اقتباس
القلب مع خطورته وسيادته فوق الجوارح هو بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبه كيف يشاء، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص يقول: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن، كقلب واحد، يصرفه حيث يشاء"..
قالوا: "اليوم العالمي لصحة القلب"، وقلنا: إن صحة الجسد كله متوقفة على صحة القلب؛ فالقلب هو مضخة الغذاء التي تمد الجسد كله بما يلزم لحياته من دماء محملة بالغذاء والأكسجين، وكل عضو لا يصله ما يكفيه من دماء القلب عبر الشرايين المخصصة له يتضرر أو يتلف ويتوقف عن العمل... والقلب ما دام يعمل بشكل صحيح فإننا نحكم بأن الإنسان ما زال حيًا ولو تضررت غيره من الأعضاء، بل ولو قطعت يدٌ أو رِجلٌ أو أذن... لكن إذا توقف القلب نفسه حكمنا بموت الإنسان ولو كان الجسد كله صحيحًا كاملًا سليمًا لم يجرح منه عضو...
وكما أن القلب هو أهم الأعضاء التشريحية في جسم الإنسان والمسئول الأول عن استمرار حياته، فإن القلب كذلك هو أمير الجوارح المطاع ومَلِكها المتوج وقائدها الآمر، صلاحه صلاحها وفساده فسادها، هذا شيء قرره رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ألا وإن في الجسد مضغة: إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب"(متفق عليه). لذلك فإن القلب هو الفيصل عند الله؛ ليس المظاهر ولا الأجساد، فعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم"(رواه مسلم)... ولذلك فإن أخطر الأمور؛ أمر الإيمان والكفر متوقف كذلك على القلب، قال -تعالى-: (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)[النحل: 106].
وكل أمر خطير أو حقير مرده وأصله إلى القلب، وهذا من معنى قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى"(متفق عليه).
والقلب مع خطورته وسيادته فوق الجوارح هو بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبه كيف يشاء، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص يقول: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن، كقلب واحد، يصرفه حيث يشاء"، ثم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك"(رواه مسلم)... فالله -عز وجل- هو المتصرف الأوحد في هذه القلوب يهديها: (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ)[التغابن: 11]، أو يضلله يجعل عليها غشاوة: (خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ)[البقرة: 7].
وهذه القلوب أنواع، فمنها: القلب السليم: (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)[الشعراء: 88-89]، ومنها القلب المريض: (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا)[البقرة: 10]، ومنها القلب المنيب: (هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ)[ق: 33]... يقول الغزالي: "والقلوب في الثبات على الخير والشر والتردد بينهما ثلاثة: قلب عمر بالتقوى وزكا بالرياضة وطهر عن خبائث الأخلاق... القلب الثاني: القلب المخذول المشحون بالهوى المدنس بالأخلاق المذمومة والخبائث المفتوح فيه أبواب الشياطين المسدود عنه أبواب الملائكة... القلب الثالث قلب [متنازع بين الخير والشر] تبدو فيه خواطر الهوى فتدعوه إلى الشر فيلحقه خاطر الإيمان فيدعوه إلى الخير فتنبعث النفس بشهوتها إلى نصرة خاطر الشر..."(الإحياء، للغزالي).
وينصحك أطباء الأبدان إذا ما أردت قلبًا قويًا صحيحًا بالنشاط وعدم الخمول وممارسة الرياضة يوميًا، وبالبعد عن التدخين، والحفاظ على الوزن، وتناول طعام صحي، والنوم الجيد والبعد عن التوتر... وأطباء القلوب كذلك يرفعون شعار: "الوقاية خير من العلاج"، ويحذرونك مما يؤذي القلب ويمرضه ويفسده، فمن ذلك: إهمال الطاعات واقتراف المعاصي: فإن كانت كل طاعة تزيد القلب صلاحًا ونقاءً، فكذلك فإن كل معصية تغطي القلب بالران والقسوة وتصيبه بالمرض، ألم يقل الجليل -سبحانه وتعالى-: (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)[المطففين: 14]، وصدق من قال:
رأيت الذنوب تميت القلوب *** وقد يــــورث الذل إدمانها
وترك الذنوب حياة القلوب *** وخـــير لنفســك عصيانها
ومنها: الاستجابة للفتن ومطاوعتها والتلبس بها: فإن من تلطخ بكل فتنة تعرض له اسود قلبه وقسى، والعكس بالعكس، فعن حذيفة قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودًا عودًا، فأي قلب أشربها، نكت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها، نكت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين، على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مربادًا كالكوز، مجخيًا لا يعرف معروفًا، ولا ينكر منكرًا، إلا ما أشرب من هواه"(رواه مسلم).
ومنها: فضول الطعام والشراب والكلام والنوم والنظر والمخالطة... وكل فضول، فإنها سموم للقلوب، توهنها وتورثها القسوة وتسبب لها المرض وتقطع سيرها إلى الله -عز وجل-، وهي أبواب المعاصي والذنوب... ولطالما حذرنا النبي -صلى الله عليه وسلم- منها؛ فقال عن فضول الطعام: "ما ملأ آدمي وعاء شرًا من بطن، حسب الآدمي، لقيمات يقمن صلبه، فإن غلبت الآدمي نفسه، فثلث للطعام، وثلث للشراب، وثلث للنفس"(رواه ابن ماجه). وعن فضول الكلام قال -صلى الله عليه وسلم-: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت"(متفق عليه)، ولما سأله معاذ: يا رسول الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ أجابه: "ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم -أو قال: على مناخرهم- إلا حصائد ألسنتهم؟"(رواه النسائي في الكبرى).
وعن فضول النظر يقول الله -عز وجل-: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ)[النور: 30-31]، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعلي: "يا علي لا تتبع النظرة النظرة، فإن لك الأولى وليست لك الآخرة"(رواه أبو داود)، فالأولى هو فيها معذور، أما الثانية ففضول لا عذر فيها.
فاحتط -يا أخي- لقلبك، ولا يغلبنك هواك، وخالف نفسك، واجعل همك مرات مولاك، وهذه نصيحة من مالك بن دينار يقول فيها: "رحم الله عبدًا قال لنفسه: ألست صاحبة كذا؟ ألست صاحبة كذا؟ ثم ذمها، ثم خطمها، ثم ألزمها كتاب الله -تعالى-، فكان لها قائدًا"( اعتلال القلوب للخرائطي)... واعلم أنك متى اقتربت من الحرام وقعت فيه ففسد قلبك، عن النواس بن سمعان أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ضرب الله مثلًا صراطًا مستقيمًا، على كتفي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعلى الصراط داع يدعو يقول: يا أيها الناس اسلكوا الصراط جميعًا ولا تعوجوا، وداع يدعو على الصراط، فإذا أراد أحدكم فتح شيء من تلك الأبواب، قال: ويلك لا تفتحه فإنك إن تفتحه تلجه، فالصراط: الإسلام، والستور: حدود الله، والأبواب المفتحة محارم الله، والداعي الذي على رأس الصراط كتاب الله، والداعي من فوق واعظ الله يذكر في قلب كل مسلم(رواه الحاكم في مستدركه)، فاطع الواعظ، واستجب للداعي، ولا يستخفنك الشيطان فترجع بقلبك ممزق أو مخذول!
والحق أن للقلب أمراضًا مادية حسية تشريحية كما أن له أمراضًا روحية، وغالبًا ما تكون هذه مرتبطة بتلك؛ بمعنى أنه في كثير من الأحيان يكون للمرض القلبي الجسدي سببًا روحيًا في حدوثه؛ فإذا ما غضب الإنسان وانفعل قلبه بالمشاعر الثائرة الفائرة، فربما كان هذا سببًا في الجلطات التي تصيب القلب أو التي تحدث في الشرايين التي تحمل دماء القلب إلى سائر الأعضاء... وإذا ضعف الإيمان في القلب فامتلأ قلقًا وتوجسًا وخوفًا على مستقبله ورزقه... كان ذلك سببًا في تلف القلب وتضرر صماماته... وإذا قنط القلب من رحمة ربه ويأس من فرجه -عياذًا بالله- فأصابته الكآبة، كان ذلك سببًا قويًا فيما يسميه أطباء الأبدان بـ"احتشاء عضلة القلب"، وزيادة ترسب صفائح الدم، وحدوث هبوط في القلب... وهكذا تجد لكثير من أمراض القلب البدنية أسبابًا روحية إيمانية.
وفيما يلي خطب تم انتقاؤها للاستفادة منها حول الموضوع والتوسع فيه، فنفعك الله بها.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم