اقتباس
وهذا نبينا -صلى الله عليه وسلـم- وهو أعلم الخلق وأعظمهم يقينا وإيمانًا يحتاط ويحترز -ليعلِّم الأمة الأخذ بالأسباب- فيرسل للمجذوم البيعة مع أحدهم، ويأمره أن يرجع إلى بلده ولا يدخل عليه، فعن عمرو بن الشريد عن أبيه قال: كان في وفد ثقيف رجل مجذوم، فأرسل إليه النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إنا قد بايعناك فارجع"...
ليس بعجيب أن تشتاق القلوب إلى الحدائق الغناء وإلى المياه المتدفقة وإلى المناظر الخلابة... لكن العجيب أن تشتاق تلك القلوب إلى صحراء جرداء لا زرع فيها ولا ماء!... لكن يزول العجب وتتضح الأمور حين ندرك أنها دعوة مستجابة من أبي الأنبياء إبراهيم -عليه السلام- إذ قال: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ)[إبراهيم: 37]؛ قال السدي مفسرًا: "أًمِلْ قلوبهم إلى هذا الموضع"، وقال ابن الجوزي: "أفئدة من الناس: أي قلوب جماعة من الناس"(تفسير الخازن).
وكلمة: "من" هنا تبعيضية، يقول مجاهد: ""لو قال: "أفئدة الناس" لزاحمتكم فارس والروم والترك والهند"، وقال سعيد بن جبير: "لحجت اليهود والنصارى والمجوس"، ولكنه قال: (أفئدة من الناس)، فهم المسلمون"(تفسير الخازن)، ومن يوم دعوة إبراهيم -عليه السلام- ولم تنقطع أبدًا وفود الحجاج على مر السنين والقرون والأزمان.
***
لكنا فجعنا لما قالوا: "قد لا يكون حجٌ هذا العام!"، وفاضت عيون المؤمنين بالدموع، وانفطرت قلوبهم، وزلزل كيانهم؛ أيعطل بيت الله الحرام!! أتمنع وفود المسلمين وتحل رحالهم فلا يقدمون المسجد الحرام! إنها سابقة لم تحدث على مر العصور! أم هي علامة من علامات الساعة، تلك التي نقلها إلينا أبو سعيد الخدري عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لا تقوم الساعة حتى لا يحج البيت"(رواه ابن حبان، وصححه الألباني وشعيب الأرنؤوط)؟!
لكننا عدنا إلى أنفسنا شيئًا فشيئًا، يسلي بعضنا بعضًا بقوله: إنه عذر قهري، ولَأَنْ يُعطَّل الحج عامًا خير من أن ينتشر الوباء فتهلك النفوس والذراري، وتسوء الأحوال...
وصرنا يعزي بعضنا بعضًا في تلك المصيبة! وصار الأغنياء القادرون الذي أجَّلوا الحج وسوَّفوه عامًا بعد عام يعضون أصابع الندم كمدًا وحسرة على ما فرَّطوا! وأدركوا ساعتها معنى قول النبي -صلى الله عليه وسلـم-: "تعجلوا إلى الحج -يعني: الفريضة- فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له"(رواه أحمد)، واستوعبوا معنى قوله -صلى الله عليه وسلـم-: "من أراد الحج، فليتعجل، فإنه قد يمرض المريض، وتضل الضالة، وتعرض الحاجة"(رواه ابن ماجه).
لكن كان في قلوبنا بصيص أمل، أمل في رحمة الله ألا نرى البيت الحرام خاويًا في موسم الحج... وكلنا كان يردد: عسى الله أن يجعل من بعد عسر يسرًا.
***
واستجاب الله -عز وجل- دعاءنا، ولم يخيِّب فيه رجاءنا، وأذن -سبحانه وتعالى- أن يفتح بيته الحرام لقاصديه، نعم إنه عدد محدود سيحج، لكن يكفينا أن يفتح بيت الله ولا يغلق، وأن نسمع تلبيتهم وتكبيرهم ووقوفهم على عرفات، وأن نسمع خطبة عرفة، وأن تتنزل الرحمات، وألا تنقطع الجموع المؤمنة عن قصدان مكة للحج ولو كانت من داخل المملكة العربية السعودية فقط.
إنها نعمة تستحق الشكر، ومن شكرها أن نلتزم بكل وسيلة نبعد بها الوباء والعدوى عن أنفسنا وعن غيرنا... نعم إننا نوقن أنه (لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا)[التوبة: 51]، وصحيح أنه لا عدوى تتنقل بنفسها، بل بإذن ربها... لكنها أسباب يجب أن نأخذ بها كيلا نعض أصابع الندم إذا أصاب أحدنا مكروه، أو تقع في قلبه فتنة؛ "لو لم أحج لم يصبني كذا"... وهي أيضًا طاعة واستجابة لأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلـم- الذي يقول فيه: "لا يوردن ممرض على مصح"(متفق عليه).
وهذا نبينا -صلى الله عليه وسلـم- وهو أعلم الخلق وأعظمهم يقينا وإيمانًا يحتاط ويحترز -ليعلِّم الأمة الأخذ بالأسباب- فيرسل للمجذوم البيعة مع أحدهم، ويأمره أن يرجع إلى بلده ولا يدخل عليه، فعن عمرو بن الشريد عن أبيه قال: كان في وفد ثقيف رجل مجذوم، فأرسل إليه النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إنا قد بايعناك فارجع"(رواه مسلم).
فهي إجراءات احترازية ينبغي أن تُتَّبع ليحفظ الله -عز وجل- بحفظه حجاجنا ومن حولهم من كل شر وسوء، ومن تلك الإجراءات الاحترازية:
أن نلتزم لبس الكمامة أو قناع الوجه، خاصة في الأماكن المغلقة... وأن يبتعد بعضنا عن بعض قدر متر ونصف إلى مترين... وأن نطهِّر الأيدي بالمطهرات دائمًا أو نغسلها بالماء والصابون... وأن نتجنب -ما استطعنا- كل تجمع أو تزاحم... وأن نترك المصافحة والتعانق والتقبيل...
***
وأهم من ذلك، وقبل ذلك، لا بد أن يحصِّن المسلم نفسه وأهله بالأذكار الصحيحة الواردة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلـم-، فعن عثمان بن عفان يقول: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ما من عبد يقول في صباح كل يوم، ومساء كل ليلة: بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء، وهو السميع العليم، ثلاث مرات، فيضره شيء"(رواه ابن ماجه)، وعن خولة بنت حكيم السلمية أنها سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إذا نزل أحدكم منزلًا، فليقل: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، فإنه لا يضره شيء حتى يرتحل منه"(رواه مسلم).
ثم الله خير الحافظين، وهو أرحم الراحمين.
***
ولأن نبينا -صلى الله عليه وسلـم- قد علَّمنا أنه: "من لا يشكر الناس، لا يشكر الله"(الترمذي)، فإننا -أصالة عن أنفسنا ونيابة عن جميع المسلمين- نتقدم بالشكر لمن يستحقه من أهل الحل والعقد في بلاد الحرمين -حفظها الله-، نتقدم بالشكر لرجالات الدولة المخلصين، الذين باتوا ساهرين وأصبحوا حريصين على فتح بيوت الله في الأرض، وعلى تطهير المساجد وتعقيمها وعلى الحفاظ على أرواح المسلمين وذراريهم...
وعلى جموع المسلمين أن تتعاون مع السلطات المعنية بمكافحة العدوى وأن تلتزم بتعليماتها، صيانة للنفس والروح، وإنجاحًا لتجربة فتح المساجد، وخوفًا أنه في حالة عدم الالتزام أن تتزايد أعداد الإصابات فتضطر السلطات أن تعيد إغلاق المساجد مرة أخرى، نسأل الله ألا يضطرنا إلى ذلك.
***
والآن نبشر -ولا نعزي- نبشر من حيل بينهم وبين حج بيت الله -عز وجل- من المخلصين الذين يعلم الله صدق قصدهم ونياتهم في طلب الحج، نبشرهم قائلين: إنكم -إن شاء الله- مأجورون بصدق نياتكم... نعم؛ إنني أخاطب أمثال هؤلاء الذين جاءوا قبيل غزوة تبوك طالبين من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يحملهم، فلم يستطع: (وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا)[التوبة: 92]، أخاطبهم قائلًا: لا تحزنوا فإنكم مأجورون أجر الحج وزيادة -بإذن الله-، فضلًا من الله ونعمة.
أخاطب أمثال من قال عنهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في نفس الغزوة: "إن بالمدينة أقوامًا، ما سرتم مسيرًا، ولا قطعتم واديًا إلا كانوا معكم"، قالوا: يا رسول الله، وهم بالمدينة؟ قال: "وهم بالمدينة، حبسهم العذر"(متفق عليه)، أخاطبهم قائلًا: لكم أجر الحج والتلبية والنفقة والتكبير والرمي والحلق... وأنتم في بيوتكم، وإن لم تغادروا بلادكم، لكم الأجر كاملًا غير منقوص بصدقكم وإخلاصكم وحرصكم...
لكم الأجر -إن شاء الله- من فضل الله ومن جود الله وبرحمة الله... فأبشروا ولا تحزنوا، وعاهدوا ربكم -كما فعل أنس بن النضر عم أنس في غزوة بدر-: "لئن أشهدنا الله -عز وجل- حج العام القادم فليرين الله ما نفعل"...
***
وها هنا بعض خطب قيمة، تتكلم عن تلك الإجراءات الاحترازية، وعن موسم الحج الفريد هذا، وعن تلك النعمة التي جاءت بعد حرمان وتضرع وابتهال، فعسى الله أن يتمها علينا بخير، وأن يكف عنا كل شر.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم