عناصر الخطبة
1/ حاجة الأصدقاء للعتاب اللطيف 2/ بعض آداب العتاب وسماته 3/ فضل الصداقة وصفات من ينبغي مصادقتهم 4/ تغاضي صديق عن أخطاء صديقه 5/ محبة الصديق للهاقتباس
إن إخوان الصدق هم خير مكاسب الدنيا، زينة في الرخاء، وعدةٌ في الشدة، والعاقل هو الذي لا يفرط في اكتسابهم، فمن رزق بأخ صالح ناصح فليتشبث به، وليجعل المودةَ والألفة خير رباط بينهما؛ ألا ترى أن...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
أيها المسلمون: فإن مما يقرب بين القلوب ويذهب الأحقاد والضغائن: العتاب بين الأحبة بالحسنى وباللفظ اللطيف؛ ولذلك فقد مدح قوم العتاب فقالوا: العتاب حدائق المتحابين، ودليل على بقاء المودة.
وقال بعض أهل الأدب: العتاب خير من الحقد، ولا يكون العتاب إلا على زلة.
فالذي يحمل في قلبه على عشرائه إنما يجمع الأحقاد ويكثرها، فإذا عاتب صاحبه تبين له ما كان ملتبساً بشبهة، واتضح له ما كان يحتمل أكثر من معنى؛ ومن أجل ذلك قال القائل:
وفي العتاب حياةٌ بين أقـوام *** وهو المحك لذي لبس وإيهام
ويحسن بالمرء إذا أراد أن يعاتب صاحبه: أن يجعل له طريقا إلى الرجوع والمعاودة، وذلك عن طريق التماس العذر؛ فلا يغلق عليه الأبواب بعتاب غليظ جاف ثم يريده أن يعتذر منه.
ألم تر إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين جاءه المتخلفون عن غزوة تبوك يعتذرون عن تخلفهم أخذ بظواهرهم وقبل اعتذارهم ووكل سريرتهم إلى الله -تعالى-؟
ولما جاء الرجل وأقر عنده بالزنى قال صلى الله عليه وسلم-: "لعلك غمزت؟ لعلك قبلت".
قال أهل العلم: يؤخذ منه تنبيه الحاكمِ الجاني إلى العذر، وهذا إن لم يتعلق بجرمه حق للآخرين.
فإذا كان ذلك في حكم شرعي وكبيرة من الكبائر فكيف بالأمور المستحبة أو المباحات؟
وقد كتب رجل إلى صديقه كتاباً أرسله إليه وفيه حط عليه، فرد عليه الصديق، ينبهه إلى تأمُّلِ ما كتبه من عتاب غليظ بعد هدوء النفس؛ حتى يرى قوة عباراته فقال:
اقرأ كتابـك واعتبره قريبا *** فكفى بنفسك لي عليك حسيبا
أكـذا يكون خطابُ إخوان الصفا *** إن أرسلوا جعلوا الخطابَ خطوبا؟
ما كان عذري إن أجبْتُ بمثلـه *** أو كنتُ بالعتـب العنيف مجيبا
لكنني خفت انتقاص مودتي *** فيعَدّ إحساني إليك ذنوبا
كما أن من الواجب على المرء: أنْ لا يعاتبَ في كل شيء، حتى يكون العتاب له سمة وعلامة يُعرَف بها؛ فيحط قدره عند إخوانه، ويعرف أنه يعاتب على كل شيء، ويغضب لأي شيء، فالمرء كلما استطاع أن يجعل عتابه عزيزاً فليفعل، حتى إذا عاتب عُرِف أنه لا يعاتب إلا على ما يُستَحق أن يعاتَب عليه.
وينبغي للعاقل إن عاتب أخاه أو صاحبه أو عشيره أن يتلطف معه، ولا يسبه فيما عرفه عنه، فإن من أخلاق اللؤم عند بعض الناس إن غضب على صاحبه بشيء، أظهر كل ما يعرفه عنه؛ فقطع وصله؛ وأثار ضغينته؛ ولم يُبْق للصلح موضعاً وسبيلاً؛ وقد أحسن من قال:
وأعرض عن أشياءَ لو شئتُ قلتُها *** ولو قلتها لم أبق للصلح موضعا
فكل منا يرى في الناس ما لا يرى في نفسه، فلو كان في حال عتابه ومخاصمته لصديقه أظهر كل ما في مكنونه، هل يأمل أن ترجع الصحبة إلى موضعها في يوم من الأيام؟
فإن هذا الخلق يعمل به من أراد قطع صلته بصاحبه؛ وليس من أراد تقريبها بعد انفلاتها.
وليحذر العاقل من العتاب المفضي إلى القطيعة، فالعاقل يميّز؛ فإن رأى أن هذا الشخص مما يجدي معه العتاب عاتبه، وإن رأى أن هذا مما يفسد عليه صحبته أحجم عنه، قال إياس بن معاوية: خرجت في سفر ومعي رجل من الأعراب؛ فلما كان في بعض المناهل؛ لقيه ابن عم له، فتعانقا وتعاتبا، وإلى جانبهما شيخ من الحي فقال لهما: أنعما عيشا، إن المعاتبة تبعث التجني، والتجني يبعث المخاصمة، والمخاصمة تبعث العداوة؛ ولا خير في شيء ثمرته العداوة.
هذا وإن من الخير للصديق إن رأى من صاحبه شيئاً وهو صديق له ويحبه؛ أن يذهب إليه مباشرة ويسأله عما في نفسه، ولا يجعل بينهما وسيطاً فيظل يكلم الناس -وإن كانوا أصدقاء- وصاحبه أمامه فلا يسأله حتى يبين له وجهة نظره؛ لا سيما في هذا الوقت الذي كثر فيه مستشارو السوء وناقصو المروءة؛ فلعلهم يوقعون بينه وبين صديق يحبه ويألفه؛ وقد قال عمر -رضي الله عنه-: "إذا رزقك الله مودة امرئ فتشبث به".
هذا وإنَّ تَرْك مصارحة الصاحب لصاحبه فيما يعاتبه به؛ مما يزيد التفرق والشتات، ويذهب الألفة، كما أنه من كتم النصيحة والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "الدين النصيحة".
فاعملوا على تنقية القلوب وطهارتها، فالقلب صغير والعمر قصير فلا نذهبهما بالشحناء والضغائن؛ فإن منتهى السعادة في مراجعة القلب وتزكيته وتطهيره.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم..
أقول ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فإن إخوان الصدق هم خير مكاسب الدنيا، زينة في الرخاء، وعدةٌ في الشدة، والعاقل هو الذي لا يفرط في اكتسابهم، فمن رزق بأخ صالح ناصح فليتشبث به، وليجعل المودةَ والألفة خير رباط بينهما؛ ألا ترى أن الله -سبحانه- امتن على خير القرون أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم-، وذكرهم نعمته بأن جمع قلوبهم على الصفاء، وردها بعد الفرقة إلى الألفة والإخاء؛ فقال تعالى: (وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا) [آل عمران: 103]، ومن أجل ذلك فقد عرف سلف الأمة وعقلاؤها المتقدمون منزلة الأخوة فحثوا عليها، واتخذوها وسيلة لإيناس الوحشة وتبديد التفرد والانعزال؛ قال علي -رضي الله عنه-: "الرجل بلا أخ كشمال بلا يمين"، وقال زياد: "خير ما اكتسب المرء الإخوان، فإنهم معونة على حوادث الزمان ونوائب الحدثان، وعونٌ في السراء والضراء"، وقال سليمان بن عبد الملك: "أكلت الطيّب ولبست الليّن، وركبت الفارِه، فلم يبق من لذاتي إلا صديق أطرح معه مؤنة التحفظ".
وعلى المرء إن اتخذ صديقاً: أن يتخذ أخاً عاقلاً رزيناً، تزينه صحبته ولا تشينه؛ فإن الأصحاب مرآة الأصحاب، والمرء يُعرف حاله عند النظر في أقرانه؛ قال عبد الله بن المبارك: "خير ما أعطي الرجل أخ ناصح يستشيره"، وقيل لابن السماك: "أي الإخوان أحق ببقاء المودة؟ قال: الوافرُ دينه، الوافي عقله، الذي لا يملُّك على القرب، ولا ينساك على البعد، إن دنوت منه داناك، وإن بعُدْت عنه راعاك، وإن استعنت به عضدك، وإن احتجت إليه أعانك، وتكون مودةُ فعله أكثر من مودةِ قوله".
وليحذر صديق السوء فإنه المهلك المردي، فلا يزال بصاحبه حتى يوقعه في المهالك، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مثل الجليس السوء كنافخ الكير؛ إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد عنده ريحاً خبيثة"، فإن لم يوقع صاحبه في المصائب، فإنه لن يسلم من أن يأخذَ سمعته السيئة؛ ويُتَّهمَ في دينه ومروءته.
ومن رزق بإخوانٍ فليكن اتساع صدره لهم طبيعته وسجيته، وليعلم أن من طلب صديقاً لا يزل، فقد طلب المحال، ورام الوصول إلى مرتقى بعيد المنال؛ وقد قيل: "من لا يؤاخي إلا من لا عيب فيه ملّ صديقه، ومن لم يرضَ من صديقه إلا بإيثاره على نفسه دام سخطه، ومن عاتب على كل ذنب ضاع عتبه وكثر تعبه"، ولذا قيل:
إذا كنت في كل الأمور معاتباً *** صديقك لم تلق الذي لا تعاتبه
وإن كنت لم تشرب مراراً على القذى *** ظمئت وأي الناس تصفو مشاربه
وقد قال بعض أهل العلم: "إذا رأيت من أخيك أمراً تكرهه، أو خلةً لا تحبها؛ فلا تقطعْ حبله، ولا تصرم وده، ولكن داو جُرحَه، واستر عورتَه، وأبقه وابرأ من عمله، وقد قال تعالى لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بريء مِّمَّا تَعْمَلُونَ) [الشعراء: 215 - 216]؛ فلم يأمره بقطعهم وإنما بالبراءة من عملهم السيئ".
هذا واعلموا أن من طمع باستكمال الأجر؛ فليحب صاحبه لصلاحه وقربه من ربّه لا لطمع في دنيا، فمن أحبه لذلك فقد استكمل الإيمان، قال صلى الله عليه وسلم: "أوثق عرى الإيمان: الحب في الله، والبغض في الله".
وليعلم المسلم أن أقرب الصاحبين إلى الله أشدهما حباً للآخر في الله؛ قال صلى الله عليه وسلم: "ما تحاب اثنان في الله إلا كان أفضلهما عند الله أشدهما حباً لصاحبه".
اللهم اغفر لنا وارحمنا، وعافنا واعف عنا...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم