اقتباس
من أخطر الأدواء والآفات والأمراض على طريق الدعوة إلى الله، وأكبر العقبات على سبيل التمكين؛ اليأس والقنوط من رحمة الله، فمع اليأس يرتدي الداعية منظارًا أسود يرى به كل الأمور من حوله قاتمة لا نور فيها، ميتة لا حياة فيها، بائسة لا أمل فيها، مع اليأس يتحول الداعية من شعلة نشاط إلى رماد فاتر، ومن ..
من أخطر الأدواء والآفات والأمراض على طريق الدعوة إلى الله، وأكبر العقبات على سبيل التمكين؛ اليأس والقنوط من رحمة الله، فمع اليأس يرتدي الداعية منظارًا أسود يرى به كل الأمور من حوله قاتمة لا نور فيها، ميتة لا حياة فيها، بائسة لا أمل فيها، مع اليأس يتحول الداعية من شعلة نشاط إلى رماد فاتر، ومن منارة للهدى إلى حطام إنسان، لا يفكّر ولا يعمل ولا يحلم، بل لا يفكر حتى في الحلم، حاله كحال الشاعر عندما قال:
يا قـوم لا تتكلـموا *** إن الكـلام محـرم
ناموا ولا تستـيقظوا *** مـا فـاز إلا النُّوَّمُ
وتأخروا عـن كل ما *** يقضي بأن تتقدموا
ودعوا الـتفهم جانبًا *** فالخير أن لا تفهموا
وتثـبتوا في جهلكم *** فالشـر أن تتعلموا
أما السياسة فاتركوا *** أبـدًا وإلا تـندموا
بالجملة المرء مع اليأس هو والعدم سواء، وحياته وموته سيان، لذلك كان من أهم أولويات الدعاة الحذر من مزالق هذا المرض الخطير وآثاره وتداعياته وظواهره وأسبابه.
اليأس في اللغة العربية يدور على عدة معانٍ؛ منها: انقطاع الأمل من شيء، وانتفاء الطمع منه، ومنه قولنا: يئست المرأة، أي انقطع حيضها، كما في قوله: (وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنْ ارْتَبْتُمْ...) [الطلاق: 4]، ومنها أيضًا الذل والقهر والخضوع، واللين والتصاغر، فنقول: أيس أيسًا بمعنى ذل وخضع، وأيس فلان فلانًا أي قهره وأذله.
أما في الاصطلاح فاليأس هو انقطاع الرجاء من الفرج، وانقطاع الطمع من الخروج من الشدائد، وذلك بسبب غلبة العدو، واستطالة الباطل، وتأخر النصر، وضعف النتائج، أما القنوط فهو أشد اليأس أو قمة اليأس، ومنها قوله -عز وجل-: (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا) [الشورى: 28].
الإسلام قد وقف من اليأس والقنوط موقفًا حاسمًا قويًا؛ إذ عدّه من الكبائر المهلكة، وذهب بعض أهل العلم لاعتبار اليأس من الكفر المخرج من الملة إذا اقترن معه شك في قدرة الله وحكمته، كما ذهب لذلك صاحب الطحاوية، وقد حرّم الإسلام الوقوع في حبائل هذا المرض الخطير، ومن باب أولى الدعوة إليه، والقرآن أفاض في التحذير من اليأس والقنوط ومظاهره وآثاره، وذلك في آيات كثيرة منها: قوله -عز وجل- (يَا بَنِي اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ) [يوسف: 87]، وفي آية أخرى بيّن الله -عز وجل- أن اليأس من صفات وأخلاق الكافرين فقال: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُوْلَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [العنكبوت: 23]، وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنْ الآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ) [الممتحنة: 13]، وبيّن المولى في آيات أخرى أن اليأس هو شعار من يعبد الله على حرف، فإن أصابه الخير استبشر، وإن أصابه الضر يئس وتضجر، فقال: (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ) [هود: 9]، وقال: (لا يَسْأَمُ الإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ) [فصلت: 49]، وبيّن المولى في موضع آخر أن القنوط واليأس هو شعار الضالين الحائدين عن طريق الهداية والرشاد، فقال -عز وجل-: (قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنْ الْقَانِطِينَ * قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ) [الحجر: 55، 56].
واليأس داء نفسي خطير يصيب كثيرًا من الناس، وله عليهم آثار خطيرة، ولكن آثاره ومظاهره على الدعاة والعاملين في حقل الدعوة أشد خطورة وأعظم ضررًا، وهناك مظاهر كثيرة تدل على اليأس والقنوط في العمل الدعوي؛ من أبرزها:
الأول: الهزيمة النفسية؛ وهي تعتبر من أبرز مظاهر اليأس والقنوط من رحمة الله، فاليأس يفل القلوب ويأسر النفوس ويغتال الأحلام ويقتل الآمال، فيتحول الداعية لمهزوم نفسيًّا، وينعكس ذلك على قراراته وخطواته وتحركاته وخططه ومشروعاته، وتنعكس هذه الهزيمة أيضًا على سلوكه وهديه وسمته ودله، فترى كثيرًا من المنهزمين نفسيًّا أسرى الأوهام والظن، ويتولد عندهم فقدان ثقة وشك في صحة المنهج والطريق والعاقبة.
الثاني: الانبهار بما عند الغير -خاصة الغرب- من قوة وتقدم، والشعور المتنامي بالدونية أمام جبروت الخصوم وقوتهم، والثقة المطلقة بأعداء الأمة أنهم قادرون على إنفاذ مخططاتهم ومؤامراتهم ضد الأمة، وأنهم ممسكون بزمام الأمور في العالم بأسره، ويستتبع ذلك أيضًا تصديق لأعداء الأمة في كل ما يروجونه من أباطيل وأراجيف، لاسيما ما يتعلق بتاريخنا العظيم الذي تعمّد الغرب تشويهه وإهالة التراب على نقاطه المضيئة.
الثالث: القعود عن العمل والدعوة والتربية والبناء، بدعوى أن لا فائدة من هذا العمل ما دام أعداء الأمة ظاهرين وقاهرين لنا، وهذا ينعكس في صور كثيرة من أبرزها التخلي عن السنن والآداب الإسلامية، امتلاء القلوب بالخوف والفزع من قوة الخصوم، الانشغال بأمور الدنيا والانغماس في مباحاتها وشهواتها، تثبت همم الدعاة والمخلصين والعاملين لدين الله، بدعوى أنه لا فائدة من كل هذه الجهود، وأنها ستذهب أدراج الرياح.
وربما يتعجب البعض من هذا المرض الفتاك، كيف له أن يتسلل بين صفوف الدعاة والعاملين لدين الله، على الرغم من التحذير السماوي منه؟! وكيف يصل هذا الداء القتّال إلى القلوب المخلصة والهمم المرابطة، وهي تعيش في أجواء القرآن والسنة والالتزام بهدي الإسلام ومنهجه؟!
والحقيقة أن هناك الكثير والكثير من أسباب وبواعث الوقوع في اليأس خاصة في هذا الحقل المليء بالمتاعب والهموم، ولكن ذلك كله لا يبرر مطلقًا لأحد من الدعاة أن يسمح لنفسه أن يسترسل مع هذه الآفة الخطيرة ويسمح لها بالاستيلاء على قلبه، والاستحواذ على نفسه، ومن هذه الأسباب:
أولاً: عدم معرفة الله -عز وجل- حق المعرفة؛ ذلك أن من عرف ربه بأسمائه وصفاته، وأنه سبحانه منزه عن كل نقص، موصوف بكل كمال، واستقرأ هذه الصفات والمعارف الربانية في كتابه العزيز، علم أن الله ناصر المؤمنين، ومخزي الكافرين، وأن جند الله -عز وجل- هم المفلحون وهم الغالبون، علم أن من توكل على الله -عز وجل- وحده كفاه من شر كل ذي شر، وكيد كل ذي كيد، فالله كافٍ عبده، وناصر جنده، شريطة أن يكونوا أهلاً لهذا النصر، متحلين بالتقوى والقوة واليقين والصبر؛ لأن الطريق طويل، والساقطون على جنباته كثير، لا ينجو إلا المخلصون، ومن تخلّفت عنه هذه المعارف، ساء ظنه بربه -عز وجل-، كما قال الله -عز وجل-: (وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ...) [آل عمران: 154]، وقوله: (وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ...) [الفتح: 6]، قال ابن القيم -رحمه الله-: "فمن ظنّ بأنه لا ينصر رسوله، ولا يتم أمره، ولا يؤيده، ويؤيد حزبه ويعليهم، ويظفرهم بأعدائه، ويظهرهم عليهم، وبأنه لا ينصر دينه وكتابه، وأنه يديل الشرك على التوحيد، والباطل على الحق إدالة مستقرة يضمحل معها التوحيد والحق اضمحلالاً، فقد ظن بالله ظن السوء، ونسبه إلى خلاف ما يليق بكماله وجلاله وصفاته ونعوته".
ثانيًا: كثرة الإخفاقات والفشل: تكرار الفشل، ودوام التعثر من الأمور التي تصيب الدعاة بالإحباط وتجعل اليأس يتسرب إلى قلوبهم، وما من عمل إلا وهو عرضة للفشل والنجاح، ومن منّا قضى حياته كلها في نجاحات مستمرة؟! وكذلك العكس، فالحياة ما هي إلا حلقات متواصلة من النجاح والفشل، والفوز والإخفاق، وبالنظر إلى أحوال أمتنا الإسلامية عبر العصور يجدها كانت ظاهرة منتصرة قوية في أوائل أمرها، ثم أخذت في التراجع والانحدار شيئًا فشيئًا، ولكنها في كل مرة كانت تتعرض فيها لكبوة أو نازلة، كانت سرعان ما تسرد عافيتها، وتواصل مسيرتها، ولو وقفت يومًا عند مصائبها وهزائمها، ودب اليأس إليها؛ ما ظلت على قيد الحياة لوقتنا الحاضر، وإلى قيام الساعة.
أيضًا الفشل والإخفاق هذا ليس من حظ الأمة الإسلامية وحدها، فأعداء الأمة يألمون ويفشلون ويخفقون، وقمة إخفاقهم أنهم لم يستطيعوا حتى الآن القضاء على الأمة الإسلامية، ولهذا المعنى أشار المولى -جل وعلا- في كتابه الحكيم: (إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنْ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ) [النساء: 104]، فأعداء الأمة والمتربصون بالدعاة مهما بلغت قوتهم، فهم أمام قوة الله وقضائه وقدره لا شيء مطلقًا، ومجتمعاتهم الموصوفة بالتقدم والرقي والازدهار، تعج بالجريمة والفساد والانحراف والإلحاد، بل وتعج باليأس والتيه والإحباط، ولعل معدلات الانتحار في هذه المجتمعات الراقية! خير دليل على مدى الفشل الذي عليه هذه المجتمعات.
ثالثًا: الانفراد: فالعمل الجماعي الذي تتكامل فيه الجهود، وتتناسق فيه الخطط والاستراتيجيات، ويشترك فيه أطياف التيار الدعوي الكبير في الأمة، عمل تتزايد فيه فرص النجاح، ما سيحجم فرص ظهور داء اليأس بين الصفوف، وفي المقابل فإن العمل بصورة فردية، وشيوع ثقافة الاعتداد بالنفس، والانفراد بالرأي، والإصرار على العمل بصورة فردية؛ أدى لسلسلة متتابعة من الإخفاقات، دفعت ثمنها الدعوة الإسلامية والعمل الخيري والتطوعي، والنتيجة الطبيعية الشعور بالإحباط واليأس، وإذا دبّت القطيعة بين أبناء الأمة الواحدة، وعلتها الفرقة والاختلاف؛ زال الأمل في الإصلاح، وخفت صوت الرجاء والتفاؤل، وحل اليأس والإحباط.
رابعًا: معايشة اليائسين: فالطباع سرّاقة، وأمراض القلوب معدية، والصاحب ساحب، ومعايشة ذوي الهمم الساقطة والعزائم الخائرة تقود حتمًا إلى الفشل واليأس، وجيش الأرانب الذي يقوده الأسد، ينتصر على جيش الأسود الذي يقوده الأرنب، فضعف الهمم وفتور العزائم ونزول الإرادات كلها مغذيات لليأس والإحباط؛ لأن الدنيا مليئة بالصعاب والعقبات التي تحتاج إلى العزيمة الصادقة والهمة العالية حتى يتجاوزها المرء، وبدونها يبقى خلف الحواجز أبد الدهر أسير ضعفه وخنوعه.
اليأس والإحباط أصبح اليوم ظاهرة كونية عالمية لا يعاني منها بعض الدعاة فقط، بل يعاني منها الكثيرون من أبناء الأمة الإسلامية، لذلك فروشتة علاج هذا الداء الفتاك تبدأ من تقوية العقيدة في قلوب المسلمين، وتربيته على الصلة القوية بربهم -جل في علاه-، فالمعرفة الحقة بأسماء الله وصفاته ونعوته وآلائه وسننه في الكون والخلق والحياة تورث الإنسان يقينًا راسخًا وإيمانًا حيًّا.
أيضًا لابد من مطالعة سيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- والتعرف على أيامه ولياليه وكفاحه وجهاده في سبيل الله، كيف مرت به الشدائد والمحن والابتلاءات وهو راسخ كالطود العظيم، صابرًا محتسبًا متفائلاً موقنًا بأمر ربه، لا يعرف اليأس إلى قلبه سبيلاً، وعلى دربه سار الصحب الكرام، صادفتهم الشدائد والنوازل الكبرى من حركات للردة، وفتن واضطرابات وتكالب للعدو داخل الجزيرة وخارجها، ومع ذلك فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا، فالقلوب بربها موصولة، وبوعده واثقة، لذلك بنوا الأمجاد وشيدوا الحضارات وأقاموا الممالك الكبرى.
أيضًا يجب علينا أن ننظر إلى فضل الله وكرمه ولطفه الخفي، وكيف أن الدين ينتصر وينتشر بكل قوة رغم قلة الإمكانات وكثرة المؤامرات، والإحصائيات الحديثة عن أعداد من اعتنق الإسلام في دول الغرب تبعث في قلوب أشد الناس يأسًا أملاً في نصر الله -عز وجل- لهذا الدين.
سلسلة ‘أمراض على طريق الدعوة‘ (1) التصدر وطلب الرئاسة
سلسلة أمراض على طريق الدعوة (2) العجلة في الحكم وعدم التثبت
سلسلة أمراض على طريق الدعوة (4) رد النصيحة ورفض النقد
سلسلة أمراض على طريق الدعوة (5) المراء والجدل
سلسلة أمراض على طريق الدعوة (6) سوء الظن
سلسلة أمراض على طريق الدعوة (7) التنطع والغلو
سلسلة أمراض على طريق الدعوة (8) إتباع الهوى
سلسلة أمراض على طريق الدعوة (9) العجب بالنفس
أمراض على طريق الدعوة (10) تنافس الدنيا
أمراض على طريق الدعوة (11) الفتـور
أمراض على طريق الدعوة (12) الغضب
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم