اقتباس
وأول واجباتنا تجاه إخواننا المنكوبين: أن نألم لآلامهم، فإن جرحهم هو جرحنا، وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "المسلمون كرجل واحد؛ إن اشتكى عينه اشتكى كله، وإن اشتكى رأسه اشتكى كله"... وعن زيد بن أسلم عن أبيه: "أن عمر حرَّم على نفسه اللحم عام الرمادة حتى يأكله الناس"، وما ذلك إلا ليشاركهم محنتهم وآلامهم...
ما لكِ أيتها الأرض، لماذا تتأرجحين؟!لقد كنت ثابتة راسخة مستقرة عليك الجبال الراسيات، فلماذا بمن عليك تميدين؟! هل ثقل عليك ما فوقك من جمادات وكائنات فعجزت عن حمله؟! أم أزعجك صنيع بعض البشر على ظهرك فأظهرت لهم شيئًا من الغضب؟! أم أردتِ أن تُذَكِّري أهل الأرض بما سوف تفعلين يوم القيامة؟! أم أنك مثلنا مأمورة بأمر الله -تعالى- فأنتِ تنفذين ما به تؤمرين؟!
لكنك لست وحدك تفعلين ما تؤمرين؛ بل هذه الرياح قد تثور بالأعاصير فتمحو مدنًا وبلدانًا... وهذه الجبال قد تساقط الصخور الجلاميد على بيوت الناس الآمنين... وهذا البحر قد يطغى بمياهه على اليابسة فيحيل كل مظاهر الحياة رسمًا بعد عين... وقد تثور البراكين فتقذف بحمم النيران تحرق الأخضر واليابس...
والحقيقة أنها سنة الله -تعالى- في هذه الحياة؛ أنها دار ابتلاء وامتحان وتمحيص، واستمع إلى القرآن الكريم يقول: (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ)[آل عمران: 186]، ويؤكد: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ)[البقرة: 155]، ويكرر: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً)[الأنبياء: 35]، ويوضح: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ)[العنكبوت: 2-3].
فهي طبيعة الدنيا؛ عجوز شمطاء دنية، قد اكتست بأجمل أنواع الثياب وأزهاها ألوانًا، تغر الناظر إليها بمظهرها، حتى إذا خبرها ورآها على حقيقتها لم يجد إلا الخداع والتغرير والفناء: (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ)[آل عمران: 185].
ولملم يا أخي الأشلاء من طرقات دنيانا *** فهذا طبعها دومًا؛ تحيل الفرح أحزانا
ولا تبقي على غال وإن قدمت قربانا *** فكم قد عانق الجوزاء فيها والأصيلان
رجالٌ غيَّروا التاريخ أفئدة وألوانا *** فأخذتهم كشمطاء بدت في العين شيطانا
***
ولله -تعالى- في ابتلاءاته الحكمة البالغة، بل هي حِكم كثيرة متعددة، فمنها:
التزكية والتطهير: فهذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إنما مثل العبد المؤمن حين يصيبه الوعك، أو الحمى كمثل حديدة تدخل النار فيذهب خبثها ويبقى طيبها"(رواه الحاكم وصححه، وصححه الألباني).
ومنها: تنزل العون من الله: فقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن المعونة تأتي من الله على قدر المؤونة، وإن الصبر يأتي من الله على قدر البلاء"(رواه البزار، وحسنه الألباني).
ومنها: النصر والتمكين: فإنهما لا يأتيان إلا بعد البلاء والتمحيص: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ)[البقرة: 214].
وسئل الشافعي -رحمه الله-: يا أبا عبد الله أيما أفضل للرجل أن يُمَكَّن أو يبتلي؟ فقال الشافعي: "لا يُمَكَّن حتى يبتلى"(الفوائد، لابن القيم)، وانظر إلى إبراهيم خليل الرحمن لما أُلقي في النار فصبر، خرج منها عزيزًا مظفرًا.. وما صار يوسف عزيزًا لمصر إلا بعد أن أُلقي في البئر ثم في غياهب السجن.. وانظر إلى موسى لما خرج من مصر ومن معه هاربين مستضعفين، فلق الله لهم البحر وأغرق عدوهم، بل انظر إلى نبينا -صلى الله عليه وسلم- لما لاقى من أهل مكة ما لاقى، جاءها فاتحًا منصورًا مؤيدًا..
ومنها: بلوغ المنازل العالية: فعن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الرجل لتكون له عند الله المنزلة، فما يبلغها بعمل، فلا يزال الله يبتليه بما يكره حتى يبلغه إياها"(رواه ابن حبان، وصححه الألباني).
والابتلاء كذلك علامة إرادة الله الخير بالإنسان؛ فعن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من يرد الله به خيرًا يصب منه"(رواه البخاري).
وهو كذلك علامة قوة الإيمان: فعن سعد بن أبي وقاص قال: قلت: يا رسول الله، أي الناس أشد بلاء؟ قال: "الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، فيبتلى الرجل على حسب دينه؛ فإن كان دينه صلبًا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه خطيئة"(رواه الترمذي، وصححه الألباني).
***
وفي هذه الأيام التي نحياها تتنزل الابتلاءات المتلاحقة على إخواننا في جنبات الأرض، ما بين تشريد وجوع وصقيع... ثم جاءت الزلازل المتلاحقة التي ضربت تركيا وسوريا ومصر ولبنان وغيرها من البلاد، حيث تجاوز عدد قتلى هذه الزلازل في سوريا وتركيا وحدهما أربعة آلاف وثلاثمائة قتيل حتى الآن، وغير هؤلاء يعانون أصناف المعاناة والحرمان.
وأول واجباتنا تجاه إخواننا المنكوبين:
أن نألم لآلامهم، فإن جرحهم هو جرحنا، فعن النعمان بن بشير أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد؛ إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى"(متفق عليه)، وفي لفظ لمسلم: "المسلمون كرجل واحد؛ إن اشتكى عينه اشتكى كله، وإن اشتكى رأسه اشتكى كله"... وعن زيد بن أسلم عن أبيه: "أن عمر -رضي الله عنه- حرَّم على نفسه اللحم عام الرمادة حتى يأكله الناس"(تاريخ المدينة، لابن شبة)، وما ذلك إلا ليشاركهم محنتهم وآلامهم.
أما الواجب الثاني: فأن نساندهم ونؤازرهم بجميع ما استطعنا: فعن أبي موسى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا" وشبك أصابعه (متفق عليه)، فنعينهم بأموالنا وبأيدينا وبكل ما نقدر عليه ولو كان قليلًا، ولقد مدح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من يتواسون ويتكافلون عند الشدائد؛ فقال: "إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو، أو قل طعام عيالهم بالمدينة، جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد، ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد، بالسوية، فهم مني وأنا منهم"(متفق عليه).
ولقد ظل النبي -صلى الله عليه وسلم- يتذكر مواساة أبي بكر له قائلًا: "إن الله بعثني إليكم فقلتم كذبت، وقال أبو بكر صدق، وواساني بنفسه وماله"(رواه البخاري).
ولا يحل ولا يجوز أن يتخلى المسلم عن إخوانه المنكوبين، فعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته"(متفق عليه).
وأما ثالث واجباتنا: فالاجتهاد في الدعاء لهم أن يفرِّج الله -عز وجل- كربهم ويزيل همهم وييسر أمرهم...
وتزامناً مع تداعيات هذه الأزمة وجهت قيادة الممكلة العربية السعودية ممثلة بالملك سلمان حفظ الله به العباد والبلاد بفتح جسري جوي لإمداد إخواننا المنكوبين في سوريا وتركيا، كما دعت كافة المواطنين إلى المساهمة في نجدة المتضررين بسبب الزلزال الذي أصابهم من خلال منصة ساهم؛ فشكر الله للجميع مواساتهم إخوانهم واستجابتهم لهذا النداء الإنساني والأخوي..
وفيما يلي عدد من الخطباء يناشدون الأمة من خلال خطبهم: أن واسووا إخوانكم، وكونوا معهم في شدتهم، ولا تخذلوهم ولا تسلموهم...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم