المجاهرة بالمعاصي: استهانة بالله وترويج لها بين خلقه – خطب مختارة

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي

2022-10-08 - 1444/03/12
التصنيفات:

اقتباس

وقد جاء التحذير من المجاهرة بالمعاصي في نصوص واضحة جلية وأكدت أنها من إظهار السوء وإشاعة الفساد في الأرض، وأنها مما يوجب الله عليه عقوبات عامة وخاصة؛ عقوبات خاصة على المجاهر نفسه، وعقوبات عامة...

إن النفوس جبلت على حب الهوى وفعل ما يلبي رغباتها وكره القيود التي تردعها أو الحواجز التي تمنعها، والله -تعالى- قد امتن عليها بإرشادها إلى ما يصلحها ويزكيها ويسمو بها؛ فحثها على فعل كل حسن وترك كل قبيح، ثم إن الله تجاوز عن ما تقع فيه من الصغائر إن هي تابت إليه واستغفرته من ممارسة الكبائر.

ومن حيث الجملة قد حذر عباده من الإصرار على معصيته وشنع على المجاهرين بها؛ بل وتوعدهم بعذابه الأليم وعقاب الجحيم.

 

والمجاهرة: إبداء المخفي وإظهار المستتر، والمجاهرة بالشيء: إبداؤه وإظهاره، وعدم الاختفاء به، وحقيقة المجاهرة ترجع إلى معنيين:

الأول: هو أن يفعل الإنسان الشيء أمام الناس من غير اختفاء أو تستر؛ فيأتي ما يأتي من العمل على مرأى من الناس أو مسمع منهم، وعلى حضور وشهود ممن حوله، وهذا أعلى ما يكون من صور المجاهرة التي يُظهر فيها الإنسان عمله.

 

والمعنى الثاني: إخبار الإنسان بما يكون من عمله الخفي؛ بمعنى أن يعمل شيئًا في الخفاء، ثم يأتي يخبر به بعد ذلك.

 

وأما المعاصي: فهي مخالفة ما جاء به رسول الله -عليه الصلاة والسلام- من ربه -عز وجل-، وهذا لا يقتصر على ذنب بعينه أو على مخالفة بعينها، لكنها ترجع إلى أمرين هما:

ترك ما أمر الله ورسوله به؛ فالذي ترك الصلوات قد وقع في معصية، والذي ترك الزكاة أو الصوم أو الحج مع القدرة عليه أو جميعها قد وقع في معصية؛ هذا فيما يتعلق بأصول وأركان الإسلام، وهكذا ما دونها من الفرائض.

 

الثاني: فعل ما نهى الله ورسوله عنه؛ فمن الشرك والكفر ومرورا بالنفاق وحتى ارتكاب المحرمات والمنهيات؛ فمن وقع في واحدة من هذه ومثيلاتها وما دونها فقد وقع في معصية.

 

والمعنى الإجمالي للمجاهرة بالمعاصي: هي فعل المخالفة أمام الناس، أو فعلها في الستر والخفاء ثم إخبار الناس بها بعد ستر الله عليك.

 

لقد جاء التحذير من المجاهرة بالمعاصي في نصوص واضحة جلية، وأنها من إظهار السوء وإشاعة الفساد في الأرض، وأنها مما يوجب الله عليه عقوبات عامة وخاصة؛ عقوبات خاصة على المجاهر نفسه، وعقوبات عامة حال انتشارها بين الأمة، دون تداع لكف هذا الشر بالائتمار بالمعروف والانتهاء عن المنكر.

 

والله -تعالى- قد ذكر في كتابه العزيز لعن بني إسرائيل، فقال -سبحانه-: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَم *كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ)[المائدة: 78-79].

فهذان نبيان كريمان لُعن بنو إسرائيل على لسانهما؛ داود من أكبر وأشرف أنبياء بني إسرائيل، وعيسى من أولي العزم من الرسل، ثم بيَّن الله -تعالى- سبب استحقاقهم لذلك؛ (ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ)[المائدة: 78 - 79]، وقال تعالى: (لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ)[النساء: 148].

 

ومما يدل على خطورة المجاهرة بمعصية الله؛ ما جاء في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "كل أمتي معافى"، والأمة هنا هي أمة الإجابة؛ يعني كل أمتي يدرك عفو الله -عز وجل- المشتمل على حماية العبد في دينه ودنياه، وتجاوز الله عن قصوره وتقصيره في شأنه الخاص وفي شأنه العام، "كل أمتي معافى"، ثم استثنى -النبي صلى الله عليه وسلم-؛ فقال: "إلا المجاهرين"، ثم بيَّن صورة من صور المجاهرة، وهي لم ترد في زمنه -صلوات الله وسلامه عليه-، قال: "وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملًا ثم يصبح وقد ستره الله عليه، فيقول: يا فلان عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، ويصبح يكشف ستر الله عليه"، بات يستره ربه ويخفي سوأته وعيبه ومعصيته عن الناس، لكنه لم يرض بستر الله -عز وجل- عليه، بل يصبح فيكشف عن ذلك بالإخبار عن نفسه بما جرى من سيئ ما قام به، وهذا لا يلزم أن يكون بالصورة التي ذكر؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- ذكر صورة من صور المجاهرة؛ وهي أن يفعل المعصية بالليل، ثم يأتي يخبر بها في النهار.

 

قال ابن حجر -رحمه الله-: "والمجاهِر هو الذي أظهر معصيتَه، وكشف ما ستَر الله عليه، فيحدِّث بها، أما (المجاهرون) في الحديث الشريف يحتمل أن يكون بمعنى مَن جَهَر بالمعصية وأظهرها، ويحتمل أن يكون المراد الذين يُجاهِر بعضهم بعضًا بالتحدُّث بالمعاصي، وبقية الحديث تؤكِّد المعنى الأول" (فتح الباري).

ومن ذلك: ما يفعله كثير من الناس عندما يقع في معصية ما في زمن من عمره، ثم يأتي يذكرها على وجه الإخبار بسيئ العمل في مجمع من الناس سواء كان ذلك الإخبار على القنوات والإذاعات أو المحافل أو غيرها أو كتبها ونشرها.

 

وهناك صور للمجاهرة بالمعاصي منها:

كمن يشرب المسكر أمام الناس؛ فهذا مجاهر بالمعصية؛ ليس بالإخبار عنها، إنما بفعلها أمام الخلق.

 

كذلك من يترك فرضا من فرائض الإسلام أو من واجباته؛ كم لا يقيم الصلاة، ولا يؤتي الزكاة، ويمتنع من ذلك أمام الناس، ولا يتورع، ولا يأسف ولا يتسر أو يحتاط ألا يعلم الناس عنه؛ فهذا مجاهر بالمعصية.

 

والذي يفعل المعصية في الستر؛ كمن يتعاطى الحشيش مثلًا، ثم يأتي إلى الناس فيتحدث عن فعله بينهم فيقول قد فعلت كذا؛ فيعد ما فعله من الذنوب والمعاصي ليتباهى بها بين أصحابه ورفقائه.

 

وقد حرم الإسلام المجاهرة ولا فرق فيها بين التلميح والتصريح، وهي على درجات من حيث صورة المجاهرة، ومن حيث ما يترتب عليها؛ ففعل المعصية أمام الناس أعظم وزرًا في المجاهرة من الإخبار بها، والإخبار بها تصريحًا أعظم وإثمًا من الإخبار بها تلميحًا؛ لكن الجميع يندرج فيما ذكره النبي -صلى الله عليه وسلم- في قوله: "كل أمتي معافى إلا المجاهرين".

 

لذلك يجب على المسلم أن يتقي الله ويحذر المعاصي ابتداءً؛ فإذا وقع في شيء منها فليستتر بستر الله، وليتذكر قول النبي -صلى الله عليه وسلم- لذلك الرجل الذي جاءه، كما في الصحيحين، عند ما قال للنبي الكريم -صلوات ربي وسلامه عليه-: "يا رسول الله، إني عالجت امرأة في أقصى المدينة، وإني أصبت منها دون أن أمسها؛ يعني: ضمَّها وقبَّلها، ولكن لم يجامعها، فاقض فيَّ ما شئت؛ فردَّ عليه عمر -رضي الله تعالى عنه- وهو بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: "لقد سترك الله لو سترت نفسك"!!

 

إن الله -تعالى- لم ينه من المجاهرة بالمعاصي إلا لما تلحق أصحابها من آثار مخيفة وعواقب مؤلمة في الدنيا والآخرة؛ فمن تلك الآثار والعواقب:

أنها تضعف مقام تعظيم الله -عز وجل- في قلب صاحبها: قال تعالى عن السبب الذي جعل العصاة يجاهرون بأفعالهم القبيحة وأعمالهم الشنيعة: (مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ)[الحج: 74]، وقال: (مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا)[نوح: 13].

 

ومن آثارها حرمان العافية: قال -عليه الصلاة والسلام-: "كلُّ أمّتي معافى إلاّ المجاهرين الذين يعملون العمل بالليل فيستره ربّه، ثمّ يصبح فيقول: يا فلان إنّي عملت البارحة كذا وكذا" (رواه البخاري ومسلم).

 

تعجيل العذاب وحلول النقم: عن أمير المؤمنين -رضي الله عنه- قال: "مجاهرة الله بالمعاصي تعجّل النقم".

 

كما أن من آثار المجاهرة بالمعاصي دعوة لإشاعة الفاحشة بين الناس: والله -جل وعلا- يقول: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)[النور: 19].

 

فلنتق الله -تعالى- ونملأ قلوبنا بتعظيمه ومحبته، ولنحذر من مخالفة أوامره وأمر نبيه -صلى الله عليه وسلم-، وعلينا أن نفر من الذنوب والمعاصي صغيرها وكبيرها، كما يجب على من وقع في زلة أن يستتر بستر الله وأن يستغفره ويتوب إليه، وأن لا يجاهر بها بين عباد الله فيجزى بالجزاء الأليم والحساب العسير ويشقى في الدنيا والمصير.

 

خطباؤنا الأكارم: وضعنا بين أيديكم مقدمة عن المجاهرة بالمعاصي وبعض صورها وخطرها وآثارها على الفرد والأمة، ويليها عددا من الخطب المختارة حول هذا الموضوع.. سائلين الله -تعالى- أن يوفقنا لفعل الخيرات وترك المنكرات ويشملنا بستره ولطفه.

الخطبة الأولى:
الخطبة الثانية:
الخطبة الثالثة:
الخطبة الرابعة:
الخطبة الخامسة:
الخطبة السادسة:
الخطبة السابعة:
الخطبة الثامنة:
الخطبة التاسعة:
العنوان
أجهزة التواصل الاجتماعي (3) المجاهرة بالذنوب ونشر الفواحش 2015/01/01 13109 1510 208
أجهزة التواصل الاجتماعي (3) المجاهرة بالذنوب ونشر الفواحش

وَرَفْعُ الْعَافِيَةِ عَنْ أَهْلِ المُجَاهَرَةِ يَشْمَلُ رَفْعَهَا فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ، فَحَرِيٌّ بِمَنْ جَاهَرَ بِالمُنْكَرِ، وَدَعَا إِلَيْهِ، وَهُوَ فِي مَأْمَنٍ مِنْ أَنْ يُعْرَفَ شَخْصُهُ بِسَبَبِ اسْتِتَارِهِ بِاسْمٍ مُسْتَعَارٍ حَرِيٌّ أَنْ يُفْضَحَ فِي الدُّنْيَا، بِأَنْ يُخْطِئَ خَطَئًا يَدُلُّ عَلَى شَخْصِهِ وَهُوَ لَا يَدْرِي، فَيَعْرِفُهُ النَّاسُ وَهُو لَا يُرِيدُهُمْ أَنْ يَعْرِفُوهُ، وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ كَثِيرًا لِأُنَاسٍ تَمَنَّوْا أَنَّهُمْ مَاتُوا وَلَمْ يُفْضَحُوا، نَسْأَلُ اللهَ -تَعَالَى- السَّتْرَ وَالْعَافِيَةَ. أَوْ يَتَسَلَّطُ عَلَيْهِ بَعْضُ مَنْ يُشَارِكُهُ فِي إِثْمِهِ حَتَّى يَخْتَرِقُوا حِسَابَهُ، وَيُظْهِرُوا لِلنَّاسِ خِزْيَهُ...

المرفقات

التواصل الاجتماعي (3) المجاهرة بالذنوب ونشر الفواحش

التواصل الاجتماعي (3) المجاهرة بالذنوب ونشر الفواحش - مشكولة

التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life