اقتباس
والمراء والجدل من الأمور المركوزة في النفس البشرية ، قل من يسلم منها ، لأنها تحتاج إلى مجاهدة ومكابدة للنفس والذات ، فهو يترك على الناس والدعوة آثارا خطيرة ويورث أضرارا عظيمة أبرزها : قسوة القلب ، فالجدل والمراء مبني على الكلام الكثير عديم الفائدة ، ولا طائل من ورائه سوى إفحام الخصم ، والغالبة عليه ولو بالباطل ...
من أبرز الأمراض التي تعيق العمل وتوقف عجلة الإنتاج وتورث الخصومة والعداوة بين الناس عامة والدعاة خاصة ؛ مرض المراء والجدل في كل شيء وكل مسألة تهم الدعوة ، وهو ما سنحاول الوقوف عليه لمعرفة حقيقته وأبعاده ومظاهره وأسبابه وكيفية النجاة منها ومداواة آثاره .
المراء في اللغة له عدة معان ، أهمها : الشك ، فيقال : امترى في الشيء : يعني شك فيه ، ومنه قوله سبحانه في محكم التنزيل ( الحق من ربك فلا تكونن من الممترين ) [ البقرة 147] ، ومنها مخالفة الغير والتلوي عليه وعدم الوضوح معه ، فيقال : مارى فلان فلانا : أي خالفه ولم يكن واضحا معه ، ومنها المناظرة ، فيقال مارى فلان فلانا : أي ناظره وجادله ، ومنها قوله سبحانه ( فلا تمري فيهم إلا مراء ظاهرا ) [ الكهف 22] ، ومنها استخراج الشيء من مكمنه ، ومنه امترى الناقة : أي حلبها واستخرج ما فيها من لبن ، ومنها التزين والتجمل ، فيقال : تمّرى بالشيء : أي تزين وتجمل به .
أما الجدل في اللغة فله عدة معان ، أهمها : الصّرع والغلبة ، فيقال : جدل الرجل : أي صرعه وغلبه في الجدل ، ومنها الإتقان والحسن ، فيقال : جدل الحبل جدلا ، أي احكم فتله ، وجارية مجدولة الخلق أي حسنة الخلق ، ومنها شدة الخصومة والمناقشة ، فيقال : جادله مجادلة وجدالا أي ناقشه ومنها قوله سبحانه ( ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن ) [ العنكبوت 46] ، ومنها قوله ( قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله ) [ المجادلة 1 ] ، ومنها مقابلة الحجة بالحجة ، فيقال : جادل فلان فلانا : أي قابل حجته بحجة من عنده .
أما في الاصطلاح فالجدل والمراء : " هو كل اعتراض على كلام الآخرين بإظهار الخلل فيه ، أما من حيث الظاهر أو الباطن ، وقصد إفحام الغير ، وتعجيزه وتنقيصه بالقدح في كلامه ، ونسبته إلى القصور والجهل فيما يتكلم ، والمراء أعم من الجدل ، إذ جرت العادة على أن المجادلة في الأمور العلمية والدعوية ، والمراء يشمل الأمور كلها "
ومن خلال هذا التعريف يتضح لنا أن مظاهر وصور الجدل والمراء تدور على قاعدة أساسية وهي الانتقاص من الآخرين ، وتقليل مكانتهم وقدرهم وربما احترامهم ، أما في ظاهر كلامهم أو مقصده ومعناه ، ونية المتكلم ، لذلك كان حكم الإسلام في هذه الطريقة من التحاور مع الآخرين واضحا لا لبس فيه ، فهو مذموم مكروه ، وهذا ما دلت عليه نصوص الوحيين من الكتاب والسنة المطهرة :
قال تعالى ( فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا ولا تستفت فيهم منهم أحدا ) [ الكهف 22] ، وقال ( ألا إن الذين يمارون في الساعة لفي ضلال بعيد ) [ الشورى 18 ] ، وقال ( بأي آلاء ربك تتمارى ) [ النجم 55] ، قال ( قالوا بل جئناك بما كانوا فيه يمترون ) [ الحجر 63] وقال ( وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان نكير ) [ غافر 5 ] وقال ( الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطن أتاهم كبر مقتا عند الله ) [ غافر 35] وآيات أخرى كثيرة .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقا ، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحا ، وببيت في أعلى الجنة لمنم حسن خلقه " وقال " ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل " وقال " أبغض الرجال الألد الخصم "
ولا يستثنى من هذا الذم كله إلا الجدال بالحسنى مع من يريد أن يعرف طريق الحق والهدى إن كان متلبسا ببدعة أو شبهة أو تأويل فاسد ، قال تعالى ( ولا تجادوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن ) [ العنكبوت 46] وقال ( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ) [ النحل 125] .
والمراء والجدل من الأمور المركوزة في النفس البشرية ، قل من يسلم منها ، لأنها تحتاج إلى مجاهدة ومكابدة للنفس والذات ، فهو يترك على الناس والدعوة آثارا خطيرة ويورث أضرارا عظيمة أبرزها : قسوة القلب ، فالجدل والمراء مبني على الكلام الكثير عديم الفائدة ، ولا طائل من ورائه سوى إفحام الخصم ، والغالبة عليه ولو بالباطل ، وكثرة الكلام الفارغ عديم الفائدة بغير ذكر الله يورث قسوة القلب وفي الحديث " لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله ، فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة للقلب ، وإن أبعد الناس من الله تعالى القلب القاسي " ، ومنها أيضا القطيعة والشقاق ؛ فإن المراء والجدل يجعل المرء كثير المشاحنات مع غيره ، وكثير الرفض لكلام الآخرين ، ودائم التسفيه والتحقير لرأي غيره ، مما يوجب البغض والقطيعة والتآمر من الآخرين ، وطبيعة البشر أنهم يكرهون ويبغضون من يسفه كلامهم ويحقر منها ، قال الإمام مالك رحمه الله " المراء يقسي القلب ، ويورث الضغائن " ، ومن آثاره الخطيرة أيضا ضياع الهيبة وسقوط المروءة ، لأن الجدل والمراء يدفع لئن يقدم المتجادل لئن يكشف كل الأسرار ويهتك كل الخصوصيات ، من أجل تحقيق الغلبة بأي سبيل ولو كانت غير مشروعة ، وربما أقدم على الكذب والشتم والسب ، فتضيع هيبته وكرامته ومكانته ، ومنها أيضا الفرقة والتمزق في الصف الدعوي بسبب كثرة المخاصمات والمجادلات ، ومنها ترك العمل والانشغال بالجدليات والمناظرات العقيمة ، وقديما قالوا " ما ترك قوم العمل إلا ضربهم الله بالجدل " . وغير ذلك من آثار المراء والجدل .
ومن أهم الأسباب التي تدفع المرء لئن يدخل من مجادلات ومراء ومناقشات عقيمة مع الآخرين :
أولا : عدم الالتزام بآداب النصيحة
فإن من لم يلتزم بآداب النصيحة مع المتكلم ، من الإسرار بها وانتقاء الأسلوب المناسب ومراعاة الإخلاص، فإن ذلك يدفع من يتلقى النصيحة لرفضها والمكابرة فيها ، حيث يتولد في نفس المنصوح نوعا من العزة بالإثم ، يترجم في شكل جدال ومراء لا ينتهي ، حيث يؤكد على أهمية وخطورة مراعاة آداب النصيحة ، وأنها ربما ترقى لدرجات الواجبات لأن تركها وتجاهلها يولد أنواعا مختلفة من الشرور والإحن .
ثانيا : تضخيم الذات
فبعض الدعاة قد لنفسه فضلا وعلما ومنزلة لا يشعر بها كثير من الناس ، قد يري نفسه في منزلة ومكانة لا يليق بها في أوساط الدعاة ، أو أنه جدير أن يرقى لمصاف الكبار ، وهو لم يرش بعد ، فيحاول أن يثبت نفسه ، فيضخم ذاته بمعارضة الآخرين ، والجدل والمراء في كل قضية تظهر على الساحة ، ولا عجب لو رأينا بعض الدعاة دائم التطبيق لقاعدة " خالف تعرف " حتى ولو كان فيما أجمع عليه الناس ورضيه الدعاة والمصلحون ، ليذكر اسمه ويرى مكانه ، في زمن يبحث فيه الإعلام عن أمثال هؤلاء ، وقديما عندما بال الإعرابي في زمزم وتعجب الناس من صنيعه قال " أحببت أن أذكر ولو باللعن " .
وربما يقود تضخيم الذات إلى الوقوع لما هو أعظم من ذلك وهو الغرور والعجب بالنفس والتكبر على خلق الله ، ولو نظرت لكثير ممن يجادلون بغير الحق لوجدت هذا الداء الوبيل في قلوبهم معشعشا ، وإبليس هو أول من جادل ومارى في الحق عندما أمره ربه عز وجل بالسجود لآدم عليه السلام ، فرفض الأمر ، وجادل بقوله ( أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ) [ ص 76] ، قال تعالى في موضع آخر كاشفا العلاقة بين الجدل والكبر ( إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه ) [غافر56] .
ثالثا : رفض الهزيمة
النفس البشرية بطبيعتها تحب الانتصار وتكره الهزيمة ، وهذه الطبيعة البشرية إذا تجاوزت حدها المعتاد فإنها تتحول إلى حائط صد مستمر نحو الإقرار بالخطأ والاعتراف بالهزيمة ، وللأسف الشديد هذا هو حال كثير من الناس ، فتجدهم يتخذون الكثير من الوسائل لتبرير مواقفهم وأرائهم ، وعلى رأس هذه الوسائل المراء والجدل ، لذلك كان الإسلام حريصا على تربية أتباعه على قبول الحق والإنصاف ولو من النفس ، قال تعالى ( يا أيها الذين كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين .. ) [ النساء 135] ، وقال ( يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى .. ) [ المائدة 8] ، قال النبي صلى الله عليه وسلم " ثلاث من جمعهن فقد جمع الإيمان : الإنصاف من نفسك ، وبذل السلام للعالم ، والإنفاق من الإقتار " ، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يري الرأي فيراجعه فيه أصحابه وزوجاته ، فيرجع إلى قولهم ، وربما كان رأيه الصواب ورأي من يراجع أقل صوابا ، كما حدث يوم أحد ، ومع ذلك يرجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى قولهم ليؤدبهم ويعلمهم قبول الرأي الآخر .
رابعا : الاشتغال بعلوم الجدل والمناظرة
البناء العلمي للطلبة والدعاة من الأمور الأساسية في استقامة سير الدعاة والعلماء ، فالعلم هو الأساس المتين الذي ينطلق منه الدعاة ، وقاعدة الانطلاق الصحيح نحو التمكين ، ولو حدث أي خلل في هذه القاعدة فإن تأثيره السلبي سيمتد طوال مسيرة الداعية ، ستجلى في مواقفه وأرائه وقراراته التي سيشوبها دوما هذا الخلل ، ولو نظرت إلى الداعية المصاب بداء الجدل والمراء ، لوجدته في مرحلة الطلب قد أهمل علوم الكتاب والسنة ، وتوسع في علوم الجدل والمناظرة والمنطق والفلسفة وغيرها من علوم الكلام ، وهي علوم لا تقوم إلا على الجدل والشك والمراء وإفناء الأعمار في إثبات وجود الصانع ! ولعل هذا الخلل هو الذي أوجد في الإسلام عشرات الفرق الضالة والمذاهب المخالفة لأهل السنة والجماعة مثل المعتزلة والجبرية والقدرية والصوفية والشيعة بفرقها الكثيرة ، لذلك نهى كثير من أهل العلم عن تعلم هذه العلوم السقيمة التي تقتل الروح وتسلب الإيمان وتورث اللجاج و الخصومة والجدل والشك في كل شيء .
خامسا : غياب التقوى
فالقلب إذا كان فارغا من التقوى ومن معرفة الله عز وجل ، خالطته الأسقام والأحوال الرديئة ، وتاه في زحمة الشهوات ، فالتقوى تحمل النفس على قبول الحق والإذعان له والوقوف عنده ، وترك الجدل والمراء فيما استبان الحق فيه ، لذلك كان من الخطورة بمكان ترك مراقبة القلب وأحواله وتقلباته ، في الوقت الذي فيه عدو متربص ـ الشيطان ـ لا يكف عن التزيين والتضليل والإغواء ، وفي الوقت التي تطالب النفس فيه بحظها ونصيبها من شهوات الدنيا ، ومن ذات المنطلق حض الإسلام على استثمار الفراغ وتنويع العبادات ومحاسبة النفس باستمرار ، قال تعالى ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله .. ) [ الحشر 18 ] .
سلسلة ‘أمراض على طريق الدعوة‘ (1) التصدر وطلب الرئاسة
سلسلة أمراض على طريق الدعوة (2) العجلة في الحكم وعدم التثبت
سلسلة أمراض على طريق الدعوة (3) اليأس والقنوط
سلسلة أمراض على طريق الدعوة (4) رد النصيحة ورفض النقد
سلسلة أمراض على طريق الدعوة (6) سوء الظن
سلسلة أمراض على طريق الدعوة (7) التنطع والغلو
سلسلة أمراض على طريق الدعوة (8) إتباع الهوى
سلسلة أمراض على طريق الدعوة (9) العجب بالنفس
أمراض على طريق الدعوة (10) تنافس الدنيا
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم