اقتباس
"قل لي من صديقك أقل لك من أنت"... فإن الطبع من الطبع يسرق، وإن المعاشر إلى معاشره يُنسب، وما تآلف اثنان إلا لأشياء مشتركة بينهما، وكثرة رؤية الناس لك مع فلان أو فلان دليل عندهم أنه قرينك...
"قل لي من صديقك أقل لك من أنت"... فإن الطبع من الطبع يسرق، وإن المعاشر إلى معاشره يُنسب، وما تآلف اثنان إلا لأشياء مشتركة بينهما، وكثرة رؤية الناس لك مع فلان أو فلان دليل عندهم أنه قرينك، حتى لقد قال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنـه-: "من أحب أن يكرم دينه فليعتزل مخالطة السلطان، ومجالسة أصحاب الأهواء؛ فإن مجالستهم ألصق من الجرب"(البدع لابن وضاح)، وصدق من قال:
ولا تجلس إلى أهل الدنايا *** فإن خلائق السفهاء تعدى
فهي قاعدة عامة تبقى راسخة أبدًا في مجال الصداقة في كل زمان ومكان؛ إنها قاعدة نبوية تقول: "المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل"(الحاكم وحسنه الألباني)، "أي: فليتأمل أحدكم بعين بصيرته إلى امرئ يريد صداقته، فمن رضي دينه وخلقه صادقه وإلا تجنبه"(فيض القدير للمناوي).
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه *** فكل قرين بالمقارن يقتدي
إذا كنت في قوم فصاحب خيارهم *** ولا تصحب الأردى فتردى مع الردي
(أدب الدنيا والدين للماوردي).
بل ولو لم تتخذه صديقًا ولا خليلًا فإن مجرد المجالسة تعدي وتنقل الصفات إلى المجالسين؛ فعن أبي موسى -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مثل الجليس الصالح والجليس السوء، كمثل صاحب المسك وكير الحداد، لا يعدمك من صاحب المسك إما تشتريه، أو تجد ريحه، وكير الحداد يحرق بدنك، أو ثوبك، أو تجد منه ريحًا خبيثة"(متفق عليه)، يقول المناوي: "فصحبة الأخيار تورث الفلاح والنجاح، ومجرد النظر إلى أهل الصلاح يؤثر صلاحًا، والنظر الى الصور يؤثر أخلاقًا وعقائد مناسبة لخلق المنظور وعقيدته؛ كدوام النظر إلى المحزون يحزن وإلى المسرور يسر، والجمل الشرود يصير ذلولًا بمقارنة الذلول، فالمقارنة لها تأثير في الحيوان بل في النبات والجماد، ففي النفوس أولى، وإنما سمي الإنسان إنسانًا لأنه يأنس بما يراه من خير وشر"(التيسير بشرح الجامع الصغير للمناوي).
واحذر مصاحبة اللئيم فإنه *** يعدي كما يعدي الصحيح الأجرب
ولا أدل على استفادة المرء من صحبة الأخيار من أن كلبًا لما صحب الفتية الصالحين خلَّد الله ذكره معهم في القرآن الكريم، فمرة قال القرآن: (وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ) [الكهف: 18]، وبعدها قال: (سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) [الكهف: 22].
***
والسؤال الملح الحيوي المحوري العملي الذي يطرح نفسه الآن يقول: من هو الصديق الصالح الذي ينبغي مصاحبته دون سواه؟ والإجابة: من اجتمعت فيه صفات المسلم الحق والمؤمن الصدق، ومنها:
أولًا: أن يكون مؤمنًا تقيًا: وما تفعل بصداقة غير التقي؟! ماذا تصنع بصداقة الفاسق والفاجر والعاصي؟! إنه لن يزيدك إلا خبالًا وبعدًا عن الله وطاعة للشيطان، يروي أبو سعيد أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لا تصاحب إلا مؤمنًا، ولا يأكل طعامك إلا تقي"(الترمذي وحسنه، وحسنه الألباني)، نعم، "(لا تصاحب إلا مؤمنًا)؛ لأنه يدلك على الخير ويقودك إليه، وفيه النهي عن صحبة غير المؤمن؛ لأنه يقودك إلى الشر ويدعوك إليه.
(ولا يأكل طعامك إلا تقي)؛ لأنه يتقوى به على عبادة الله وطاعته وتقواه، بخلاف غيره؛ فإنه يتقوى به على المعاصي، وفيه اتخاذ الصاحب مؤمنًا لأن الطباع سراقة؛ ولذا قيل: صحبة الأخيار تؤثر الخير، وصحبة الأشرار تؤثر الشر؛ كالريح إذا مرت على النتن حملت نتنًا، وإذا مرت على الطيب حملت طيبًا"(التنوير شرح الجامع الصغير للصنعاني).
ونقل أبو عبد الرحمن السلمي قول أحدهم: "المؤمن يعاشرك بالمعروف، ويدلك على صلاح دينك ودنياك، والمنافق يعاشرك بالممادحة، ويدلك على ما تشتهيه، والمعصوم من فرق بين الحالين"(آداب الصحبة لأبي عبد الرحمن السلمي).
وكفى أن كل خليل يأتي معاديًا يوم القيامة لخليله إلا التقي، قال -عز من قائل-: (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) [الزخرف: 67].
ثانيًا: المعاون في الشدائد والمحن: فتلقاه لك في شدتك مساعدًا ومعينًا بكل ما استطاع يبذل ماله ووقته وجهده ليخفف عنك كربك، يحس أن ما نزل بك من ضيق قد نزل به قبلك... وهذا ما طلبه رسول الله -صلى الله عليه وسلـم- من المؤمنين قائلًا: "مثل المؤمنين في توادهم، وتراحمهم، وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى"(متفق عليه)، وعن أبي موسى قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا"(متفق عليه)، ويشهد المهاجرون أن هذا هو ما فعله معهم الأنصار حين قدموا عليهم لا يملكون درهمًا ولا دينارًا، يقول أنس -رضي الله عنـه-: قال المهاجرون: يا رسول الله، ما رأينا مثل قوم قدمنا عليهم أحسن مواساة في قليل، ولا أحسن بذلًا في كثير، لقد كفونا المئونة، وأشركونا في المهنأ، حتى لقد حسبنا أن يذهبوا بالأجر كله! قال: "لا، ما أثنيتم عليهم، ودعوتم الله لهم"(أحمد، وصححه الألباني).
ثالثًا: من بذل إليك حقوقك: فلم يمنعك شيئًا منها، وتلك الحقوق كثيرة منها ما نقله إلينا أبو هريرة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "حق المسلم على المسلم ست" قيل: ما هن يا رسول الله؟، قال: "إذا لقيته فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد الله فسمته، وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتبعه"(متفق عليه).
رابعًا: المحب لك في الله: يحبك لطاعتك لله ويعينك عليها، ويردك إن حدت عن الطريق ويردك إليه، فإنكما إن اجتمعتما على حب الله كانت السعادة في الدنيا وفي الآخرة؛ فمن السبعة الذين يظلهم الله في ظله، يوم لا ظل إلا ظله... ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه..."(متفق عليه).
ودائمًا وأبدًا ما يكون حب المسلم لأخيه المسلم طريقًا وسببًا في حب الله -عز وجل- له، فعن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أن رجلًا زار أخًا له في قرية أخرى، فأرصد الله له، على مدرجته، ملكًا فلما أتى عليه، قال: أين تريد؟ قال: أريد أخًا لي في هذه القرية، قال: هل لك عليه من نعمة تربها؟ قال: لا، غير أني أحببته في الله -عز وجل-، قال: فإني رسول الله إليك، بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه"(مسلم).
خامسًا: أن يكون ممن يألفون ويؤلفون: سهلًا سمحًا لينًا حسن المعاشرة رحيمًا رقيقًا... فعن جابر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "المؤمن يألف ويؤلف، ولا خير فيمن لا يألف، ولا يؤلف"(الطبراني في الأوسط، وحسنه الألباني)... والصفات كثيرة لا نستطيع حصرها في هذه العجالة.
***
وبقي الآن أن نقول: أن الصديق الصالح قد أصبح في زماننا هذا نادرًا عزيز المنال، وهو -إن وجدته- كنز ثمين وعملة نادرة وغنيمة لا تعوض، فالزمه وحافظ عليه وبادله بالود ودًا وحبًا وقربًا، يقول عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "ما أعطى عبد بعد الإسلام خيرًا من أخ صالح"، وقال أيضًا: "إذا رأى أحدكم ودًا من أخيه فليتمسك به، فقلما تصيب ذلك".
وهو ما نظمه أحدهم شعرًا يقول:
ما نالت النفس على بغية *** ألذ من ود صديق أمين
من فاته ود أخ صالح *** فذلك المقطوع منه الوتين
(قوت القلوب لأبي طالب المكي).
***
ولست أول من أدرك أهمية الصديق الصالح وخطورة الصداقة، ولا أول من عدَّد صفات الصديق الصالح، أو حذَّر من الصديق الطالح... وفيما يلي بعض خطب لمن سبقونا بالبيان والتوضيح والوصاية بمصاحبة الصالحين، فإليك بعض خطبهم:
التعليقات