسي للمسجد في العهد النبوي (نماذج ثلاثة منتقاة).
ثانيا: البعد الاجتماعي للمسجد في العهد النبوي (نماذج ثلاثة منتقاة).
وهذا أوان الشروع في المقصود فأقول وبالله التوفيق:
أولا: البعد السياسي للمسجد في العهد النبوي (نماذج ثلاثة منتقاة).
1-المسجد مكان لاستقبال الوفود:
وفد على النبي صلى الله عليه وسلم خاصة بعد فتح مكة وفود عدة، ولم يكن له مكان يستقبلهم فيه سوى المسجد، فقد أنزل صلى الله عليه وسلم وفد ثقيف في المسجد وبنى لهم خياما؛ لكي يسمعوا القرآن ويروا الناس إذا صلوا [3] ، وغيرها من الوفود التي وفدت عليه.
2-المسجد مكان لحسم النزاعات:
كان المسجد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم مكانا لحسم الخلافات فعن عبد الله بن كعب بن مالك، عن كعب رضي الله عنه: أنه تقاضى ابن أبي حدرد دينا كان له عليه في المسجد، فارتفعت أصواتهما حتى سمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيته، فخرج إليهما حتى كشف سجف حجرته، فنادى: يا كعب، قال: لبيك يا رسول الله، قال: ضع من دينك هذا. وأومأ إليه: أي الشطر، قال: لقد فعلت يا رسول الله، قال: “قم فاقضه”[4]
3-المسجد مكان لتطبيب جرحى الغزوات:
كما كان المسجد في عهده صلى الله عليه وسلم مكانا لتطبيب جرحى المعارك والغزوات التي كانت تدور بين المسلمين وأعدائهم، فقد كان بالمسجد خيمة معدة لمعالجة الجرحى، وتضميدهم. فعن عائشة -رضي الله عنها-، قالت: “أصيب سعد يوم الخندق رماه رجل من قريش يقال له حبان ابن العرقة: رماه في الأكحل فضرب النبي -صلى الله عليه وسلم- خيمة في المسجد ليعوده من قريب..” [5].
ثانيا: البعد الاجتماعي للمسجد في العهد النبوي (نماذج ثلاثة منتقاة ).
1-المسجد مكان لإيواء الفقراء الذين لا مقر لهم:
لقد خصص النبي صلى الله عليه وسلم في مسجده الذي بناه بالمدينة مكانا خاصا لإيواء الفقراء الذين لا مسكن لهم، كما هو الشأن بالنسبة لأهل الصفة الذين هاجروا إلى المدينة ، تاركين وراءهم الثروة والمال في مكة ، فرارا بدينهم من طغيان المشركين، ولم يكن لهم مأوى، فجعل لهم مكانا في مؤخر المسجد اتخذ فيما بعد مكانا لنزول الغرباء الذين لا مأوى لهم قال ابن حجر : ” الصفة: هي مكان في مؤخر المسجد النبوي، مظلل، أُعد لنزول الغرباء فيه ممن لا مأوى له ولا أهل” [6].
2-المسجد مكان لتقسيم الأموال على ذوي الحاجات:
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم ترده الأموال وهو في المسجد؛ فكان حريصا على تقسيمها على ذوي الحاجات ، فإن لم تكن هناك أموال وكان للناس حاجة دعا الأغنياء إلى التصدق والإنفاق على الفقراء، جاء في صحيح البخاري من حديث المنذر بن جرير، عن أبيه ، قال: ” كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدر النهار ، قال: فجاءه قوم حفاة عراة، مجتابي النمار، أو العباء ، متقلدي السيوف، عامتهم من مضر، بل كلهم من مضر، فتمعر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى بهم من الفاقة، فدخل ثم خرج، فأمر بلالا فأذن، وأقام فصلى ، ثم خطب، فقال: ” (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة) [7] إلى آخر الآية: ( إن الله كان عليكم رقيبا) [8] والآية التي في الحشر: (اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله) [9] . تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بره ،من صاع تمره، حتى قال: ولو بشق تمرة ،قال: فجاء رجل من الأنصار بصرة كادت كفه تعجز عنها، بل قد عجزت، قال: ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب، حتى رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل كأنه مذهبة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” من سن في الإسلام سنة حسنة، فله أجرها وأجر من عمل بها بعده ،من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة، كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء” [10].
3-المسجد مكان لعقد أو إعلان النكاح:
اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم المسجد مكانا ليعلن فيه النكاح لحديث عائشة – رضي الله عنها – قالت: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “أعلنوا هذا النكاح، واجعلوه في المساجد، واضربوا عليه بالدفوف” [11].
الخاتمة
وفي ختام هذا المقال خلصت إلى الآتي:
1- كان بناء المسجد من أولى المهام التي بادر بها النبي الكريم صلى الله عليه وسلم يوم هاجر المدينة.
2- لم يكن دور المسجد في العهد النبوي محصورا على آداء العبادات وحدها؛ بل كان له دور مهم في المجتمع وقد اقتصرت في هذا المقال على بعديه السياسي والاجتماعي.
3-من الأبعاد السياسية للمسجد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم التي ذكرتها .
أنه يعد مكانا لاستقبال الوفود التي وفدت عليه صلى الله عليه وسلم .
كذلك هو مكان لحسم النزاعات الحاصلة بين الصحابة.
كما يعد مكانا لتطبيب جرحى الغزوات الواقعة بين المسلمين والعدو.
4-من الأبعاد الاجتماعية للمسجد ي عهد النبي صلى الله عليه وسلم التي ذكرتها:
أ-أنه يعد مكانا لإيواء الفقراء الذين لا مأوى لهم.
ب- يعد مكانا لتقسيم الأموال على ذوي الحاجات.
ت-كما يعد مكانا لعقد أو إعلان النكاح.
****************************
هوامش المقال:
[1] – سورة التوبة الآية: (18).
[2] – أخرجه بهذا اللفظ مسلم في صحيحه (2 /1360-1361)، كتاب: الزهد والرقائق، باب: فضل بناء المساجد، برقم: (44) (533).
[3] – زاد المعاد (3 /521).
[4] – أخرجه البخاري ي صحيحه (1/ 164) كتاب: الصلاة، باب: التقاضي والملازمة في المسجد، برقم: (457)، ومسلم في صحيحه (2/732)، كتاب: المساقاة والمزارعة، باب: استحباب الوضع من الدين برقم: (1558) واللفظ للبخاري.
[5] – أخرجه البخاري ي صحيحه (3/ 119)، كتاب: المغازي، باب: باب : مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من الأحزاب، برقم: (4122).
[6] – فتح الباري (6/ 727).
[7] – سورة النساء من الآية: (1).
[8] – سورة النساء من الآية: (1).
[9] – سورة الحشر من الآية: (18).
[10] – أخرجه مسلم في صحيحه (1/ 451)، كتاب: الزكاة، باب: الحث على الصدقة ولو بشق تمرة، برقم: (1017).
[11] – أخرجه الترمذي ي سننه (2/ 384)،كتاب: أبواب النكاح، باب: ما جاء ي إعلان النكاح، برقم: (1089).
******************************
لائحة المصادر والمراجع :
الجامع الصحيح. أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، قام بشرحه وتصحيحه وتنقيحه: محب الدين الخطيب، ورقم كتبه وأبوابه وأحاديثه: محمد فؤاد عبد الباقي، وراجعه وقام بإخراجه وأشرف على طبعه: قصي محب الدين الخطيب، المطبعة السلفية القاهرة. ط 1/ 1400.
الجامع الكبير. لأبي عيسى محمد بن عيسى الترمذي. حققه وخرج أحاديثه وعلق عليه: د بشار عواد معروف. دار الغرب الإسلامي. ط1/ 1996مــ.
زاد المعاد في هدي خير العباد. لابن القيم الجوزية. حقق نصوصه وخرج أحاديثه وعلق عليه: شعيب الأرنؤوط- عبد القادر الأرناؤوط. مؤسسة الرسالة بيروت. ط3/ 1418-1998.
صحيح مسلم. وفي طليعته: غاية الابتهاج لمقتفي أسانيد كتاب مسلم بن الحجاج للزبيدي. دار طيبة. الرياض. ط1/ 1427-2006.
فتح الباري شرح صحيح البخاري. لأحمد بن علي بن حجر العسقلاني. رقم كتبه وأبوابه وأحاديثه: ذ محمد فؤاد عبد الباقي . دار السلام الرياض. ط1/ 1421هـ- 2000مـ.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم