عناصر الخطبة
1/سعادة القلب وطمأنينة النفس غاية يسعى لها الناس جميعا 2/التنزه عن ذميم الصفات من أسباب السعادة 3/المسلم يتمنى الخير لأخيه 4/المسلم سليم الصدر من الحسد والضغائن 5/الحسد من أخبث الطبائعاقتباس
إنَّ تحقيقَ السعادة في الدنيا يَبعَث العبدَ على سلامة نفسه من الأحقاد، ويحثُّه على الفصل بين حظوظه التي نالَها من الحياة، وبين مشاعره تجاهَ إخوانه؛ فلا يجعل إخفاقَه فيما نجَح فيه غيرُه سببًا لتمني الفشل والخسران للناس جميعًا؛ إذ هو أزكى نفسًا من أن ينظر إلى الأمور نظرة شخصيَّة...
الخطبة الأولى:
الحمدُ للهِ واسعِ الجودِ والعطاءِ، أحمدُه -سبحانه- حمدًا يُبلِّغنا الزُّلفى إليه ويُنزِلُنا منازلَ السعداء، وأشهدُ ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، يختصُّ برحمته مَنْ يشاء، وأشهد أنَّ سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه، خاتمُ الأنبياء وقدوةُ الأتقياء، اللهمَّ صلِّ وسلِّم على عبدِكَ ورسولِكَ محمد، وعلى آله وصحبه، والتابعينَ ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم البعث والنشور والجزاء.
أما بعدُ: فاتقوا الله -عبادَ اللهِ-، فقد فاز وسَعِدَ مَنِ اتَّقاه، واستعدَّ لآخرته مِنْ دنياه؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا في سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[الْمَائِدَةِ: 35].
أيها المسلمون: إن سعادة القلب، وسرور النفس، وطِيب العيش، وصفاء الحياة غاية يسعى إليها الناس جميعًا، وهدف ينشده الخلق كافَّة، وأمل يرجو بلوغه العقلاء عامَّة، فتراهم يعملون كل وسيلة، ويتخذون كل سبب، ويركبون كل مركب، يبلغون به هذه الغاية، ويصلون به إلى هذا المراد، وإن من أنار الله بصيرته، وألهمه رشده، يعلم أن غاية سعادة العبد واللذة التامَّة، والفرح والسرور وطيب العيش إنما هو في معرفة الله -تعالى- وتوحيده والأنس به، والشوق إلى لقائه، قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "الإيمان بالله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- هو جماع السعادة وأصلها" انتهى كلامه -رحمه الله-.
وإن آيات الكتاب الحكيم لَتُذَكِّرُ بأن الاستمساك بدين الله، وطاعته -جلَّ في علاه-، والاستقامة على منهجه، واتباع رضوانه وتَرْك معصيته، تضمَن التمتُّعَ بالحياة الطيبة في الدنيا بطمأنينة القلب وسكون النفس، كما قال -عزَّ اسمُه-: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[النَّحْلِ: 97].
وفي الإحسان إلى الخلق -يا عباد الله- في كل دروب الإحسان، بنفعهم بكل ما يمكن نفعُهم به، مِنْ مالٍ وجاهٍ وتعليمِ علمٍ نافعٍ، وأمرٍ بمعروف، ونهيٍ عن منكَر، وصلة وصدقة وغيرها، في ذلك تأثير عجيب في شرح الصدر، وسرور النفس.
عبادَ اللهِ: ومن أعظم ما يدرك به المرء حظه من السعادة وينال به نصيبه من النجاح التنزُّه عن ذميم الصفات، ومقبوح الأخلاق، وسلامة الصدر من الأحقاد، وبراءته من الضغائن، وصيانته من الشحناء، ولقد شرع الله لعباده من المبادئ والمسالك، ما يدفع عنهم عوادي الفُرْقة، وبواعث الشحناء، وينشر بينهم السعادة والمحبة والصفاء؛ فمن ذلك:
النهي عن التحاسد والتدابر، الذي جاء فيه ما أخرجه الشيخان في صحيحهما، واللفظ للإمام البخاري -رحمه الله- عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا، وَلَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ" الحديثَ.
ومن ذلك أيضًا تحريم الغيبة، التي أوضح رسول الْهُدَى -صلى الله عليه وسلم- حقيقتها بقوله: "ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ" قِيلَ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ في أَخِي مَا أَقُولُ؟ قَالَ: "إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدْ بَهَتَّهُ" أخرجه الإمام مسلم في صحيحه.
وممَّا جاء تحريمه لكونه ذريعة إلى تكدير صفو النفوس، وتغيير القلوب: النميمة، فقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يدخل الجنة نمام" أخرجه الإمام البخاري في صحيحه، والنمام هو الذي ينقل الحديث بين الناس؛ بقصد إفساد وقطع حبل الود بينهم؛ ولذا نهى -صلوات الله وسلامه عليه-، أن يبلغ عن أصحابه بما يسوؤه، فقال: "لا يبلغني أحد منكم عن أحد من أصحابي شيئا؛ فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر"(أخرجه أبو داود في سُنَنِه بإسناد صحيح).
فاتقوا الله -عباد الله- واحرصوا على سلامة الصدور، أن تفسدها الأحقاد، وتعكر صفوها الضغائن التي يتنغص بها العيش، وتتكدر بها الحياة.
نفعني الله وإيَّاكم بهدي كتابه، وبسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم، ولكافة المسلمين من كل ذنب، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد للهِ الوليِّ الحميدِ، الفعَّالِ لِمَا يريد، أحمده -سبحانه-، وأشهدُ ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، المبدِئ المعيدِ، وأشهد أنَّ سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه، صاحب الخُلُق الراشد والنهج السديد، اللهُمَّ صلِّ وسلِّم على عبدِكَ ورسولِكَ محمد، وعلى آله وصحبه، ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم البعث والمزيد.
أمَّا بعدُ، فيا عبادَ اللهِ: إنَّ تحقيقَ السعادة في الدنيا يَبعَث العبدَ على سلامة نفسه من الأحقاد، ويحثُّه على الفصل بين حظوظه التي نالَها من الحياة، وبين مشاعره تجاهَ إخوانه؛ فلا يجعل إخفاقَه فيما نجَح فيه غيرُه سببًا لتمني الفشل والخسران للناس جميعًا؛ إذ هو أزكى نفسًا من أن ينظر إلى الأمور نظرة شخصيَّة، لكنَّه ينظر إلى الصالح العامّ، مهما فاته من حظوظ الدنيا؛ لأنَّه يعلم أن الحسد داء عضال، وخصم لا يجتمع مع الإيمان في قلب مؤمن أبدًا، كما جاء في الحديث الذي أخرجه الإمام النَّسائي في سُنَنِه، بإسناد صحيح، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنَّه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-فذكر الحديث- وفيه قال عليه الصلاة والسلام: "ولا يجتمعانِ في قلبِ عبدٍ الإيمانُ والحسدُ".
والحسدُ من أقبح الطباع وأفسد الأخلاق، وكفى به قبحًا أن المتصفينَ به يبغضون -لشدة الحسد- كلَّ مَنْ أحسَن إليهم إذا رأوه في حال أرقى وأسمى من أحوالهم؛ فهم في حزن دائم، وهمّ مقيم، لا يذوقون في حياتهم طعما للسعادة، ولا يهنأ لهم عيش ولا تطيب لهم حال؛ فاتقوا الله -عباد الله- واذكروا أنَّه لا سبيل إلى سرور النفس ونعيم القلب إلا بالإقبال على الله، فإنَّه لا حزن مع الله أبدًا، فمن كان الله معه فما له والحزن، وإنَّما الحزن كل الحزن لمن أعرض عن الله، فوكل إلى نفسه وهواه.
وصلُّوا وسلِّمُوا على خاتم رسل الله، محمد بن عبد الله، فقد أمرتم بذلك في كتاب الله، حيث قال سبحانه: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56]، اللهمَّ صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنَّكَ حميدٌ مجيدٌ، اللهمَّ بارِكْ على محمد وعلى آل محمد، كما باركتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنكَ حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهمَّ عن خلفائه الأربعة الراشدين، الأئمة المهديين؛ أبي بكر، وعمر، وعثمان وعلي، وعن سائر الآل والصحابة والتابعينَ، ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك، يا أكرم الأكرمين.
اللهمَّ أعزَّ الإسلام والمسلمين، واحمِ حوزة الدين، وانصُرْ عبادَكَ الموحِّدينَ، وألف بين قلوب المسلمين، ووحِّد صفوفَهم، وأصلح واجمَعْ كلمتَهم على الحق يا ربَّ العالمينَ.
اللهمَّ اجعل هذا البلد آمِنًا مطمئنًا وسائرَ بلاد المسلمين يا ربَّ العالمينَ، اللهمَّ آمنَّا في أوطاننا، وأصلِحْ أئمتَنا وولاة أمورنا، وأيِّد بالحق إمامَنا ووليَّ أمرنا خادم الحرمين الشريفي، وهيِّئ له البطانة الصالحة، ووفِّقه لما تحب وترضى، يا سميعَ الدعاء، اللهمَّ وفِّقه ووليَّ عهدِه إلى ما فيه خيرُ الإسلام والمسلمينَ، وإلى ما فيه صلاحُ البلادِ والعبادِ، يا مَنْ إليه المرجعُ يومَ المعاد، اللهمَّ احفظ هذه البلاد حائزة كل خير، سالمة من كل شر، وسائرَ بلاد المسلمين يا ربَّ العالمينَ، اللهُمَّ احفظ المسلمين في فلسطين، اللهُمَّ احفظ من بين أيديهم، ومن خلفهم، وعن أيمانهم، وعن شمائلهم، ومن فوقهم، ونعوذ بعظمتك أن يغتالوا من تحتهم، اللهُمَّ كن لهم معينًا وظهيرًا، ومؤيدا ونصيرًا، اللهمَّ عليك بعدوك وعدوهم يا ذا الجلال والإكرام، اللهُمَّ أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، اللهمَّ آتِ نفوسنا تقواها، وزكِّها أنتَ خيرُ مَنْ زكَّاها، أنتَ وليُّها ومولاها، اللهمَّ أحسِن عاقبتَنا في الأمور كلها، وأجِرْنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، اللهمَّ إنَّا نعوذ بكَ من زوال نعمتكَ، وتحوُّل عافيتكَ، وفُجاءة نقمتكَ، وجميع سخطكَ.
اللهمَّ اشفِ مرضانا، وارحم موتانا، وبلِّغْنا فيما يُرضِيكَ آمالَنا، واختِمْ بالباقيات الصالحات أعمالَنا؛ (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[الْأَعْرَافِ: 23]، (رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[الْبَقَرَةِ: 201]، اللهمَّ صلِّ الله محمد، وعلى آل محمد، كما صليتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنَّكَ حميدٌ مجيدٌ، والحمد لله رب العالمين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم