عناصر الخطبة
1/سبب نشأة العصبيات بين البشر 2/العصبية وأثرها على عبودية الله 3/مقياس البشر على الإسلام والأعمال لا الأجناس والألوان 4/أثر الفخر بالوطن والقبيلة 5/حب الوطن والقبيلة أمر محمود 6/موقفنا من أهل العصبية الجاهلية 7/العصبية الجاهلية سبيل للتفرق والاختلاف 8/من أشكال العصبية الجاهلية في الوقت الحاضراقتباس
لِأَجْلِ ذَلِكَ ظَهَرَتِ الْعَصَبِيَّاتُ فِي الْبَشَرِ لِلْعِرْقِ، أَوْ لِلْوَطَنِ، أَوْ لِلِّسَانِ، أَوْ لِلَّوْنِ، وَأَكْثَرُ حُرُوبِ الْبَشَرِ وَتَكَتُّلَاتِهِمْ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَبَعْدَهُ كَانَ مَبْنَاهَا عَلَى هَذَا الْأَسَاسِ الَّذِي لَا يُحِبُّه اللهُ -تعالى- وَلَا يَرْضَاهُ، وَتَرْفُضُهُ شَرَائِعُهُ وَتَأْبَاهُ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّعَصُّبَ لِلْعِرْقِ، أَوْ لِلْوَطَنِ، أَوْ لِلِّسَانِ، أَوْ لِلَّوْنِ سَبَبٌ لِإِقْصَاءِ الدِّيَانَةِ، وَتَعْطِيلِ الشَّرِيعَةِ، وَالاسْتِكْبَارِ عَنْ عِبَادَتِهِ -تعالى-، وَرَفْضِ...
الخطبة الأولى:
الْحَمْدُ للهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلعمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71].
أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ خَيْرَ الْكَلَامِ كِتَابُ اللهِ -تعالى-، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَيُّهَا النَّاسُ: خَلَقَ اللهُ -تعالى- آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ تُرَابٍ، وَأَنْسَلَ جَمِيعَ الْبَشَرِ مِنْهُ، وَهَذَا التُّرَابُ الَّذِي خُلِقَ مِنْهُ آدَمُ مُخْتَلِفٌ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْأَرْضِ؛ فِي لَوْنِهَا وَطَبِيعَتِهَا، وَسُهُولَتِهَا وَصُعُوبَتِهَا، وَطَيِّبِهَا وَخَبِيثِهَا، فَكَانَ بَنُو آدَمَ عَلَى نَحْوِ الْأَرْضِ؛ فِيهِمُ الْأَبْيَضُ وَالْأَحْمَرُ وَالْأَسْوَدُ وَبَيْنَ ذَلِكَ، وَفِيهِمُ السَّهْلُ وَالحَزْنُ وَبَيْنَ ذَلِكَ، وَفِيهِمُ الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ؛ لَكِنَّ أَصْلَهُمْ وَاحِدٌ(1).
وَالْإِنْسَانُ بِطَبْعِهِ أَكْثَرُ مَيْلاً إِلَى مَنْ يُشَاكِلُهُ وَيُمَاثِلُهُ فِي لَوْنِهِ أَوْ لِسَانِهِ أَوْ عِرْقِهِ أَوْ قَبِيلَتِهِ أَوْ مَوْطِنِهِ، وَيَقْتَرِبُ مِنْهُ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ، وَيَأْنَسُ بِهِ مَا لَا يَأْنَسُ بِسِوَاهُ.
لِأَجْلِ ذَلِكَ ظَهَرَتِ الْعَصَبِيَّاتُ فِي الْبَشَرِ لِلْعِرْقِ، أَوْ لِلْوَطَنِ، أَوْ لِلِّسَانِ، أَوْ لِلَّوْنِ، وَأَكْثَرُ حُرُوبِ الْبَشَرِ وَتَكَتُّلَاتِهِمْ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَبَعْدَهُ كَانَ مَبْنَاهَا عَلَى هَذَا الْأَسَاسِ الَّذِي لَا يُحِبُّه اللهُ -تعالى- وَلَا يَرْضَاهُ، وَتَرْفُضُهُ شَرَائِعُهُ وَتَأْبَاهُ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّعَصُّبَ لِلْعِرْقِ، أَوْ لِلْوَطَنِ، أَوْ لِلِّسَانِ، أَوْ لِلَّوْنِ سَبَبٌ لِإِقْصَاءِ الدِّيَانَةِ، وَتَعْطِيلِ الشَّرِيعَةِ، وَالاسْتِكْبَارِ عَنْ عِبَادَةِ اللهِ -تعالى-، وَرَفْضِ الخُضُوعِ لِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَالتَّكَبُّرِ عَلَى خَلْقِهِ.
وَمَا الَّذِي جَعَلَ إِبْلِيسَ يَهْبِطُ مِنْ أَعْلَى دَرَجَاتِ الْعُبُودِيَّةِ للهِ -تعالى- إِلَى أَسْفَلِ دَرَكَاتِ الِاسْتِكْبَارِ وَالْعِنَادِ، وَيَخْرُجُ مِنْ رِضَا اللهُ -تعالى- إِلَى سَخَطِهِ عَلَيْهِ إِلَّا اغْتِرَارُهُ بِنَفْسِهِ، وَعَصَبِيَّتُهُ لِأَصْلِهِ (قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ * قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ)[الأعراف:12-13].
فَاخَرَ بِأَصْلِهِ، وَاسْتَكْبَرَ عَنْ عِبَادَةِ رَبِّهِ؛ فَعَاقَبَهُ اللهُ -تعالى- بِالصَّغَارِ الدَّائِمِ، وَالْعَذَابِ الْخَالِدِ.
إِنَّ مِنْ عَدْلِ اللهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَهُوَ الْحَكَمُ الْعَدْلُ- أَنْ جَعَلَ حِسَابَ الْبَشَرِ عَلَى أَعْمَالِهمْ، وَلَا يُحَاسَبُونَ عَلَى أَجْنَاسِهِمْ وَأَلْوَانِهِمْ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ كَسْبِهِمْ، فَقَدْ يَكُونُ السَّادَةُ وَالْكُبَرَاءُ فِي النَّارِ بِكُفْرِهِمْ وَاسْتِكْبَارِهِمْ؛ كَأَبِي جَهْلٍ وَأَبِي لهَبٍ، وَيَكُونُ الْعَبِيدُ وَالْإِمَاءُ فِي الْجَنَّةِ بِإِيمَانِهِمْ وَعَمَلِهِمُ الصَّالِحِ؛ كَبِلَالٍ وَيَاسِرٍ وَسُمَيَّةَ.
وَلمَّا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ: (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً) كَانَ الْجَوَابُ: (قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ * بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)[البقرة:80-82].
وَلمَّا قَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى: (نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ)[المائدة:18] كَانَتِ الْحُجَّةُ الدَّامِغَةُ: (فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَللهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ المَصِيرُ)[المائدة:18].
إِنَّ كُلَّ فَخْرٍ بِغَيْرِ الْإِسْلَامِ فَهُوَ مَرْفُوضٌ، وَكُلَّ عَصَبِيَّةٍ لَيْسَتْ عَلَى دِينِ اللهِ -تعالى- فَهِيَ مَذْمُومَةٌ؛ فَالْوَلَاءُ وَالْبَرَاءُ، وَالْحُبُّ وَالْبُغْضُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ للهِ وَفِي اللهِ، وَذَلِكَ أَوْثَقُ عُرَى الْإِيمَانِ، وَلَا فَخْرَ إِلَّا بِالْإِسْلَامِ (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ)[فصِّلت:33].
وَهَذَا الِانْتِسَابُ لِلْإِسْلَامِ نِعْمَةٌ مِنَ اللهِ -تعالى- عَلَى عِبَادِهِ؛ لِأَنَّهُ انْتِسَابٌ إِلَى مَا يُحِبُّهُ اللهُ -تعالى- وَيَرْضَاهُ، وَيَكُونُ سَبَبًا لِلْفَلَاحِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ (هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ)[الحج:78].
وَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بِأَنْ يَفْخَرَ المُسْلِمُ بِإِسْلَامِهِ، وَحَذَّرَهُ مِنِ افْتِخَارِهِ بِآبَائِهِ وَأَجْدَادِهِ؛ فَقَالَ -عليه الصلاة والسلام-: "...مَنِ ادَّعَى دَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ فَهُوَ مِنْ جُثَى جَهَنَّمَ"، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى؟ قَالَ: "وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى، تَدَاعُوا بِدَعْوَى اللهِ الَّذِي سَمَّاكُمُ المُؤْمِنِينَ المُسْلِمِينَ، عِبَادَ اللهِ" (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ)(2).
وَخَطَبَ -عليه الصلاة والسلام- فِي النَّاسِ، فَقَالَ: "إِنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمُ عُبِّيَّةَ الجَاهِلِيَّةِ، وَفَخَرْهَا بِالآبَاءِ: مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ، وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ، أَنْتُمْ بَنُو آدَمَ، وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ، لَيَدَعَنَّ رِجَالٌ فَخْرَهُمْ بِأَقْوَامٍ، إِنَّمَا هُمْ فَحْمٌ مِنْ فَحْمِ جَهَنَّمَ، أَوْ لَيَكُونُنَّ أَهْوَنَ عَلَى اللهِ مِنَ الجِعْلَانِ الَّتِي تَدْفَعُ بِأَنْفِهَا النَّتَنُ" (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ)(3).
قَالَ الْقَارِي -رحمه الله تعالى-: "شَبَّهَ المُفْتَخِرِينَ بِآبَائِهِمُ الَّذِينَ مَاتُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِالْجِعْلَانِ، وَآبَاءَهُمُ الُمفْتَخَرَ بِهِمْ بِالْعَذِرَةِ، وَنَفْسَ افْتِخَارِهِمْ بِهِمْ بِالدَّفْعِ وَالدَّهْدَهَةِ بِالْأَنْفِ، وَالمَعْنَى: أَنَّ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ وَاقِعٌ الْبَتَّةَ: إِمَّا الِانْتِهَاءُ عَنِ الِافْتِخَارِ أَوْ كَوْنُهُمْ أَذَلَّ عِنْدَ اللهِ -تعالى- مِنَ الجِعْلَانِ المَوْصُوفَةِ"(4) ا.هـ.
وَالْفَخْرُ بِالْآبَاءِ وَالْأَجْدَادِ، أَوْ بِالْوَطَنِ وَالتُّرَابِ يُقَوِّي العِزْوَةَ بِالْقَبِيلَةِ وَالْجِنْسِ حَتَّى تَحِلَّ مَحَلَّ الْعِزْوَةِ بِالدِّينِ؛ فَمَنْ وَقَعَ فِي ذَلِكَ عَامَلَ النَّاسَ بِحَسَبِ قَبَائِلِهِمْ وَأَجْنَاسِهِمْ؛ لَا بِدِينِهِمْ وَتَقْوَاهُمْ، فَكَانَ وَلَاؤُهُ وَبَرَاؤُهُ، وَحُبُّهُ وَبُغْضُهُ لِغَيْرِ اللهِ -تعالى-.
وَالْعَصَبِيَّةُ الْجَاهِلِيَّةُ مِنْ أَعْظَمِ مَدَاخِلِ الشَّيْطَانِ عَلَى قَلْبِ الْإِنْسَانِ، وَقَدْ يُرْدَى بِهَا صَالِحُونَ، وَيُضَلُّ بِهَا مُهْتَدُونَ.. كَيْفَ وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ مِنْ خِيَارِ هَذِهِ الْأُمَّةِ: المُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَأَرْضَاهُمْ-؛ فَفِي إِحْدَى الْغَزَوَاتِ كَسَعَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ، فَاجْتَمَعَ قَوْمُ ذَا، وَقَوْمُ ذَا، وَقَالَ هَؤُلَاءِ: يَا لَلْمُهَاجِرِينَ وَقَالَ هَؤُلَاءِ: يَا لَلْأَنْصَارِ فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ: "دَعُوهَا، فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ" ثُمَّ قَالَ: "أَلَا مَا بَالُ دَعْوَى أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ أَلَا مَا بَالُ دَعْوَى أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ" (5).
قَالَ النَّوَوِيُّ -رحمه الله تعالى-: "وَأَمَّا تَسْمِيَتُهُ ذَلِكَ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ فَهُوَ كَرَاهَةٌ مِنْهُ لِذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ مِمَّا كَانَتْ عَلَيْهِ الْجَاهِلِيَّةُ مِنَ التَّعَاضُدِ بِالْقَبَائِلِ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا وَمُتَعَلَّقَاتِهَا، وَكَانَتِ الْجَاهِلِيَّةُ تَأْخُذُ حُقُوقَهَا بِالْعَصَبَاتِ وَالْقَبَائِلِ، فَجَاءَ الْإِسْلَامُ بِإِبْطَالِ ذَلِكَ، وَفَصَّلَ الْقَضَايَا بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، فَإِذَا اعْتَدَى إِنْسَانٌ عَلَى آخَرَ حَكَمَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا، وَأَلْزَمَهُ مُقْتَضَى عُدْوَانِهِ كَمَا تَقَرَّرَ مِنْ قَوَاعِدِ الْإِسْلَامِ"(6).
وَلَيْسَ مِنَ الْعَصَبِيَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ مَحَبَّةُ الرَّجُلِ قَوْمَهُ، وَنُصْرَتُهُمْ فِي الْحَقِّ، وَبَذْلُ المُعْرُوفِ إِلَيْهِمْ، وَتَعَاهُدُهُمْ بِالهَدِيَّةِ، وَالصَّدَقَةُ عَلَى فُقَرَائِهِمْ، بَلْ ذَلِكَ صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ، وَفَضْلٌ وَإِحْسَانٌ، وَلَكِنْ مِنَ الْعَصَبِيَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ: أَنْ يُعِينَهُمْ عَلَى الظُّلْمِ، أَوْ يُفَاخِرَ بِهِمْ فِي غَيْرِ دِينِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، دَلِيلُ ذَلِكَ أَنَّ وَاثِلَةَ بْنَ الْأَسْقَعِ اللَّيْثِيَّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- سَأَلَ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنِ الْعَصَبِيَّةِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا الْعَصَبِيَّةُ؟ قَالَ: "أَنْ تُعِينَ قَوْمَكَ عَلَى الظُّلْمِ" (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ)، وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ أَنَّ وَاثِلَةَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَمِنَ الْعَصَبِيَّةِ أَنْ يُحِبَّ الرَّجُلُ قَوْمَهُ؟ قَالَ: "لَا، وَلَكِنَّ الْعَصَبِيَّةَ أَنْ يُعِينَ الرَّجُلُ قَوْمَهُ عَلَى الظُّلْمِ" (7).
وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ هَذِهِ الْخِصَالُ مِنَ الْجَاهِلِيَّةِ، وَأَرَادَ إِحْيَاءَهَا فِي المُسْلِمِينَ؛ بِتَحَزُّبٍ مَذْمُومٍ، أَوْ تَعَصُّبٍ مَمْقُوتٍ فَيَجِبُ وَعْظُهُ وَكَفُّهُ، أَوْ تَأْدِيبُهُ وَرَدْعُهُ بِمَا يُزِيلُ أَدْرَانَ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ صَدْرِهِ؛ لِئَلَّا يَتَمَادَى فِي عَصَبِيَّتِهِ، فَيَضُرَّ نَفْسَهُ وَغَيْرَهُ.
عَنْ عُتَيِّ بْنِ ضَمْرَة قَالَ: رَأَيْتُ رَجُلًا تَعَزَّى عِنْدَ أُبيِّ بْنِ كَعْبٍ بِعَزَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ، افْتَخَرَ بِأَبِيهِ، فأَعَضَّهُ بِأَبِيهِ وَلَمْ يَكْنُهِ، ثُمَّ قَالَ لهُمْ أُبَيٌّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَمَا إِنِّي قَدْ أَرَى الَّذِي فِي أَنْفُسِكُمْ، إِنِّي لَا أَسْتَطِيعُ إِلَّا ذَلِكَ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "مَنْ تَعَزَّى بِعَزَاءِ الجَاهِلِيَّةِ فَأَعِضُّوهُ وَلَا تَكْنُوا" وَفِي رِوَايَةٍ: "أَنَّ رَجُلًا اعْتَزَى فَأَعَضَّهُ أُبَيٌّ بِهَنِ أَبِيهِ، فَقَالُوا: مَا كُنْتَ فَاحِشًا!! قَالَ: إِنَّا أُمِرْنَا بِذَلِكَ" (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ)(8).
وَاسْتَأْذَنَ رَجُلٌ عَلَى عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فَقَالَ: "اسْتَأْذِنُوا لِابْنِ الْأَخْيَارِ، فَقَالَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ائِذَنُوا لَهُ، فَلَمَّا دَخَلَ قَالَ لَهُ عُمَرُ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا فُلَانُ بْنُ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ، قَالَ: فَجَعَلَ يَعُدُّ رِجَالًا مِنْ أَشْرَافِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَنْتَ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ؟ قَالَ: لَا، قَالَ عُمَرُ: ذَاكَ ابْنُ الْأَخْيَارِ، وَأَنْتَ ابْنُ الْأَشْرَارِ، إِنَّمَا تَعُدُّ عَلَيَّ رِجَالَ أَهْلِ النَّارِ" (رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَقَالَ: عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ)(9).
وَهَكَذَا أَدَّبَ الْفَارُوقُ وَأُبَيٌّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- مَنْ كَانَتْ فِيهِمَا لَوْثَاتٌ جَاهِلِيَّةٌ، وَبَقَايَا مِنْ أَدْرَانِهَا.
نَسْأَلُ اللهَ -تعالى- صَلَاحَ الْقُلُوبِ، وَزَكَاءَ الْأَعْمَالِ، وَصِدْقَ الِانْتِمَاءِ لَهُ وَلِدِينِهِ، وَمُوَالَاةِ أَوْلِيَائِهِ، وَمُعَادَاةِ أَعْدَائِهِ..
أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ: (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا * وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا)[النساء:124-125].
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ...
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالِمينَ، وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ، وَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمينَ، وَلَا أَمْنَ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِينَ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَلِيُّ الصَّالِحينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ النَّبِيُّ الْأَمِينُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ، وَالتَّابِعِينَ لهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ..
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ- وَأَطِيعُوهُ؛ فَإِنَّ التَّفَاضُلَ عِنْدَ اللهِ -تعالى- لَا يَكُونُ إِلَّا بِالتَّقْوَى (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ)[الحجرات: 13]. وَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- لِأَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "انْظُرْ؛ فَإِنَّكَ لَيْسَ بِخَيْرٍ مِنْ أَحْمَرَ وَلَا أَسْوَدَ إِلَّا أَنْ تَفْضُلَهُ بِتَقْوَى" (رَوَاهُ أَحْمَدُ)(10).
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: كِتَابُ اللهِ -تعالى-، وَسُنَّةُ رَسُولِهِ -صلى الله عليه وسلم- يَدْعُوانِ المُسْلِمِينَ إِلَى اجْتِمَاعِ الْكَلِمَةِ، وَتَوْحِيدِ الْأُمَّةِ، وَيُحَذِّرَانِهَا مِنَ التَّفَرُّقِ وَالاخْتِلَافِ (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا)[آل عمران:103]، (وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا)[الأنفال:46].
وَقَدْ حَصَرَ اللهُ -تعالى- الأُخُوَّةَ فِي الإِيمَانِ (إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)[الحجرات:10]، فَهِيَ الرَّابِطَةُ الْقَوِيَّةُ، وَالْحَبْلُ المَتِينُ بَيْنَ عِبَادِ اللهِ -تعالى-.
بِهَا تُلْغَى كُلُّ الرَّوَابِطِ وَالْعَصَبِيَّاتِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَالتَّحَزُّبَاتِ المَذْمُومَةِ، كَمَا فَعَلَ الصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-؛ إِذْ قَدّمُوا فِي الْوِلَايَةِ إِخْوَانَهُمُ المُسْلِمِينَ عَلَى آبَائِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَعَشِيرَتِهِمْ فَمَدَحَهُمُ اللهُ -تعالى-، وَأَثْنَى بِهِ عَلَيْهِمْ، وَقَالَ سُبْحَانَهُ: (أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ)[المجادلة:22]؛ فَمَنْ قَطَعَ هَذِهِ الرَّابِطَةَ الإِيمَانِيَّةَ، وَخَالَفَ مُقْتَضَاهَا فَدَعَا إِلَى عَصَبِيَّةٍ، أَوْ غَضِبَ لَها، أَوْ نَصَرَهَا، أَوْ قَاتَلَ عَلَيْهَا فَفِيهِ لَوْثَةٌ جَاهِلِيَّةٌ، وَيُخْشَى عَلَيْهِ مِنْ سُوءِ الْخَاتِمَةِ، وَشُؤْمِ الْعَاقِبَةِ؛ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ خَرَجَ مِنَ الطَّاعَةِ، وَفَارَقَ الجَمَاعَةَ فَمَاتَ، مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً، وَمَنْ قَاتَلَ تَحْتَ رَايَةٍ عِمِّيَّةٍ، يَغْضَبُ لِعَصَبَةٍ، أَوْ يَدْعُو إِلَى عَصَبَةٍ، أَوْ يَنْصُرُ عَصَبَةً فَقُتِلَ، فَقِتْلَةٌ جَاهِلِيَّةٌ.." (رَوَاهُ مُسْلِمٌ)(11).
لَاحِظُوا -أَيُّهَا الإِخْوَةُ- أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- لمَّا حَذَّرَ المُؤْمِنِينَ مِنَ الخُرُوجِ مِنَ الطَّاعَةِ، وَمُفَارَقَةِ الْجَمَاعَةِ حَذَّرَهُمْ كَذَلِكَ مِنَ الْعَصَبِيَّةِ، وَجَعَلَ ذَلِكَ مِنَ الْجَاهِلِيَّةِ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِأَنَّ مِنْ أَهَمِّ أَسْبَابِ التَّفَرُّقِ وَالِاخْتِلَافِ، وَإِشْعَالِ الْفِتَنِ وَالِاحْتِرَابِ: إِحْيَاءَ الْعَصَبِيَّاتِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَالْقَضَاءَ عَلَى الأُخُوَّةِ الْإِيمَانِيَّةِ.
إِنَّ الْعَصَبِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةَ قَدْ تَكُونُ تَعَصُّبًا لِحزْبٍ، أَوْ طَائِفَةٍ، أَوْ مَذْهَبٍ، أَوْ قَبِيلَةٍ، أَوْ بَلَدٍ، أَوْ عَشِيرَةٍ؛ حَتَّى يُقَدِّمَ المُتَعَصِّبُ وَلَاءَهُ لِمَنْ تَعَصَّبَ لَهُ عَلَى وَلَائِهِ للهِ -تعالى- وَلِدِينِهِ، وَيُرْضِيهِ مِنْ دُونِ رِضَا اللهِ -تعالى-.
وَفِي النُّظُمِ السِّيَاسِيَّةِ الْحَدِيثَةِ حَلَّتِ الْأَحْزَابُ وَالتَّكَتُّلَاتُ المُخْتَلِفَةُ فِيمَا يُعْرَفُ بِالمَذَاهِبِ الدِّيمُقْرَاطِيَّةِ مَحَلَّ الْقَبَائِلِ الْقَدِيمَةِ، فَصَارَ المُنْتَمِي لِحزْبٍ سِيَاسِيٍّ يُوالِي فِيهِ، وَيُعَادِي فِيهِ، وَيَتَعَصَّبُ لَهُ أَكْثَرَ مِنْ عَصَبِيَّتِهِ للهِ -تعالى- وَلِدِينِهِ إِنْ كَانَ مُسْلِمًا.
وَلَمْ يَسْلَمْ مِنْ هَذَا الدَّاءِ الْوَبِيلِ كَثِيرٌ مِنْ أَتْبَاعِ الْجَماعَاتِ الْإِسْلَامِيَّةِ؛ فَتَرَى وَاحِدَهُمْ مَعَ دِينِهِ وَاسْتِقَامَتِهِ، وَتَعْظِيمِهِ شَرِيعَةَ رَبِّهِ يَتَعَصَّبُ لِجَمَاعَتِهِ، فَيْرَضَى عَنْ خَطَئِهِمْ، وَلَا يَسْمَحُ بِنَقْدِهِمْ، وَلَوْ كَانَ نَقْدًا فِي الْحَقِّ، صَادِرًا مِنْ أَنْصَحِ النَّاسِ وَأَعْلَمِهِمْ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِأَنَّ نَاقِدَهُمْ لَيْسَ مِنْهُمْ!
بَلْ سَقَطَ فِي حَمِيِّةِ الْجَاهِلِيَّةِ وَتَعَصُّبَاتِهَا المَذْمُومَةِ كَثِيرٌ مِمَّنْ يُنَادُونَ بِالْعَوْدَةِ إِلَى مَنْهَجِ سَلَفِ الْأُمَّةِ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يُحَارِبُونَ الْحِزْبِيَّةَ؛ فَإِذَا هُمْ فِي الْعَصَبِيَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ يَرْتَكِسُونَ، وَفِي الْحِزْبِيَّةِ المَذْمُومَةِ يَرْتَمِسُونَ؛ فَاخْتَرَعُوا لهُمْ مَذْهَبًا شَاذًّا يَقُومُ عَلَى السَّبِّ وَالشَّتْمِ، وَالْوَقِيعَةِ بَيْنَ المُسْلِمِينَ، وَاحْتَكَرُوا مَذْهَبَ السَّلَفِ الصَّالِحِ لهُمْ وَحْدَهُمْ، وَأَخْرَجُوا مِنْهُ كُلَّ مُخَالِفِيهِمْ، بَلْ رَمَوْا بِالْبِدْعَةِ مَنْ لَا يُوَافِقُهُمْ فِي غُلُوِّهِمْ وَضَلَالِهمْ مِنْ أَتْبَاعِهِمْ!
ثُمَّ لمَّا شَبِعُوا مِنْ فَرْيِ أَعْرَاضِ المُسْلِمِينَ، وَالْوُلُوغِ فِي لُحُومِ الْعُلَمَاءِ وَالدُّعَاةِ وَالمُصْلِحِينَ عَادُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِمَنْهَجِهِمُ الْفَاسِدِ؛ فَصَارَ بَعْضُهُمْ يَرْمِي بَعْضًا بِالْبِدْعَةِ وَالْفِسْقِ، وَأَحْيَانًا بِالْكُفْرِ عِيَاذًا بِاللهِ مِنْ ذَلِكَ، وَجَعَلُوا مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِنْ إِخْوَانِهِمُ الصَّالحِينَ شَمَاتَةً لِأَعْدَاءِ المِلَّةِ وَالدِّينِ مِنَ الزَّنَادِقَةِ وَالْفَسَقَةِ وَالظَّالمِينَ، وَيَظُنُّونَ أَنَّهُمْ بِغُلُوِّهِمُ المَقِيتِ، وَتَنَطُّعِهِمُ الشَّدِيدِ، وَالطَّعْنِ فِي عِبَادِ اللهِ الصَّالِحينَ قَدْ حَارَبُوا الْبِدْعَةَ، وَهُمْ أَهْلُ الْبِدْعَةِ!!
يَقُولُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ -رحمه الله تعالى-: "فَمَنْ تَعَصَّبَ لِأَهْلِ بَلْدَتِهِ أَوْ مَذْهَبِهِ أَوْ طَرِيقَتِهِ أَوْ قَرَابَتِهِ أَوْ لِأَصْدِقَائِهِ دُونَ غَيْرِهِمْ كَانَتْ فِيهِ شُعْبَةٌ مِنَ الجَاهِلِيَّةِ، حَتَّى يَكُونَ المُؤْمِنُونَ كَمَا أَمَرَهُمُ اللهُ -تعالى- مُعْتَصِمِينَ بِحَبْلِهِ وَكِتَابِهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ -صلى الله عليه وسلم-؛ فَإِنَّ كِتَابَهُمْ وَاحِدٌ، وَدِينَهُمْ وَاحِدٌ، وَنَبِيَّهُمْ وَاحِدٌ، وَرَبَّهُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ"(12).
وَالمُسْلِمُونَ فِي هَذَا الْوَقْتِ الْعَصِيبِ مُحْتَاجُونَ إِلَى مَنْ يَجْمَعُهُمْ، لَا إِلَى مَنْ يُفَرِّقُهُمْ! وَإِلَى مَنْ يُوَحِّدُ كَلِمَتَهُمْ، لَا إِلَى مَنْ يُشَتِّتُ شَمْلَهُمْ! وَمَنْ ضَاقَ صَدْرُهُ عَلَى إِخْوَانِهِ ضَاقَ عِلْمُهُ، وَقَصَرَ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى الحَقِّ، فَتَخَطَّفَتْهُ الْأَهْوَاءُ، وَتَمَكَّنَتْ مِنْهُ الشُّبُهَاتُ؛ فَلَجَأَ إِلَى الْعَصِبِيَّةِ وَالْحَمِيَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ الَّتِي وَصَفَ اللهُ -تعالى- بِهَا أَهْلَ الْكُفْرِ، وَبَرَّأَ مِنْهَا المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ انْشَرَحَتْ صُدُورُهُمْ لِإِخْوَانِهِمْ؛ فَلَا يَحْمِلُونَ فِي قُلُوبِهِمْ غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا (إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى المُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا)[الفتح:26].
(وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)[الحشر:10].
أَلَا وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ كَمَا أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ رَبُّكُمْ..
-------------
(1) كما في حديث أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللهَ خَلَقَ آدَمَ مِنْ قَبْضَةٍ قَبَضَهَا مِنْ جَمِيعِ الْأَرْضِ، فَجَاءَ بَنُو آدَمَ عَلَى قَدْرِ الْأَرْضِ، جَاءَ مِنْهُمُ الْأَحْمَرُ وَالْأَبْيَضُ وَالْأَسْوَدُ وَبَيْنَ ذَلِكَ، وَالسَّهْلُ وَالْحَزْنُ، وَالخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ" أخرجه أبو داود في السنة، باب في القدر (4693)، والترمذي في التفسير، باب ومن سورة البقرة وقال: حسن صحيح (2995)، وأحمد (4-400)، وعبد بن حميد (549)، وصححه ابن حبان (6160).
(2) أخرجه من حديث الحارث الأشعري رضي الله عنه: الترمذي في الأمثال، باب ما جاء في مثل الصلاة والصيام والصدقة، وقال: "هذا حديث حسن صحيح غريب. قال محمد بن إسماعيل: الحارث الأشعري له صحبه وله غير هذا الحديث" (2863)، والنسائي في الكبرى (11349)، وأحمد (4-130)، وأبو يعلى (1571)، والبيهقي (8-157)، وصححه ابن خزيمة (1895)، وابن حبان (6233)، والحاكم وقال: على شرط الشيخين (1-582)، وصححه ابن القيم في إعلام الموقعين (1-231)، وحسنه ابن كثير في تفسيره (1-59). وأخرجه عبد الرزاق من حديث علي رضي الله عنه موقوفًا (5141). وأخرجه عبد الرزاق بلاغاً من حديث يحيى بن أبي كثير قال: بلغنا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال... فذكره (20709).
وقوله في الحديث: "فهو من جثى جهنم" الجثى جمع، واحده: جُثوة، وهي الشيء المجموع، قال طرفة الطويل:
ترى جثوتين من تراب عليهما *** صفائح صم من صفيح موصد
يصف قبرين، فكان معنى الحديث: أنه من جماعات جهنم، هذا بتخفيف الثاء، ومن شدّدها فإنه يريد الذين يجثون على الركب، واحدها: جاث، وجمعه: جثيّ بتشديد الياء، قال تبارك وتعالى: (ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا) [مريم: 68] ذكر المعنيين أبو عبيد القاسم بن سلام في غريب الحديث، ثم قال عن المعنى الثاني: وهذا أحب إِلَيَّ من الأول" ا.هـ. (3-206)، وجزم بالمعنى الثاني ابن الجوزي في غريب الحديث (1-138)، وذكر الزمخشري في الفائق المعنيين ولم يرجح (1-190).
وقال ابن عبد البر: حِثَاء جَهَنَّمَ، وغيْرُهُ يَرْوِيه: جُثَاء جهنم بالجيم، وذلك كله خطأ عند أهل العلم باللغة، وقد أنكره أبو عبيدة وغيره، وقال أبو عبيد: إنما هو من حثاء جهنم، وهو كما قال أبو عبيد. التمهيد لابن عبد البر (21-280).
(3) أخرجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أبو داود في الأدب، باب في التفاخر بالأحساب (5116)، والترمذي في المناقب، باب في فضائل الشام واليمن، وقال: هذا حديث حسن غريب (3955- 3956)، وأحمد (2/361-523)، والبيهقي (10-232)، وصححه شيخ الإسلام في الاقتضاء (1-73)، وحسنه المنذري في الترغيب والترهيب (3-673) برقم (6944).
وله شاهد ضعيف من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، أخرجه الترمذي في التفسير، باب ومن سورة الحجرات، وقال: هذا حديث غريب (3270)، وعبد بن حميد (795)، وصححه ابن حبان (3828).
وقوله -عليه الصلاة والسلام- في الحديث: "عُبّية الجاهِلِيَّة" يجوز في عَيْنِهَا الكسر والضم، ومعناه: الكبر والفخر والنخوة.
قال الخطابي -رحمه الله تعالى- في غريب الحديث (1-290): "العُبّية: الكبر والنخوة، يريد بهذا القول ما كان عليه أهل الجاهلية من التفاخر بالأنساب والتباهي بها، وفيها لغة أخرى وهي العِبية بالكسر، وأصله مهموز من العبء وهو الحمل الثقيل، ولكن الهمزة قد تركت فيه كالبرية والذرية، قال الشنفري:
خَلَّفَ الْعِبْءَ عَلَيَّ وَوَلَّى *** أَنَا بِالْعِبْءِ لَهُ مُسْتَقِلُّ
ويقال: ألقى فلان علي عِباه، أي: ثقله، ومثله: ألقى عليه عبالته" اهـ.
وقال في اللسان (1/574-575): العُبِّيَّة والعِبِّيَّة: الكبر والفخر، حكى اللِّحْيَانِيّ: هذه عُبِّيَّةُ قُرَيْش، وَعِبِّيَّةُ، ورجل فيه عُبِّيَّة وعِبِّيَّة، أَيْ: كِبْر وفخر، وعُبِّيَّةُ الْجَاهِلِيَّة: نَخْوَتُهَا، وفي الحديث: "إِنَّ اللهَ وَضَعَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الجَاهِلِيَّةِ وَتَعَظُّمَهَا بآبائها" يعني: الكبر، بِضَمّ العين، وتُكْسَر، وهي فُعُّولَة أو فُعِّيلَة، فإن كانَ فُعُّولَة فَهِيَ مِنَ التَّعْبِيَة؛ لأَنَّ المُتَكَبِّر ذُو تَكَلّف وتَعْبِيَة، خلافُ المُسْتَرْسِل عَلَى سَجِيَّتِهِ، وإنْ كَانَتْ فُعِّيلَة فَهِيَ مِنْ عُبَابِ المَاءِ، وهُوَ أَوَّلُهُ وارْتِفَاعُهُ" ا.هـ. وقال العسكري: "وقد رواه بعضهم: عُمِّيَّة الجاهلية بالميم، وعلى هذا فَسَّرَهُ الخليل بن أحمد فقال: هِيَ الكبر والتَّعَظُّم، ورواه القُتَيْبِي: عِبِّيَّة الجاهلية، بكسر العين، وزعم أنهما لغتان: عُبِّيَّة وَعِبِّيَّة، بالضم والكسر، ويقال فيه: عُبّية، العين مضمومة والباء مشددة، وهذا هو الأشهر والأكثر. وفيه عُنْجُهِيَّة وجَبَرِيَّة: إذا كان فِيهِ تَكَبُّر وتَعَظُّم" تصحيفات المحدثين: (1-291).
(4) عون المعبود: (14-17).
(5) أخرجه من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: البخاري في التفسير، باب قوله -تعالى-: (لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ) [المنافقون:8] (4624)، ومسلم في البر والصلة والآداب، باب نصر الأخ ظالمًا أو مظلومًا (2584)، وأحمد (3-338).
والكسع هو ضرب الدّبر، وكان ذلك عظيمًا عند الأنصار رضي الله عنهم؛ فهذا هو سبب شدة غضب الأنصارِيّ، وثوران الفتنة بينهم رضي الله عنهم.
قال في اللسان (8-309) مادة (كسع): "والكسع: أن تضرب بيدك أو برجلك بصدر قدمك على دبر إنسان أو شيء" اهـ.
وقال ابن الأثير في النهاية (4-173): "هو ضرب الدبر"، ونقل الحافظ في الفتح (8-651) عن ابن التين قوله: "الكسع أن تضرب بيدك على دبر شيء أو برجلك، وقال القرطبي: أن تضرب عجز إنسان بقدمك، وقيل : الضرب بالسيف على المؤخر" اهـ. ونقل الحافظ أيضاً في الفتح (8-649) رواية الطبري وفيها "أن رجلًا من المهاجرين كسع رجلًا من الأنصار برجله وذلك عند أهل اليمن شديد.." وذكر الحافظ أن المهاجري هو جهجاه بن قيس، ويقال: ابن سعيد الغفاري، وكان مع عمر بن الخطاب يقود فرسه، والرجل الأنصاري هو سنان بن وبرة الجهني حليف الأنصار، وفي رواية عبد الرزاق عن معمر عن قتادة مرسلًا أن الأنصاري كان حليفًا لهم من جهينة، وأن المهاجري كان مِنْ غِفَار، وسماهما ابن إسحاق في المغازي عن شيوخه" اهـ من الفتح.
(6) شرح النووي على مسلم (16-137).
(7) أخرجه أبو داود في الأدب، باب في العصبية (5119)، وابن ماجه في الفتن، باب العصبية (3949)، وأحمد (4-107)، والبخاري في الأدب المفرد (396)، والطبراني في الكبير (22-98) برقم (236)، والبيهقي (10-234).
(8) أخرجه أحمد (5-136) والرواية الثانية له أيضًا (5-133)، والنسائي في الكبرى (10812)، والبخاري في الأدب المفرد (963)، وصححه ابن حبان (3153).
وقوله: "مَنْ تَعَزَّى بِعَزَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ" معناه: افتخر بهم، وانتسب إليهم بدل انْتِسَابِهِ للإسلام.
نقل أبو عبيد عن الكسائي قوله: "يعني: انتسب وانتمى، كقولهم: يا لفلان ويا لبني فلان، فقوله: "عَزَاء الجاهلية" الدعوى للقبائل، أن يقال: يَا لتميم، ويا لعامر، وأشباه ذلك" اه من غريب الحديث لابن سلام (1-301).
وقال ابن الأثير -رحمه الله تعالى-: "التعزي: الانتماء والانتساب إلى القوم، يقال: عزيت الشيء، وعزوته أعزيه، وأعزوه: إذا أسندْته إِلَى أَحَدٍ، والعزاء والعزوة اسم لدعوى المُسْتَغِيث، وهو أن يقول: يا لفلان، أو يا للأنصار، ويا للمهاجرين" اهـ من النهاية (3-233).
وقوله "فَأَعِضُّوهُ بِهَنِ أَبِيهِ وَلَا تَكْنُوا" أي: قولوا له: أعضض بأير أبيك، ولا تكنوا عن الأير بالهن؛ تنكيلًا له وتأديبًا. انظر: النهاية (3-252).
وذكر ابن الأثير رواية أخرى لم أقف عليها عند غيره وهي: "مَنْ تَعَزَّى بِعَزَاءِ الْجَاهِلِيَّة فأَعِضْهُوهُ -هكذا بهاء بين الضاد والواو- وقال: هكذا جاء في رواية، أي: اشتموه صَرِيحًا من العضيهة البهت" اهـ من النهاية (3-255).
(9) أخرجه الحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي (2-378).
(10) أخرجه أحمد (5-158)، ولم أقف عليه عند غيره، وفي سنده أبو هلال الراسبي ضعيف، وهو كذلك منقطع؛ إذ يرويه بكر المزني عن أبي ذر ولم يسمع منه، ولذلك قال الحافظان الهيثمي والمنذري: "رواه أحمد ورجاله ثقات إلا أن بكر بن عبد الله المزني لم يسمع من أبي ذر" انظر: مجمع الزوائد (8-48)، والترغيب والترهيب (3-375) برقم (4493)، لكن للحديث شواهد تقويه منها:
1- حديث أبي نضرة المنذر بن مالك العبدي عن أحد الصحابة في ذكر خطبة النبي -صلى الله عليه وسلم- بمنى وسط أيام التشريق، وجاء فيها: "أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا أَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلَّا بِالتَّقْوَى" أخرجه أحمد (5-411) وسنده صحيح.
2- حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه عند أحمد (4/145-146).
3- حديث أبي هريرة رضي الله عنه المخرج في هامش (3).
(11) أخرجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: مسلم في الإمارة، باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن وفي كل حال وتحريم الخروج على الطاعة ومفارقة الجماعة (1848)، والنسائي في تحريم الدم، باب التغليظ فيمن قاتل تحت راية عمية (7-123)، وابن ماجه مختصرًا في الفتن، باب العصبية (3948)، وأحمد (2-296) واللفظ لمسلم.
وقوله -عليه الصلاة والسلام-: "تحت راية عمِّيَّة" أي: غَيْر مستبينة ولا واضحة، نقل ابن الجوزي عن الإمام أحمد قوله: "هذا الأمر الأعمى كالعصبية لا يُسْتَبَانُ وَجْهُهُ، يقال: مات فلان ميتة عمية، أي: ميتة فتنة" اهـ من الغريب لابن الجوزي (2/127- 128).
وقال القاضي عياض: قوله: "مَنْ قَاتَلَ تحت راية عمية يعصب لعصبة، أو يدعو لعصبة أو ينصر عصبة" كذا جاء في رواية الكافة عن مسلم في حديث شيبان بن فروخ: بالعين والصاد المهملتين، كما جاء في سائر الأحاديث بعد، ووقع هنا عند العذري في الحرفين الأولين: غضبة: بالغين والضاد المعجمتين وكسر الباء وهاء الإضافة، والأول أوجه وأصوب" اهـ من مشارق الأنوار (2-95).
وقال ابن الأثير: "قيل: هو فعيلة من العماء: الضلالة، كالقتال في العصبية والأهواء، وحكى بعضهم فيها ضم العين" اهـ من النهاية (3-304).
(12) مجموع الفتاوى: (28/422-423).
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم