صيانة الأنفس من المخاطر - خطب مختارة
الفريق العلمي
طوبى له، ثم طوبى له، ثم طوبى له؛ من حفر بئرًا للمسلمين يستقون منها ويزرعون ويسقون مواشيهم، فإن كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد حدثنا فقال: "بينا رجل يمشي، فاشتد عليه العطش، فنزل بئرًا فشرب منها، ثم خرج فإذا هو بكلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال: لقد بلغ هذا مثل الذي بلغ بي، فملأ خفه، ثم أمسكه بفيه، ثم رقي، فسقى الكلب، فشكر الله له، فغفر له"، قالوا: يا رسول الله، وإن لنا في البهائم أجرًا؟ قال: "في كل كبد رطبة أجر"(متفق عليه)، فإن هذا وجد البئر محفورًا وجاهزًا، فما بالك لو كان هو من ابتدأه وحفره! وإنه سقى كلبًا أعجمًا، فما بالك بمن يسقى الإنسان والحيوان والطير والزروع والأشجار من بئر حفرها بيديه!
ويروي سعد بن عبادة -رضي الله عنه- أنه قال: يا رسول الله، إن أم سعد ماتت، فأي الصدقة أفضل؟ قال: "الماء"، قال: فحفر بئرًا، وقال: هذه لأم سعد(رواه أبو داود)، فنعم الصدقة الماء؛ أليس قد قال الله -تعالى-: (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ)[الأنبياء: 30].
وللتشجيع على حفر الآبار، فقد جعل النبي -صلى الله عليه وسلم- لمن حفر بئرًا حرمًا لبئره لا يعتدي عليه أحد، فإن كان بئرًا لسقي المواشي فحرمه أربعون ذراعًا، فعن عبد الله بن مغفل -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من حفر بئرا فله أربعون ذراعًا عطنًا لماشيته"(رواه ابن ماجه)، و"الْعَطَنُ: هو موطن الإبل ومَبْركُها حول الحوض وَمَرْبَضُ الغنم حول الماء"... أما "إذا كان البئر للزرع فأن صاحبه يملك كل ما تزرعه هذه البئر، يعني: ما جرت العادة بأن هذه البئر تزرعه فإنه يملكه"( فتح ذي الجلال لابن عثيمين)، فعلاوة على أن له حرمًا مستقلًا، فإنه يملك الأرض الموات التي أحياها ببئره.
***
لكن الأمر كما يقول الناس: "من صنع معروفًا فليتمه"، فمن حفر بئرًا فعليه أن يحصِّنه ويؤمِّنه لئلا يقع فيه أحد من الناس، فيكون قد آذى من حيث أراد النفع، "ورب قاصد خير لا يدركه"، فليبني حوله سورًا أو يضع حوله ما يمنع من وقوع إنسان فيه...
وإن كانت إماطة الأذى عن الطريق صدقة (ينظر: سنن أبي داود)، وإن كانت إماطة الأذى عن الطريق شعبة من شعب الإيمان (ينظر: صحيح مسلم)؛ فإن وضع الأذى في الطريق معصية، وحفر البئر وتركه بلا حاجز يحجز الناس عن التردي فيه من أكبر الإيذاء والضرر، ولقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا ضرر ولا ضرار"(رواه ابن ماجه).
وإيذاء المسلمين يمنع صلاة الملائكة حتى على المتعبد في المسجد؛ فقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "والملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه الذي يصلي فيه، اللهم صل عليه، اللهم ارحمه ما لم يحدث فيه، ما لم يؤذ فيه"(متفق عليه)، فإن آذى فلا أجر بل هي الخيبة والوزر!
ويروي أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إياكم والجلوس بالطرقات" فقالوا: يا رسول الله، ما لنا من مجالسنا بد نتحدث فيها، فقال: "إذ أبيتم إلا المجلس، فأعطوا الطريق حقه"، قالوا: وما حق الطريق يا رسول الله؟ قال: "غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر"(متفق عليه)، فهل من حفر بئرًا وتركها بلا حاجز يحمي الناس من الوقوع فيها قد كف أذاه عن الناس؟! أن أنه قد وضع لهم الأذى في طريقهم!
***
وقد اتفقت كلمة الفقهاء على تضمين من حفر بئرًا في غير ملكه ولم يحصنه، فتردى فيه إنسان، يقول السرخسي الحنفي: "وإن حفر بئرًا في غير ملكه فوقع فيه إنسان فعليه أن يسعى في قيمته؛ لأنه متعد فيه فهو في حكم الضمان كجنايته بيده"(المبسوط للسرخسي).
ويقول الإمام مالك: "من حفر بئرًا حيث لا يجوز له فهو ضامن لما عطب فيها"(المدونة للإمام مالك)، ويقول المازري المالكي: من "حفر بئرًا ليسقط فيها من أتى ليسرق ماله، فسقط فيها السارق فمات، أو سقط فيها غيره ممن لم يأت للسرقة، فإن الحافر للبئر يضمن ما سقط فيها فهلك، من سارق أو غيره"(شرح التلقين للمارزي).
ويقول الماوردي الشافعي عن القتل بسبب: "أن يحفر بئرًا في أرض لا يملكها فيقع فيها إنسان فيموت... فيجب فيه الدية والكفارة"(الحاوي الكبير للماوردي)، وكذا قال النووي الشافعي أيضًا: "وإن حفر بئرًا في طريق الناس... فهلك به إنسان وجب الضمان عليه"(المجموع للنووي).
ويقول ابن قدامة الحنبلي: "وإن حفر بئرًا في الطريق، أو وضع حجرًا أو حديدة، أو قشر بطيخ أو ماء، فهلك به إنسان ضمنه"(الكافي لابن قدامة)، وكذا قال ابن تيمية: من "حفر بئرًا حيث لا يجوز من فناء أو طريق... فتلف به إنسان فعليه ديته"(المحرر لابن تيمية).
***
فيا عباد الله: اتركونا في طرقاتنا آمنين، لا نخاف على أطفالنا إذا خرجوا ألا يرجعوا إلينا إلا محمولين، اجعلونا مطمئنين إذا مشينا ليلًا ألا نجد أنفسنا في قاع بئر محبوسين.. عباد الله: إن درأ المفاسد مقدم على جلب المصالح؛ فألا تحفروا البئر من الأساس خير وأفضل أن تحفروها وتتركوها خطرًا على المارين.. يا عبد الله: إنك لا تأمن إن حفرت بئرًا وتركتها بلا تأمين أن يقع فيك ولدك أو زوجك أو تقع فيها أنت! فخذ بالحيطة والحذر تفز بأجر حفر البئر وتنجو من الـمُساءلة والإثم.
***
ولكي نزيد الأمر وضوحًا وبيانًا وتفصيلًا وتأصيلًا فقد جمعنا ها هنا خطبًا مختارة بعناية عن حماية الإسلام للنفس وجعلها إحدى الضرورات الخمس التي يحرم المساس بها، وعن حرمة إيذاء المسلمين والتسبب في ضررهم، فدونك:
حماية الإسلام للدين والنفس والعرض والمال - محمد بن صالح بن عثيمين.
تحريم الضرر والضرار - صالح بن فوزان الفوزان.
كف الأذى عن المسلمين - صلاح بن محمد البدير.
لا ضرر ولا ضرار - سعود بن ابراهيم الشريم.
التحذير من الإضرار بالمسلمين - أسامة بن عبدالله خياط.
حرمة الأنفس المعصومة وآثار الاعتداء عليها - عبدالله البرح - عضو الفريق العلمي.
لا ضرر ولا ضرار - محمود بن أحمد الدوسري.
التنبيهات: عن الأذى في الطرق والسيارات - خالد بن علي أبا الخيل.