عناصر الخطبة
1/ محاولات واسعة للكيد بالمسلمين 2/ الحاجة إلى تذكر صور نصر الله للمؤمنين 3/ من صور نصر الله تعالى للمؤمنين 4/ تأملات في معاني النصر واليأساهداف الخطبة
اقتباس
وفي مثل هذه الأجواء نحتاج إلى تذاكر شيء من صور نصر الله تعالى لأهل الحق؛ لترسيخ الإيمان، وزيادة اليقين، وزرع التفاؤل، وطرد اليأس والقنوط؛ فإن النفوس المؤمنة تسلوا بتذاكر ابتلاءات السابقين، ومعرفة عاقبتهم، ونصر الله تعالى لهم: (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى ..
الحمد لله العليم الحكيم؛ خلق الخلق فابتلاهم بدينه، وجعل بعضهم لبعض فتنة: (وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) [الأنعام:53]، نحمده على بلائه، ونشكره على نعمائه، ونسأله الاستقامة على دينه، والثبات على أمره، والفوز برضوانه، والنجاة من عذابه؛ فإن عذابه واقع ما له من دافع، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ وعد المؤمنين بالنصر المبين، وهداهم صراطه المستقيم، وأمرهم بالصبر واليقين، فبهما يكون النصر والتمكين: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ) [السجدة:24]، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ بلّغ البلاغ المبين، وصبر على أذى المؤذِين من الكفار واليهود والمنافقين، حتى نال النصر والتمكين، فظهر دينه، وارتفع ذكره، وعزَّ أتباعه، وكُبِت أعداؤه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وأكثروا من عبادته وذكره، وتمسكوا بحبله، والزموا دينه؛ فإنكم على الحق مهتدون، وعنه مسؤولون: (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ) [الزُّخرف: 43-44].
أيها الناس: حين ينظر المؤمن إلى أحوال العالم اليوم يجد صدًّا عن دين الله تعالى كبيرًا، وكيدًا بالمؤمنين عظيمًا، وسعيًا لإفساد الناس بكل الوسائل، يتولى كبر ذلك الكفار والمنافقون، وفي الأمة تفرق واختلاف، وفي الناس قابلية للفساد والانحراف، ويجد المؤمن أن كثيرًا من ديار المسلمين مستباحة، وأن الأعداء يعيثون فيها فسادًا.
في هذه الأحوال ينتفش الباطل وأهله، ويتسلط الشيطان وجنده، فيصاب بعض أهل الإيمان باليأس والقنوط، ويستبطئون وعد الله تعالى، ومنهم من يشك في نصره، وقد زلزل السابقون حتى تساءلوا وقالوا: (مَتَى نَصْرُ الله)، فكان الجواب: (أَلَا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ) [البقرة:214].
وفي مثل هذه الأجواء نحتاج إلى تذاكر شيء من صور نصر الله تعالى لأهل الحق؛ لترسيخ الإيمان، وزيادة اليقين، وزرع التفاؤل، وطرد اليأس والقنوط؛ فإن النفوس المؤمنة تسلوا بتذاكر ابتلاءات السابقين، ومعرفة عاقبتهم، ونصر الله تعالى لهم: (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ الله) [الأنعام:34]، ومن كلمات الله تعالى التي لا مبدِّل لها في هذا الميدان قوله سبحانه: (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ المَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الغَالِبُونَ) [الصَّفات: 171-173]، وقوله تعالى: (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ) [الرُّوم:47]، وقوله سبحانه: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا) [غافر:51].
آيات بينات، وكلمات واضحات لا مبدِّل لها، ووعود قاطعة ممن لا يخلف الميعاد، وهو على كل شيء قدير، وممن لا يعلم جنده إلا هو -سبحانه وتعالى-، فهل يشك مؤمن بعد هذا في وعد الله تعالى، أو يستبطئ نصره؟!
ولِنصر الله تعالى أوجه كثيرة يحصرها الناس في هزيمة العدو أو استئصاله، فإذا لم يقع ذلك ظنوا أن الأمة لم تنتصر.
إن من نصر الله تعالى أن يعلو الحق ولو كان محاربًا، وأن يتمسك به أصحابه ولو كانوا ضعافًا، فلا يقدر الكفار والمنافقون منهم على شيء، وهذا من أعظم النصر.
انظروا إلى الدعاية الغربية وما تملكه من إمكانيات إعلامية هائلة في تشويه الإسلام، والتسويق لليبرالية، وانظروا إلى جيوش المنصِّرين، ومؤسساتهم العملاقة، وما يملكونه من أموال ضخمة، ومع ذلك فالنصرانية تنحسر، والليبرالية تُفضح، والإسلام ينتشر.
ومن صور النصر: نجاة المؤمنين من مكائد الكفار والمنافقين، كما نجَّى الله تعالى الخليل من نار قومه.
والكفار والمنافقون يمكرون مكرًا كُبَّارًا، كادت الجبال أن تزول من عظيم مكرهم، ومع ذلك عاد عليهم مكرهم، وردّ الله تعالى كيدهم، وأبقى لهم ما يسوؤهم، فلم يستأصلوا المسلمين، ولم يستطيعوا إخراجهم من دينهم.
ومن صور النصر: نصر الله تعالى المؤمنين بالدليل والبيان، وكسرهم أعداءَهم بالحجة والبرهان، وهزيمتهم في المناظرة والجدال، وكم رأينا دعاة الإسلام يفضحون في هذا الميدان رهبان النصارى، وآيات الباطنية، وأساطين الليبرالية والعلمانية، حتى ما عاد مبطلٌ يقوى على مناظرة أهل الحق، ويكونون أمامهم كحُمُر فرَّت من قسورة، ولما فتح الإعلام على مصاريعه فُضح أهل الباطل بمقارعة أهل الحق لهم، حتى غدا من ينادون بحرية الكلمة يطالبون بوأدها إذ لم تكن في صالحهم. وهذا سبب من أسباب ثبات العامة على الحق.
ومن صور نصر الله تعالى: الثناء على رموز الحق، وانتشار القبول لهم في الأرض، مع مذمة أعدائهم من أهل الباطل. وقد رأينا أن كفرة أهل الكتاب حين حشدوا حشودهم للسخرية من النبي -صلى الله عليه وسلم-، والنيل منه، ووقف معهم المنافقون في باطلهم هذا بالدفاع عنهم، وتسويغ أفعالهم، رأينا كيف ارتفع ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- في العالمين، وقرئت سيرته، وأسلم كفارٌ بسبب ذلك.
ورأينا أهل الباطل لما قصدوا أهل العلم والحسبة والدعوة بالنيل منهم، والافتراء عليهم، وتشويه سمعتهم؛ زادهم الله تعالى قبولاً عند الناس، واندحر أعداؤهم أشد اندحار، وهذا من أعظم النصر.
ومن صور نصر الله تعالى: انقلاب أهل الباطل على مبادئهم التي كانوا يدعون إليها، ويهتفون بها، وفي ذلك أشد الفضائح لهم؛ فكفار أهل الكتاب كانوا يدعون إلى الحوار، ثم انقلبوا على دعوتهم هذه بالطعن في دين الإسلام، والإزراء بالنبي -صلى الله عليه وسلم-. والباطنية يدعون إلى التقارب ثم يطعنون في صحابة النبي -صلى الله عليه وسلم-، ويدنسون عرضه الشريف بقذف أزواجه الطاهرات. والليبراليون يدعون إلى التعددية والديمقراطية وقبول الآخر، ثم انقلبوا على هذه المبادئ لما رأوا أنها تخدم خصومهم. وهذا من أعظم النصر أن يهزم أهل كل ملة وفكر في أصول مذهبهم الذي يدعون إليه، فلا يبقى له أثر في نفوس الناس.
ومن نصر الله تعالى لأهل الحق: أن آثارهم تبقى ما بقيت الدنيا، ويندثر أثر خصومهم، ولو بدا أن خصومهم نالوا منهم وقهروهم؛ فإن العبرة بالنهاية لا بالبداية؛ فالناس اليوم يعرفون زكريا ويحيى -عليهما السلام- ولا يعرفون قتلتهما.
أو يبقى الذكر السيئ لخصومهم تتناقله الأجيال فيذمونهم ويلعنونهم جيلاً بعد جيل، كما ذموا فرعون ومدحوا موسى -عليه السلام-، وذموا الحجاج ومدحوا سعيد بن جبير -رحمه الله تعالى-، وذموا رؤوس فتنة خلق القرآن ومدحوا أحمد بن حنبل -رحمه الله تعالى-. ورأينا في العصور المتأخرة وعصرنا هذا أن الله تعالى أبقى آثار المصلحين من علماء ودعاة ومجاهدين ومحتسبين فيثني عليهم الناس خيرًا، ويذمون أعداءهم، ولو كان الأعداء قد نالوا منهم بالقتل أو الأسر أو التهجير أو التعذيب، والناس شهداء الله تعالى في أرضه.
ومن نصر الله تعالى: ما يجدوه أهل الحق في قلوبهم من سعادة وراحة وطمأنينة، وأنس بالله تعالى، وتعلق به دون سواه، والتلذذ بعبادته ومناجاته والخلوة به، ولو حيل بينهم وبين ملذات الدنيا، ولو حرموا من أقرب الناس إليهم، ولو عذبت أجسادهم وقرضت بالمقاريض؛ فإن نعيمهم في قلوبهم، وهذا ما يزيد أعداءهم من أهل الباطل غمًّا وحسرة؛ إذ لا يقدرون منهم على شيء، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- لما سجن: "ماذا يصنع أعدائي بي، إن جنتي في صدري، أنَّى ذهبت فهي معي". بينما يعيش أعداؤهم في الغم والهم وضيق الصدر ولو كانوا مترفين منعمين في الظاهر. ومن كان مع الله تعالى كان الله تعالى معه في كل أحواله، وكان أنيسه في خلواته.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ المَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) [الأنفال:40].
بارك الله لي ولكم في القرآن.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى وأطيعوه: (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [آل عمران:131-132].
أيها المسلمون: مكث نوح -عليه السلام- في دعوة قومه قرونًا طوالاً؛ فتآلبوا عليه، وسخروا منه، وصدوا الناس عنه، فدعا عليهم، ونادى ربه متضرعًا ملحًّا يطلب نصره: (فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ) [القمر:10]، وكانت دعوته أن يهلكهم الله تعالى: (وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا) [نوح:26-27]، وبدعوته أغرق الله تعالى الأرض ومن عليها، ولم ينجُ من الغرق إلا من كانوا في السفينة.
إنه فرج الله تعالى للمؤمنين، وعاقبته للمتقين، ونصره للصابرين، ولا بد أن يقع ولو بعد حين.
ولا يقولن قائل: ذاك نوح ولسنا كنوح؛ فإن الله تعالى قد استجاب لكثير من المؤمنين.
ولا يقولن قائل: دعونا فلم يستجب لنا، ودعا الله تعالى عباد صالحون بفرج الأمة ونصرها ومع ذلك فأحوال الأمة في تدهور؛ فإن الأنبياء عانوا من المكذبين كثيرًا، ومكثوا في دعوتهم زمنًا طويلاً، وصبروا على أذاهم صبرًا جميلاً، ولكنهم نصروا: (حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ القَوْمِ المُجْرِمِينَ) [يوسف:110].
وحري بالمؤمن وهو يرى مكر الكافرين والمنافقين أن يوقن بالنصر؛ فإن الله تعالى قال: (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا * فَمَهِّلِ الكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا) [الطًّارق:15-17].
وحري بالمؤمن أن يعمل لدين الله تعالى ولا ينتظر عاقبة ذلك في الدنيا؛ فإنه إن انتظرها استبطأها، وإذا استبطأها يئس منها، فسلخ جلده، وبدل منهجه، وانقلب قلبه. ومطلوب المؤمن رضا الله تعالى والدار الآخرة، فإن أدرك نصر المؤمنين في الدنيا كان خيرًا إلى خير، وإلا ظفر بخير الآخرة: (وَلَلْآَخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى) [الضُّحى:4].
إن التغيرات الحضارية في الأمم والدول ليست كالتغيرات الفردية في البشر؛ وعمر الأمم والدول أطول من عمر الأفراد، والمؤمن قد يولد في أزمنة الذل والانكسار، فيجب عليه أن يسعى جهده في انتشال الأمة من ذلها وانحطاطها حسب طاقته ووسعه، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها. وقد يولد المؤمن في أزمنة النهوض والارتقاء، فواجب عليه أن يسعى في المحافظة على ارتقاء الأمة ونهوضها، والمؤمن أمره كله خير: "إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ". كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-. فلا بد أن يتعاهد المؤمن قلبه، ويملأه باليقين، ويعمل لدين الله تعالى؛ إرضاءً لله سبحانه، وليس لغاية أخرى كطلب النصر والظفر؛ فإن من يطلب رضا الله تعالى لا يتسرب إليه اليأس والقنوط، ولا ينقطع عن العمل إلا بالموت: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ) [محمد:7-8].
وصلوا وسلموا...
التعليقات