عناصر الخطبة
1/ أهمية الصداقة ومكانة الصديق الوفي 2/ حقوق عملية بين الأصدقاء 3/ من حقوق الصداقة العملية 4/ ضوابط الثقة في الصديق 5/ لا تصاحب واحدًا من هؤلاء الخمسة.اقتباس
موضوع مهم للغاية؛ فطرة الإنسان تحتاجه، ويبحث عنه المرء طيلة حياته، ألا وهو موضوع الصداقة الصادقة، وذلك الصديق الذي يوسم بالوفاء، وقررنا أن مَن قال: إن من المستحيلات: الخل الوفي، أن ذلك لا يصح في ديننا، بل إن الخل الوفي، والصديق الصدوق الصادق موجودان، فإن فقدناه نحن وجدناه عند غيرنا، فنسأل الله -جل وعلا- أن نكون خير الناس للناس، وأن نكون خير الأصدقاء لأصدقائنا، وأن يجعلنا ربنا من الأوفياء؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم أدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق الجهاد، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فصلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين..
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فقد تكلمنا في الخطبة الماضية عن موضوع مهم للغاية؛ فطرة الإنسان تحتاجه، ويبحث عنه المرء طيلة حياته، ألا وهو موضوع الصداقة الصادقة، وذلك الصديق الذي يوسم بالوفاء، وقررنا أن من قال: إن من المستحيلات: الخل الوفي، أن ذلك لا يصح في ديننا، بل إن الخل الوفي، والصديق الصدوق الصادق موجودان، فإن فقدناه نحن وجدناه عند غيرنا، فنسأل الله -جل وعلا- أن نكون خير الناس للناس، وأن نكون خير الأصدقاء لأصدقائنا، وأن يجعلنا ربنا من الأوفياء؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.
ومما تحدثنا فيه أن للصداقة -بهذا المعنى الجميل النبيل- حقوقًا، فتكلمت عن حقوق قلبية، وحقوق في اللسان، وحقوق في المال، وأما اليوم فإني أتحدث عن رابع الحقوق بين الأصدقاء وهو حق العمل، حقوق عملية بين الأصدقاء قل مَن يقوم بها، ونسأل الله أن يعيننا عليها، وأن نكون أوفى الناس للناس؛ فإنه لم يذق طعم الحياة من لم يكن له صديق وفيّ يطمئن إليه ويسكن إليه.
وأول الحقوق العملية أن تسأل عن صديقك، وأن تبحث عن أحواله، وأن تؤدي له مهامه، دون أن يطلب منك، أن تكون له كالمرآة التي يرى نفسه فيها، وهذا المعنى أخبرنا به الرسول -صلى الله عليه وسلم-، فقد جاء في الحديث الصحيح عند أبي داود من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "المؤمن مرآة أخيه، المؤمن أخو المؤمن يكفّ عليه ضيعته، ويحوطه من ورائه".
هذا هو الصديق هذا هو الأخ؛ يبحث عن حاجاته، تبحث عن حاجاته أن تبحث عن احتياجاته، أن ترى ما الذي ينقصه، أن تسدّ عيبه، ولذلك جاء في حديث آخر من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- بسند صحيح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "المؤمن مرآة أخيه إذا رأى فيه عيبًا سدّه"؛ أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
إذاً هذا هو المؤمن، هذه هي الصداقة، هذه هي الأخوة في الله، من الحقوق العملية أن تنصره وأن تكون معه، فقد روى جابر بن عبدالله وأنس بن مالك وعبد الله بن عمر -رضي الله عنهم أجمعين- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا"، قيل: كيف ننصره ظالمًا؟ قال: "تمنعه عن ظلمه"، أن تمنعه عن ظلمه لنفسه، وأن تمنعه عن ظلمه لأولاده، وأن تمنعه عن ظلمه لمن يعمل تحت يده، وأن تمنعه من ظلمه لغيره، هذه هي الأخوة أن تأمره بالمعروف، وأن تنهاه عن المنكر حينها تكون صديقًا وفيًّا حقًّا.
وأما أن تسايره أو تشجعه، أو يسايرك أو يشجعك؛ فهذه صداقة ليست بالوفية، ومآلها العضّ على الأيدي يوم القيامة كما جاء معنا في الخطبة الماضية.
ومن حقوق الصداقة العملية: العفو عن زلاته، وستر هفواته، وهذه لا تكون إلا بالتآلف والتعارف، إذا كنت لا تتزوج إلا امرأة لا تنكد على زوجها؛ فلن تتزوج، وإذا كنت لم تصادق إلا صديقًا لا عيب فيه فلن تصادق أحدًا، ولكن إذا كان المرء تُعَدّ معايبه؛ فهذا يكفيه فخرًا بذلك.
كفى بالمرء نبلاً أن تعد معايبه
إذا كنت تعد معايب صديقك على اليد الواحدة، فيه واحد اثنان.. هذا صديق رائع، واحد اثنان أربع خمسة.. هذا صديق رائع، إذا كان فيه عشرة عيوب فقط؛ فهذا صديق رائع، ولكن أين تجد مَن تُعد معايبه؟!
إذا كنت تبحث عمن لا عيب فيه فلن تجد؛ لأننا بشر مجبولون على الخطأ، هذا العفو عن الزلات، والعفو عن الهفوات، لن يحصل إلا بالتعارف، وبعد التعارف يحصل التآلف والتعارف يا إخواني للصداقة كالطهارة للصلاة، فكما أن الصلاة لا تصح إلا بطهارة فلا يصح لك أن تتخذ صديقا بمعنى الصداقة إلا بعد أن تعرفه، ومعرفة الصديق والأخ في الله لها طريقان، طريق لا تملكه وطريق تملكه.
أما الطريق الذي لا تملكه والطريق الذي تملكه، فكلاهما قد جاء في حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المتفق على صحته من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه قال: "الأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ، مَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ".
عمر تعجب من مسألة كما نقل ذلك ابن القيم في كتاب الروح، فسأل عليّ بن أبي طالب، قال له: يا علي! إني أسألك عن أشياء، فلعلك حضرت مع رسول الله وغبنا، ولعلنا شهدنا وغبت، قال عم؟ قال: "الرجل يحب الرجل لا يعرفه ولن يجد منه شيئًا، ولم يعمل له شيئًا، والرجل يبغض الرجل لا يعرفه ولم يجد منه شيئًا، فما ذاك؟" قال: "نعم، إن الأرواح لتطاير في الهواء فتشام بعضها بعضًا" لها رائحة "فما زكت مع بعضهما تعارفا واتلفا، وما لم يزكو مع خبثت مع بعضهما تناثرت وتناكرت".
فإذا رأيت إنسانًا تحبه من غير أن تعرفه؛ فاعلم أن روحك قد قابلت روحه، فزكت، وإذا رأيت إنسانًا تبغضه هكذا من غير أن تعرفه، ولم يعمل لك شيئًا، فاعلم أن الأرواح لم تتطابق مع بعضها البعض، فهذا التعارف أنت لا تملكه والله يملكه.
ثم يأتي التعارف الذي أنت تملكه، وهو أن تعرف صديقك، وأن تختبره أن تجربه في الدينار والدرهم، وأن تجربه في السفر، وأن تجربه في المواقف الصالحة، وفي المواقف الصعبة، وفي المواقف السهلة، فإذا عرفته فانظر هل يلائمك أو لا؟
عن عمرة بنت عبدالرحمن -وهي من طالبات العلم عند عائشة -رضي الله عنها-، قالت: "سافرت امرأة من مكة إلى المدينة مزاحة"، كانت معروفة في مكة أنها خفيفة الدم، تحب المزح كثيرًا، "فجاءت إلى المدينة فوقعت على امرأة مثلها مزاحة، قالت: فقلت لعائشة، ألا تتعجبين من فلانة جاءت من مكة فوقعت مع فلانة؟"، اجتمع هذا وهذا، قالت: "صدق حِبي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها اتلف وما تناكر منها اختلف".
إذاً من حقوق الصداقة أن تعفو عن الزلات، وأن تسامح في الهفوات، ويكفيك أن صديقك، وأن أخاك هذا تُعَدّ معايبه، لا يوجد فيه إلا عيب أو عيبان أو ثلاث، الحمد لله.
ومن حقوق الصداقة أيها الأحبة عدم التكلف، والتكلف معناه أن تبذل فوق طاقتك سواء الأخلاقية أو المجاملات أو المالية أو الطبعية، أن تبذل فوق طاقتك، فوق طبيعتك لترضي صديقك، فمن كان حالهما أنهما يتجشمان لبعضهما في المجاملات، وكلّ يحسب حساب الثاني فيما يتخالفان فيه، فهذان لم يذوقا للصداقة طعمًا، ولم يعرفا الصداقة حق المعرفة.
روى الإمام أحمد عن سلمان -رضي الله عنه- أن صاحبه دخل عليه في بيته فنادى فيما عنده من طعام قال: ضعوا الطعام الذي عندكم، ثم قال: يا فلان لولا أن رسول الله نهانا، وفي لفظ قال: "لولا أن نُهينا عن التكلف لتكلفت لك"، ولكن نهي عن التكلف بين المؤمنين عامة، فما بالك بين الأصدقاء خاصة؟!
الذي يطلب من صديقه أن يتكلف له وليس معنى هذا أن ينبسط بمعنى أن يتجاوز الحدود، فكل شيء له حد وفق الشرع، ولكن أن يتكلف له في الكلام، يتكلف له في الولاء، يتكلف له في الزيارة.. هذا لا يصلح أن يكون صديق.
إنما الصديق الذي لا يتكلف لصاحبه، وينبسط له ويكون معه كأنه هو لا فرق بينهما ولذلك قد قيل:
إِذا المَرءُ لا يَرعاكَ إِلّا تَكَلُّفاً *** فَدَعهُ وَلا تُكثِر عَلَيهِ التَأَسُّفا
إذا لم يكن صفو الوداد طبيعةً *** فلا خيرَ في ودٍ يجيءُ تكلُّفا
آخر مسألة في الحقوق العملية: الثقة بين الصديقين، والثقة فيها تفصيل، الثقة المطلقة لا تكون إلا لله، أن تثق ثقة مطلقة لا شك فيها لا تكون إلا لمن؟ لله وحده، لماذا؟ لأن الثقة في الله نابعة من التوكل على الله، فهي عقيدة يعتقدها المؤمن في ربه.
ولذلك ابن القيم -رحمه الله- في مدارج السالكين قال كلامًا عجيبًا في مجال الثقة يقول "الثقة هي سواد عين التوكل، وهي قلبه النابض"، ثم ذكر مسألة في الثقة، قال: "أم موسى -عليه السلام- لما قال لها ربها ارميه في البحر، ضعيه في البحر، -ألقه في اليم، تتلاعب به الأمواج- قال: لولا أن عندها ثقة في الله لما رمت بولدها في البحر تتقاذفه الأمواج، ولكن حينما كمُل التوكل عندها جاءت الثقة في الله -جل وعلا-، ثم بعد ذلك وضعت ابنها في الأمواج العاتية، وهي واثقة بربها أنه راجِعٌ راجِع".
اللهم ارزقنا الثقة بك يا رب العالمين..
هذه الثقة بالله، والثقة في الله ينتج عنها الثقة فيمن أحبه في الله، فالصداقة محبة في الله، قال ابن مشرد في الصداقة "وحدّه المعقول عندي ما أقول، فهي بلا اشتباه: محبة في الله".
إذا كان كذلك فلا تثق في أيّ أحد إلا إذا كان عنده دين وخُلق، ولا يكفي دين من غير خُلق، ولا خُلق بغير دين، قال الحسن البصري -رحمه الله-: "لئن أجالس قليل دين ذي خلق أحب إليّ من أن أجالس عابدًا ذا دين بلا خُلق" سيء الخلق..
فإذا كان صديقك صاحب دين وصاحب خُلق، فهذا الذي تثق فيه الثقة النسبية، وما معنى أن تثق فيه؟ معناها أن تركن عليه، وتركن إليه؛ كأنه أنت في أمورك، وما الدليل على هذا الكلام أنك لا تركن ولا تثق إلا في صاحب الدين والخلق؟ اقرأ هذه الآية (وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ) [هود: 113]، وإن كانت هذه الآية في الكافرين إلا أنها أيضًا لكل ظالم، سواء يظلم نفسه ظلمًا عظيمًا أو يظلم غيره.
وأما صاحب الدين فاركن إليه، وثِقْ به، وهذه من لوازم الصداقة، كن أنت كذلك يكون صديقك لك كما تحب، كن ممن يركن إليه، وإذا وكل بعمل من صاحبه وصديقه وثق فيه، وأداه على أحسن وجه حينها تجد من أصدقائك من يكون كذلك.
اللهم اغفر لنا وارحمنا، أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم إن ربي غفور رحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين ولي الصالحين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله -صلى الله عليه وسلم-.
خلاصة هذا الكلام أن تطبّق أيها المؤمن حقوق الصداقة أنت، ثم ابحث عنها في غيرك، أما أن ترجوها من غيرك وأنت قد قصّرت في هذه الأمور فلست أهلاً لأن تصادق أحدًا، فإذا طبقتها فابحث عنها، ولكن إياك ثم إياك أن تصادق واحدًا من خمسة، إذا وجدت واحدًا فيه صفة من الصفات الخمسة هذه لا تصاحبه، ولا تتخذه خليلاً، لا تصادق الكذاب، ولا الأحمق، ولا الجبان، ولا البخيل، ولا الفاسق.
قال الغزالي -رحمه الله- في إحياء علوم الدين: "إياك أن تصحب واحدًا من خمسة، لا تصحب الكذاب؛ فإنه يقرب لك البعيد ويبعد لك القريب، ولا تزد منه خيرًا قط، ولا تصحب الأحمق؛ فإنك لست منه على شيء، يريد أن ينفعك فيضرك، ولا تصاحب البخيل؛ فإنه يتركك وأنت في أشد الحاجة له، ولا تصاحب الجبان فإنه يسلمك ويفر عنك، ولا تصاحب الفاسق فإنه يبيعك بأقل أكلة وأقل من أقل ذلك"، قلت: ولا تصاحب الفاسق؛ فإنه يضر دينك، ودينك هو رأس مالك.
اللهم اغفر لنا وارحمنا..
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم