اقتباس
فقل للشاب القوي الفتي الوسيم: لن يبقي الدهر شبابك ولا قوتك ولا فتوتك ولا وسامتك؛ سيحول الزمان شبابك هرمًا وقوتك ضعفًا وفتوتك عجزًا ووسامتك دمامة! سيحني الزمان ظهرك، ويُضعف بصرك، ويوهن سمعك، ويُسقط أسنانك...
قالوا لنا: بقي شهران ويهل علينا هلال شهر رمضان، ثم كرت الأيام فقالوا: بقي شهر، ثم تناقصت الأيام فقالوا: أصبح أسبوعًا... صارت أيامًا... إلى أن فاجئونا بقولهم: "غدًا نستطلع الرؤيا"، وإذا بنا نحيا في أول ليلة من ليالي رمضان بعد أن كان يفصلنا عنه -في نظرنا- زمن "طويل".
وصلَّينا القيام في أول لياليه، ثم تلتها ليلة فليلة فليلة حتى انقضى منه ربعه فثلثه، وما زالت أيامه تفر من بين أيدينا وتتساقط حتى فني نصفه، وما هي إلا ليال تتسارع حتى قلنا: أقبل العشر الأخير وليلة القدر... والآن قالوا نستطلع هلال شوال، وإذا بنا وقد أصبحنا خارج رمضان... فأحسسنا ساعتها وكأننا كنا في حديقة غنَّاء ثم ألقينا في صحاء جرداء! وحَزِنَّا ولكن هل يجدي الأسى؟ أم هل يعيد الحزن زمانًا قد مضى؟! إنها عبرة الزمان؛ لا شيء يبقى على حال، ولا شيء يدوم، بل كل شيء زائل منقضٍ فانٍ متحول متغير متبدل: (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [القصص: 88].
فقل للشاب القوي الفتي الوسيم: لن يبقي الدهر شبابك ولا قوتك ولا فتوتك ولا وسامتك؛ سيحول الزمان شبابك هرمًا وقوتك ضعفًا وفتوتك عجزًا ووسامتك دمامة! سيحني الزمان ظهرك، ويُضعف بصرك، ويوهن سمعك، ويُسقط أسنانك...
وقل للفتاة الجميلة المدللة: سيُبدِّل الزمان جمالك قبحًا، وصفاء بشرتك غضونًا وتجاعيد، ستصيرين عجوزًا تُزْدَرى بعد أن كنتِ أنثى تُشتهى، سينصرف عنك الرجال إلى غيرك، وستفقدين دلالك وجمالك...
وقل للغني ذي الثروات والأموال والعقارات: لن يبقى لك ما تملك؛ سيزول عنك، أو تزول أنت عنه، سيغير الزمان غناك فقرًا، وقدرتك حاجة وعوزًا، وراحتك تنغيصًا وكدرًا، وهناءتك تعاسة وشقاء...
وقل لصاحب المنصب: لن يوم منصبك، ولصاحب الملك والسلطان: سيزول سلطانك، وقل للصحيح: المرض يسعى إليك، وللمعمر: أنت على أبواب الموت... وكلنا على بابه!
لسوف يدرك الجميع -إن أمهله الزمان ليدرك- أن كل ما في دنيانا زيف خادع وسراب وغرور وهباء منثور!...
ولقد تعلمنا الآن درسًا نتمنى ألا نغفل عنه ما بقي من أعمارنا: ألا تتعلق قلوبنا بشيء إلا بالله -سبحانه-، فإنه الباقي وحده بعد فناء كل شيء، ومن فاته رضا الله فلا شيء نافعه.
***
ولا نخفيكم سرًا: لقد ندمنا؛ ندمنا على تقصير قصرناه في رمضان، وعبادة أغفلناها فيه... ندمنا على غفلة غفلناها وسهو سهوناه ولهو لهونا به... ندمنا على نيات وعزائم على أعمال صالحات كنا قد قطعناها عند قدوم رمضان ثم فسدت النيات وخارت العزائم، وحل الكسل محل الجد حتى انفرط العقد وانصرم الشهر!... يكون الشيء بين أيدينا نتمتع به ولا نعرف قيمته، فإذا نُزع منا أو ضاع أو انقضى حَزِنَّا لفواته أو لفراقه أو لذهابه، وقد كنا يومًا نمتلكه ونتحكم فيه!
الصحة بين أيدينا نعمة غالية، ننغمس فيها ولا نعرف قيمتها إلا إذا رحلت وضافنا المرض، والوقت -الذي نبعثره و"نقتله" ونفنيه- نعمة بين أيدينا، لا نعي قيمته إلا وقد ضاق الأمر وفنى العمر، وصدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ" (البخاري).
والمال نعمة لا يجيد كثيرون شكرها؛ بإنفاقها فيما يحب الله وادخار ربحها في صحيفة الحسنات، بل ينفقونها على النزوات والشهوات! والأولاد نعمة يكفرها كثيرون من البشر حين لا يحسنون تربيتهم وإنشاءهم، وصدق الله قرر: (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ) [التغابن: 15]، وحين حذَّر: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) [المنافقون: 9].
والجوارح من سمع وبصر ولسان... نعمة، وسوف يسأل عنها كل إنسان أمام ربه يوم القيامة؛ فيم استخدمها، وعلى ما أنهكها، قال الله -تعالى-: (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا) [الإسراء: 36]. وإذا لم نحسن ضيافة كل نعمة ونقدم شكرها، ندمنا عليها في الدنيا وتحسرنا عليها في الآخرة، ولطالما حذرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من تفلت تلك النعم من بين أصابعنا ثم ندمنا عليها حين لا ينفع الندم، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناءك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك" (الحاكم). نقول هذا الكلام الآن لأننا قد أدركنا -لكن بعد فوات الأوان- أن رمضان كان نعمة لكن بعضنا لم يصنها ولم يعرف قيمتها، ولا ندري؛ أنحيا حتى يَقْدُم علينا مرة أخرى، أم يعاجلنا الأجل قبل أن ندركه؟!
***
وحين يأتي العيد ونرى حال المسلمين فيه يتملكنا العجب؛ أهؤلاء الذين كان أغلبهم في رمضان يتقلب بين العبادات؛ حينًا في صلاة وحينًا في صيام وحينًا مع القرآن...؟! ما لي أراهم الآن لاهين لاعبين وفي الغفلة سادرين؟! ويجيبني مجيب: يا أخانا، ساعة وساعة، وأقول: صدقتَ، إنه قول الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- لحنظلة، حين قال له: "يا رسول الله نكون عندك، تذكرنا بالنار والجنة، حتى كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عندك، عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات، نسينا كثيرًا"، فأجابه: " والذي نفسي بيده إن لو تدومون على ما تكونون عندي، وفي الذكر، لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة" ثلاث مرات. (مسلم). لكنه -صلى الله عليه وسلم- يقصد: ساعة في عبادة ربك وساعة في حاجة أهلك، ساعة في هَم الآخرة وساعة في شأن الدنيا، ساعة في طاعة وأخرى في مباح... لكنه -صلى الله عليه وسلم- لا يقصد أبدًا أن تكون ساعة في صلاة والأخرى في فسق ومجون ومعاص، لا يقصد أن تعبد ربك ساعة وتعبد الشيطان أخرى!... بل ساعاتنا كلها طاعة، إن كانت عبادة عبدنا، وإن كان أمرًا من أمور الدنيا حولناه بنية صالحة إلى عبادة، مصداق ذلك قول الله -عز وجل-: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الأنعام: 162]. أعلمُ أننا لن نكون في كل حين في نفس الدرجة من الهمة واليقظة والإبصار، بل لا بد من غفلة تعترينا وسهو يلفنا، لكن حذار أن يطول ذلك، فإن أناسًا -نعوذ بالله- لا يفيقون من غفلاتهم إلا عند احتضارهم: (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) [ق: 19-22].
ومنهم من لا يفيق إلا عند دفنه: (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ) [التكاثر: 1-2]، ومن الناس من لا يفيق إلا يوم القيامة: (وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَاوَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ) [الأنبياء:97]، بل إن منهم من لا يفيق من غفلته إلا وهو داخل جهنم يعذب -والعياذ بالله-: (وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) [فاطر:37]؛ أمددناكم من العمر ما يفيق فيه من سيفيق، ولكنكم ظللتم غافلين!
ورحم الله ابن القيم الذي كفانا ما نريد أن نقول حين لخص الأمر قائلًا: "لا بد من سنة الغفلة ورقاد الهوى، ولكن كن خفيف النوم..." (الفوائد لابن القيم).
وليس ابن القيم وحده الذي قال ما كنا نود أن نقول، ولكن قاله من الخطباء النابهين في عصرنا هذا كثيرون، لذا فقد نقلنا لكم بعض خطبهم، فإليك:
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم