عناصر الخطبة
1/ جمال الله -سبحانه- في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله 2/ من محبة الله للجمال أن جمل مخلوقاته 3/ من محبة الله للجمال حثه على الجمال 4/ جمال الباطن أهم من جمال الظاهراقتباس
هو سبحانه جميلٌ؛ جميلٌ في ذاته، جميلٌ في أسمائه، جميلٌ في أفعاله، جميلٌ في صفاته؛ فذاته سبحانه جمالٌ في جمال، وانظُر إلى حال أهل الجنَّة، مع ما هم فيه من جمال، ومع ما يَعِيشونه من جمال، ينسَوْن ذلك كلَّه إذا رأوا جمال ربِّهم وتمتَّعوا به، ويفرَحُون بيوم المزيد فرحًا تَكاد ..
الخطبة الأولى:
الحمد لله المتفرِّد بالجلال والكمال والجمال، عالم الغَيْبِ والشهادة الكبير المتعال، أحمده -سبحانه- وأشكره على سابغ النِّعَم وجزيل النوال.
وأشهد أنَّ لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، سجَدَ له مَن في السموات والأرض طوعًا وكرهًا وظلالهم بالغدوِّ والآصال.
وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسوله، وصفيُّه وخليلُه، خيرُ مَن مشى، وأكرم مَن قال، صلَّى الله عليه وعلى آله وصَحبه وسلَّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم المآل.
أمَّا بعد: فإنَّ أعظم ما يُوصِي به المرء أخاه أنْ يتَّقي ربَّه ومولاه، ويعتصم بحبله وهُداه (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا) [طه: 123 - 124].
إخوة الإيمان: "إنَّ الله جميلٌ يحبُّ الجمال"، مقطعٌ من حديث نبوي اشتَمَل على جانب معرفي، وآخر سلوكي.
"إنَّ الله جميلٌ يحبُّ الجمال"، كلماتٌ معدودات يعدُّها العادُّ، لكن مع كلِّ كلمة أحاديث وكلمات.
"إنَّ الله جميلٌ يحبُّ الجمال"، عبارةٌ نحفَظُها وكثيرًا ما نُردِّدها، وربما وُضِعتْ في غير مَوضِعها.
فتعالوا إلى حديثٍ مع الجمال وأسراره، وأنواعه وثمراته، مع الجمال الذي تأوي إليه النُّفوس وتسكُن إليه؛ فالكلُّ يعشق الجمال، ويستَروِح مَناظِره، ويهفو لوَضاءته ونضارَته.
يا أهل الإيمان: لا جمال أرفع وأعلى من جمال مَن خلَق الجمال؛ فكلُّ جمالٍ يقبُح مع جماله -سبحانه-، وكلُّ حسن يتلاشى مع حُسنه -تعالى-.
"إنَّ الله جميل" جمَع الجمالَ كله، فالجمال منه وإليه؛ جمالٌ لا تُحِيطه العقول، ولا تُدرِكه الفهوم، ولا يمكن أنْ يصفه الواصفون، أو أنْ يبلغ كنهه الناعتون، له المثل الأعلى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى: 11].
هو -سبحانه- جميلٌ؛ جميلٌ في ذاته، جميلٌ في أسمائه، جميلٌ في أفعاله، جميلٌ في صفاته؛ فذاته -سبحانه- جمالٌ في جمال، وانظُر إلى حال أهل الجنَّة، مع ما هم فيه من جمال، ومع ما يَعِيشونه من جمال، ينسَوْن ذلك كلَّه إذا رأوا جمال ربِّهم وتمتَّعوا به، ويفرَحُون بيوم المزيد فرحًا تَكاد تطير له القلوب من أضلاعها.
وأمَّا أسماؤه -سبحانه- فجمال وحُسن ليس بعدها جمال، وليس في أسمائه ما ليس بحسَنٍ ولا جميل: (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا) [الأعراف: 180].
وهو -سبحانه وجلَّ جلاله- جميلٌ في أفعاله؛ لأنَّ أفعاله دائرة بين البرِّ والفضل، والإحسان والعدل، التي يُحمَد عليها، ويُشكَر عليها، ويُثنى بها عليه.
وهو -سبحانه وجلَّ جلاله- جميلٌ في صفاته؛ لأنها صفاتُ مدْح وحمْد وثَناء، صفات تأخُذ الأرواح، وتأسِر القلوب، وتتعلَّق بها النفوس، ومَن عرف ربَّه بصفة الجمال ازداد إيمانه، ورسخت تقواه، وطابَت له العبوديَّة، واشتاقَ لربِّه، وسأله التلذُّذ برؤيته؛ كما قال أعبَدُ الخلق وأعرَفُ الخلق بالله: "وأسألك لذَّة النظَر إلى وَجهِك الكريم، والشوقَ إلى لقائك".
إخوةَ الإيمان: ومن محبَّة الله الجميل للجمال أنْ خلق الجمال، خلق ذلك في كونه ومخلوقاته، وأرضه وسمائه، (فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) [المؤمنون: 14].
خلق الله الإنسان على أجمل صورة، وأحسن هَيْئة، وأكمل خِلقة: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) [التين: 4]، (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) [غافر: 64].
يا أيها الإنسان: أرسِل طرْفك إلى سماء ربك، ترى الجمال الأخَّاذ، والحُسن الباهر: (رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا) [النازعات: 28- 29].
لا أعمدة تُثبِّتها، ولا خروق تشوهها: (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ) [ق: 6].
ثم زادَها ربُّها حُسنًا وبَهاءً، فجمَّلَها بالنجوم والكواكب؛ (وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ) [فصلت: 12]، (إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ) [الصافات: 6].
تُشرِق الشمس فتُرسِل في الأرض ضِياءها، مُؤذِنة بِجَمالها؛ جمالٌ في إشراقها وإطْلالتها، وجمالٌ في غُروبها وتوديعها، يَتقاصَر كلُّ رسَّام عن مُحاكاة الجمال الذي فيها.
ويبزغ القمر، فيبسُط في الكون النورَ الباهر، والضياء الساحر، فيتغنَّى بجماله الشعراء، ويَتِيه في وصْفه الأدباء.
تتلبَّد السُّحب في السماء، فلا تسلْ عن رَونَقها وحلاوتها، فتبرق وترعد، فإذا المزن تجود بوابل صيِّب، وماء طيِّب؛ هنيئًا مريئًا، عَذبًا فُراتًا، فتنفهق لها النُّفوس، وتطرب وتبتهج؛ (فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) [الروم: 48].
خلَقَ الله الأرض للأنام، وركز فيها الحُسن والجمال، خلَقَ اللهُ الجميلُ الأرضَ فدحاها: (أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا) [النازعات: 31- 32]، (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا) [الكهف: 7]، (وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ) [ق: 9]، (وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ) [الرعد: 4].
حدائق غنَّاء، ومُرُوج خضراء، وغدران رقراقة، وأشجار ورَّاقة، ثمر يانع، وزهر يافع، (انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ) [الأنعام: 99].
تأمَّل في البحر؛ جميلٌ منظره، فيه الرَّوعة والبهاء، فيه الجمال، ويُستَخرج منه حلل للجمال؛ (وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا) [النحل: 14].
وخلَقَ أحسنُ الخالقين الدوابَّ، وقال عنها: (وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ) [النحل: 6]، (وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) [النحل: 8].
ثم تأمَّل -يا عبدَ الله- في شرْع الله، ترَى فيه العدل والكمال، والرحمة والمصلحة والوسطيَّة.
فالجميل -سبحانه- جعَلَ دينَه جميلاً، حتى تتعلَّق به القلوب؛ (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ) [الحجرات: 7].
هذا الجمال في الكون العلوي والسفلي؛ لَيبرهنُ على أنَّ وَراء ذلك الجمالِ جمالاً أعظم، وبهاءً أتَمَّ.
ولذلك كان قُدوتنا وحبيبنا -صلَّى الله عليه وسلَّم- إذا رأى شيئًا يُعجِبه من جمال الدنيا وحُسنها قال: "لبيك إنَّ العيش عيش الآخِرة".
عباد الله: ومَن تأمَّل في نصوص الشرع رأى الاعتناء بالجمال والحثَّ عليه، فحين سأل أصحابُ النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم-: إنَّ أحدنا يحبُّ أن يكون ثوبه حسنًا، ونعله حسنةً؟! وخشوا أنْ يكون هذا نوعًا من الكِبر، قال لهم -صلَّى الله عليه وسلَّم-: "إنَّ الله جميل يحبُّ الجمال"؛ أي: يحب التجمُّل؛ فالتجمُّل قيمةٌ إسلاميَّة، وعمل صالح مرغوبٌ إذا صحَّت معه النيَّة، فربُّكم الكريم الجميل يحبُّ أنْ يرى أثَر نعمته على عباده، تُرَى هذه النعمة في التجمُّل في اللباس والهيئات، والمسكن والمركب، وفي حَياتهم كلها، تجمُّل في غير سرف ولا مخيلة.
فلأجل الجمال وحبِّه -سبحانه- للجمال؛ شُرِعت لنا خِصالُ الفطرة، وفي الحديث: "خمسٌ من الفطرة: الختان، والاستحداد، وتقليم الأظفار، ونتف الإبط، وقص الشارب".
ولأجل الجمال؛ قال الله لنبيِّه -صلَّى الله عليه وسلَّم-: (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) [المدثر: 4]، ووجَّه -سبحانه- نداءه لعباده: (خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) [الأعراف: 31].
ولأجل الجمال؛ شُرِع لنا الاغتسالُ كلَّ جمعة: "غسل يوم الجمعة واجبٌ على كلِّ محتلم".
وحِفاظًا على جَمال الطريق؛ كانت إماطة الأذى عن الطريق صدقةً من الصدقات، وعملاً من الصالحات.
وللجمال أثَرٌ تربوي ونفسي؛ فالتجمُّل في المظهر له أثره البالغ في التأثير على الآخَرين.
وهذا ما تمثَّله سيِّدُ البشر -صلَّى الله عليه وسلَّم-، فكان -عليه الصلاة والسلام- يلبَسُ أحسن الثياب، ويتطيَّب بأجمل الطيب، وكانت له حلَّة جميلة خصَّها للأعياد والجمعة والمناسبات، كان -عليه الصلاة والسلام- يدهن شعره ويرجِّله، ويتجمَّل للوفود.
قال أنس بن مالك خادمُه ولصيقُه: "ما شممت عنبرًا قطُّ ولا مسكًا ولا شيئًا أطيب من ريح رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-".
كان -عليه الصلاة والسلام- لا يُفارِقه السواك، وكان يكرَه أنْ يشمَّ منه ريح كريهة.
دخل مسجدَه رجلٌ ثائرُ الرأس واللحية، فأشار إليه بيَدِه أنِ اخرج -كأنَّه يعني إصلاحَ شعر رأسه ولحيته-، ففعل الرجل، ثم رجَع، فقال -صلَّى الله عليه وسلَّم-: "أليس هذا خيرًا من أنْ يأتي أحدُكم ثائر الرأس كأنَّه شيطان". رواه مالك وصحَّحه ابن حبان.
قال الفاروق -رضي الله عنه-: "إنَّه ليُعجِبني الشابُّ الناسك، نظيف الثوب، طيب الريح".
وكما أنَّ للصورة جمالها، فللصوت جماله؛ فالنفوس بطبيعتها وفِطرتها تطرَبُ للصوت الحسن والأداء الجميل، وما استحقَّ بلال الأذان، إلاَّ لجمال صوته، وروعة أدائه.
ونبيُّنا -صلَّى الله عليه وسلَّم- أمر أمَّته بتجميل الصوت وتحسينه عند تلاوة القرآن؛ كلُّ ذلك لما لتجميل الصوت من أثرٍ بالغٍ على القلوب؛ قال -صلَّى الله عليه وسلَّم-: "ليس منَّا مَن لم يتغنَّ بالقرآن". رواه البخاري.
وقال -عليه السلام-: "زيِّنوا أصواتكم بالقُرآن". رواه ابن أبي شيبة وصحَّحه ابن حبان والحاكم.
وإذا رُزِق العبد صوتًا شجيًّا، وإيقاعًا نديًّا، فليستَشعِر أنَّ هذه نعمةٌ من ربِّه، فليسخِّرها في مرضاته وطاعته.
ومن كُفران النِّعمة أنْ تُصرَف هذه النِّعمة في معصية الله؛ كالغناء أو إنشاد الشعر الفاحش أو البذيء.
عباد الله: وحين تنتَكِس الفِطَر، وتختلُّ القِيَم، وتغورُ الأخلاق، ترى الاستخدام المبتذل للجمال، واختصاره في مشاهد السُّفور، أو صور التعرِّي، أو مناظر الإغواء والإغراء، فهذا في شرع الله منكرٌ وفُحشٌ، وإنْ سمَّاه أهلُه بالجمال، وادَّعَوْا أنَّ الله يحب الجمال: (قُلْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) [الأعراف: 28].
بارَك الله لي ولكم في القُرآن...
الخطبة الثانية:
أما بعد:
فيا إخوة الإيمان: وكما للمَظهَر جمالُه، فللمَخبَر حُسنُه، وكما حثَّنا ربُّنا على تجميل الظواهر، رغَّبنا -سبحانه- في تجميل البواطن؛ تجميلها بإصلاحها، وغرس التقوى فيها، جمع -سبحانه- الجمالين في قوله تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ) [الأعراف: 26].
فما أجمل أنْ يتَجمَّل القلبُ باستِقامته وطَهارته من أدران الغلِّ والبَغضاء، والكِبر والشحناء!
وإذا جمل الباطنُ، تبعَه الظاهر في الجمال؛ فلا يخرج منه إلا كُلُّ قول جميل، وفعل جميل، وفي الحديث: "ألا وإنَّ في الجسد مضغةً إذا صلَحت صلَح الجسد كلُّه".
وإذا رُزِق العبد جمالَ الظاهر والباطن، رُزِق محبَّة القلوب، واشتاقَتْ له الأرواح، وسطرت له الألسن عِبارات المدح والثناء.
عَامِلِ النَّاسَ بِوَجْهٍ طَلِيقِ *** وَالْقَ مَن تَلْقَى بِبِشْرٍ رَفِيقِ
فَـإذِا أَنْتَ جَمِيلُ الثَّنَاءِ *** وَإِذَا أَنْـتَ كَثِيرُ الصَّدِيقِ
إذا جملت الأخلاق والرُّوح، حسُنت السِّيرة، وصلحت المسيرة، فطابَ للعبد العيشُ، وابتسمت له الحياةُ.
جَمَالُ الرُّوحِ ذَاكَ هُوَ الجَمَالُ *** تَطِيبُ بِهِ الشَّمَائِلُ وَالخِلالُ
وَلاَ تُغْنِـي إِذَا حَسُنَتْ وُجُوهٌ *** وَفِي الأَجْسَادِ أَرْوَاحٌ ثِقَالُ
وعكسه بعكسه؛ إذا ساءَت الأخلاق وقبح السلوك، تنكَّد العيش وتكدرت الحياة، وكثر التشاكي منها ومن أهلها.
أيُّهَا الشَّاكِي وَمَا بِكَ دَاءُ *** كُنْ جَمِيلاً تَرَ الوُجُودَ جَمِيلاً
وبعدُ:
إخوة الإيمان: فإنَّ تجميل الظاهر والباطن مطلبٌ شرعي، وأمَّا جمال الصورة والخِلقة، فهذا قَسمٌ يقسمه الله بين عباده، ما بين جميل قسيم، وبين قبيح ذميم، وآخرين بين ذلك كثير.
ولا يجوزُ ذمُّ أحدٍ لقُبح صُورته؛ فهذا طعنٌ واتِّهام للخالق الذي خلَقَه؛ فالعيب والشين والذمُّ ليس في قُبح الصورة، وإنما في قُبح الخُلُق والرُّوح؛ لأنَّ ذاك في قُدرة الإنسان واستطاعته.
أسامة بن زيد كان دميم الخلقة؛ قال عنه النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم-: "لو كان أسامة جارية، لحلَّيته وكسوته حتى أُنفِّقَه"، لكن دمامته لم تمنعه أنْ يكون حِبَّ رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-.
عَطاء بن أبي رباح كان أعرج أسود أفطس، أشلَّ أعور، وعمي في آخِر عُمره، لكنَّ هذه القَبائح تناثَرت أمام خُلقه وعِلمه وإمامته، وقَف على رأسه الخلفاء إجلالاً وهيبةً.
الأحنف بن قيس يُضرَب به المثل في الحِلم، والحلم سيِّد الأخلاق، كان الأحنف قصيرَ القامة، أسمر اللون، غائر العينين، ناتئ الوجنتين، أحنف الرجلين، ليس شيء من قُبح المنظر إلاَّ وهو آخذٌ منه بنصيب، لكن هذه الدمامة لم تمنعْه أنْ يكون سيِّدًا مطاعًا، إذا غضب غضب لغضبته مائة ألف نفس لا يسألون فيمَ غضب؟!
نسأل الله -عزَّ وجلَّ- كما حسَّن خَلقنا أن يجمِّل أخلاقَنا، وأنْ يصلح قلوبنا، وأنْ يجعل بَواطِننا خيرًا من ظواهرنا، صلُّوا بعد ذلك على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم