تهجير المسلمين.. لماذا؟!

الشيخ د إبراهيم بن محمد الحقيل

2022-10-10 - 1444/03/14
عناصر الخطبة
1/ شدة الابتلاء بالتهجير من البيوت 2/ سيرة المسلمين عند فتحهم للبلاد 3/ امتناع المسلمين عن تهجير المخالفين 4/ صور من أعمال النصارى واليهود والروافض في تهجير المسلمين وتشريدهم 5/ حاجة المسلمين إلى الثقة واليقين برب العالمين.

اقتباس

مِنْ أَشَدِّ الِابْتِلَاءِ وَطْأَةً عَلَى النُّفُوسِ الْإِخْرَاجُ مِنَ الدِّيَارِ، وَالطَّرْدُ مِنَ الْأَوْطَانِ، وَالتَّهْجِيرُ بِقُوَّةِ السِّلَاحِ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَرْكًا لِمَأْلُوفِ النُّفُوسِ، وَإِقْبَالًا عَلَى المَجْهُولِ. وَفِيهِ انْخِلَاعٌ مِنَ الْأَمْلَاكِ الَّتِي أَفْنَى الْإِنْسَانُ عُمْرَهُ فِي تَشْيِيدِهَا وَتَحْسِينِهَا وَتَنْمِيَتِهَا، فَيَنْتَقِلُ المُهَجَّرُ قَسْرًا مِنْ عِزِّ بَلَدِهِ وَعَشِيرَتِهِ إِلَى ذُلِّ أَغْرَابٍ عَنْهُ، وَمِنْ غِنَاهُ بِمُلْكِهِ إِلَى فَقْرِهِ وَحَاجَتِهِ إِلَى غَيْرِهِ...

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الْحَمْدُ لِلَّـهِ خَالِقِ الْخَلْقِ، وَمُدَبِّرِ الْأَمْرِ، فَلَا يَقَعُ شَيْءٌ إِلَّا بِأَمْرِهِ، وَلَا يُقْضَى شَأْنٌ إِلَّا بِعِلْمِهِ ?لِلَّـهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ? [المائدة: 120]، نَحْمَدُهُ كَمَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُحْمَدَ مِنْ رَبٍّ حَكِيمٍ عَلِيمٍ لَطِيفٍ خَبِيرٍ رَحِيمٍ، لَا يَقْضِي قَضَاءً لِلْمُؤْمِنِينَ إِلَّا كَانَ خَيْرًا لَهُمْ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، وَمَنْ سَخِطَ فَعَلَيْهُ السُّخْطُ.

 

وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ?إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ? [يس: 82-83].

 

وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ كَانَ شَدِيدَ التَّعَلُّقِ بِاللَّـهِ تَعَالَى، عَظِيمَ الْيَقِينِ فِيهِ، شَدِيدَ الرَّجَاءِ لَهُ، كَثِيرَ الْخَوْفِ مِنْهُ، إِذَا اشْتَدَّ الْعُسْرُ عَلِمَ أَنَّ الْفَرَجَ قَرِيبٌ، بَشَّرَ بِكُنُوزِ كِسْرَى وَهُوَ فِي الْغَارِ يَطْلُبُهُ المُشْرِكُونَ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

 

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ -تَعَالَى- وَأَطِيعُوهُ؛ فَإِنَّ فِي التَّقْوَى مَخَارِجَ مِنَ المَضَايِقِ، وَسَكِينَةً عِنْدَ المَصَائِبِ، وَنَجَاةً يَوْمَ التَّغَابُنِ ?وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّـهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ * وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ? [الزمر: 60- 61].

 

أَيُّهَا النَّاسُ: مِنْ أَشَدِّ الِابْتِلَاءِ وَطْأَةً عَلَى النُّفُوسِ الْإِخْرَاجُ مِنَ الدِّيَارِ، وَالطَّرْدُ مِنَ الْأَوْطَانِ، وَالتَّهْجِيرُ بِقُوَّةِ السِّلَاحِ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَرْكًا لِمَأْلُوفِ النُّفُوسِ، وَإِقْبَالًا عَلَى المَجْهُولِ. وَفِيهِ انْخِلَاعٌ مِنَ الْأَمْلَاكِ الَّتِي أَفْنَى الْإِنْسَانُ عُمْرَهُ فِي تَشْيِيدِهَا وَتَحْسِينِهَا وَتَنْمِيَتِهَا، فَيَنْتَقِلُ المُهَجَّرُ قَسْرًا مِنْ عِزِّ بَلَدِهِ وَعَشِيرَتِهِ إِلَى ذُلِّ أَغْرَابٍ عَنْهُ، وَمِنْ غِنَاهُ بِمُلْكِهِ إِلَى فَقْرِهِ وَحَاجَتِهِ إِلَى غَيْرِهِ، فَلَا عَجَبَ أَنْ يَقُولَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ مَكَّةَ: «مَا أَطْيَبَكِ مِنْ بَلَدٍ، وَأَحَبَّكِ إِلَيَّ! وَلَوْلَا أَنَّ قَوْمِي أَخْرَجُونِي مِنْكِ مَا سَكَنْتُ غَيْرَكِ» (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ).

 

وَمَنْ نَظَرَ فِي التَّارِيخِ، وَأَبْصَرَ الْوَاقِعَ؛ وَجَدَ أَنَّ المُسْلِمِينَ هُمْ أَكْثَرُ الْأُمَمِ تَهْجِيرًا مِنْ بُلْدَانِهِمْ، وَإِخْرَاجًا مِنْ دِيَارِهِمْ، يَفْعَلُ أَعْدَاؤُهُمْ بِهِمْ ذَلِكَ عَلَى مُخْتَلَفِ أَجْنَاسِهِمْ وَأَدْيَانِهِمْ، مَعَ أَنَّ المُسْلِمِينَ أَيَّامَ قُوَّتِهِمْ لَمْ يُهَجِّرُوا أَهْلَ الْبُلْدَانِ الَّتِي فَتَحُوهَا، بَلْ ضَمُّوهُمْ إِلَى نِظَامِهِمْ، وَأَدْخَلُوهُمْ فِي ذِمَّتِهِمْ، وَوَفُّوا لَهُمْ عُهُودَهُمْ، وَحَفِظُوا لَهُمْ حُقُوقَهُمْ، وَلَمْ يُهَجِّرُوا أَحَدًا مِنْهُمْ إِلَّا لِخِيَانَةٍ ظَهَرَتْ مِنْهُمْ؛ فَكَانَ الْجَلَاءُ اتِّقَاءً لِشَرِّهِمْ، وَهَذِهِ إِطَلَالَةٌ سَرِيعَةٌ عَلَى التَّارِيخِ، وَتَذْكِيرًا بِالْوَاقِعِ الْقَرِيبِ: 

 

فَتَحَ المُسْلِمُونَ الْأَنْدَلُسَ فَلَمْ يُهَجِّرُوا النَّصَارَى مِنْهَا، بَلْ عَاشُوا ضِمْنَ حَضَارَتِهِمْ، وَآبَ إِلَيْهِمُ الْيَهُودُ لِحَمَايَتِهِمْ مِنْ بَطْشِ النَّصَارَى فَدَخَلُوا فِي ذِمَّتِهِمْ، وَالتُّرَاثُ الْعِلْمِيُّ الْأَنْدَلُسِيُّ كَمَا خَطَّتْهُ أَقْلَامُ المُسْلِمِينَ شَارَكَتْ فِيهِ أَقْلَامُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى كَمَا تَشْهَدُ بِذَلِكَ الْكُتُبُ الْأَنْدَلُسِيَّةُ.

 

لَكِنْ لمَّا غَلَبَ النَّصَارَى عَلَى الْأَنْدَلُسِ نَقَضُوا عُهُودَهُمْ مَعَ المُسْلِمِينَ، وَنَصَبُوا مَحَاكِمَ التَّفْتِيشِ لَهُمْ لِتَنْصِيرِهِمْ أَوْ تَهْجِيرِهِمْ. وَمَنْ تَنَصَّرُوا لِأَجْلِ أَمْلَاكِهِمْ وَأَمْوَالِهمْ فُرِضَتْ عَلَيْهِمْ رِقَابَةٌ شَدِيدَةٌ فَمَنْ شَكُّوا فِي وَلَائِهِ لِلْكَنِيسَةِ عَذَّبُوه أَوْ أَحْرَقُوهُ حَيًّا، حَتَّى هُجِّرَتْ شُعُوبٌ مُسْلِمَةٌ كَامِلَةٌ مِنَ الدِّيَارِ الْأَنْدَلُسِيَّةِ الَّتِي عَمَرَتْهَا ثَمَانِيَةَ قُرُونٍ.

 

وَقَبْلَ نَحْوِ سَبْعِينَ سَنَةً قَامَ الزَّعِيمُ الشِّيُوعِيُّ الدَّمَوِيُّ سَتَالَيْن بِأَكْبَرِ عَمَلِيَّةِ تَهْجِيرٍ لِلشُّعُوبِ الْقُوقَازِيَّةِ وَالتَّتَرِيَّةِ المُسْلِمَةِ إِلَى صَحْرَاءِ سَيْبِيرِيَا الْجَلِيدِيَّةِ؛ لِيَمُوتَ عَشَرَاتُ الْآلَافِ مِنْهُمْ فِي عَمَلِيَّةِ التَّهْجِيرِ، ثُمَّ يَمُوتُ نِصْفُهُمْ فِي سَيْبِيرِيَا مِنَ الْجُوعِ وَالْبَرْدِ.

 

وَبَعْدَ تَهْجِيرِ المُسْلِمِينَ التَّتَرِ وَالْقُوقَازِ بِأَرْبَعِ سَنَوَاتٍ فَقَطْ جِيءَ بِالصَّهَايِنَةِ إِلَى الْقُدْسِ، وَتَمَّ تَهْجِيرُ أَهْلِهَا مِنْهَا بِالْقُوَّةِ، وَأُعْطِيَتْ أَمْلَاكُهُمْ لِلْيَهُودِ المُجَمَّعِينَ مِنَ الْآفَاقِ؛ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ المُبَارَكَةِ.

 

وَبَعْدَ تَهْجِيرِ المَقَادِسَةِ مِنْ دِيَارِهِمْ بِعَامٍ وَاحِدٍ دَخَلَ الشِّيُوعِيُّونَ تُرْكُسْتَانَ الشَّرْقِيَّةَ وَاحْتَلُّوهَا، وَوَطَّنُوا مَلَايِينَ الْبُوذِيِّينَ الْهَانِ لِتَغْيِيرِ التَّرْكِيبَةِ السُّكَّانِيَّةِ، وَمُنْذُ ذَلِكَ الْحِينِ وَإِلَى الْآنَ لَا يَزَالُ تَهْجِيرُ المُسْلِمِينَ مِنْ تُرْكُسْتَانَ مُسْتَمِرًّا عَلَى أَيْدِي الشِّيُوعِيِّينَ وَالْبُوذِيِّينَ.

 

وَقَبْلَ أَكْثَرَ مِنْ عِشْرِينَ سَنَةً حَاوَلَ الصِّرْبُ الْأَرْثُوذُكْسُ، وَالْكُرْوَاتُ الْكَاثُولِيكُ افْتِرَاسَ مُسْلِمِي الْبَلْقَانِ، وَاسْتَبَاحُوا بُلْدَانَهُمْ، فَقَتَلُوا رِجَالَهُمْ وَأَطْفَالَهُمْ، وَاغْتَصَبُوا نِسَاءَهُمْ، وَهَجَّرُوهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ، وَكَانُوا يُرِيدُونَ مَحْوَ الْإِسْلَامِ مِنْ كُلِّ الْبَلْقَانِ، لَوْلَا عَجْزُهُمْ عَنْ ذَلِكَ بِمُقَاوَمَةِ المُسْلِمِينَ، وَتَضَارُبِ مَصَالِحِ الدُّوَلِ الِاسْتِعْمَارِيَّةِ الْكُبْرَى الَّتِي سَعَتْ لِكَسْرِ طُمُوحِ الْأَرْثُوذُكْسِ فِي التَّوَسُّعِ فِي الْقَارَّةِ الْأُورُبِّيَّةِ الْكَاثُولِيكِيَّةِ وَالْبُرُوتُسْتَانْتِيَّةِ.

 

وَالْهِنْدُوسُ فِي الْهِنْدِ وَكَشْمِيرَ وَسِرِيلَانْكَا هَجَّرُوا مُسْلِمِينَ مِنْ بُلْدَانِهِمْ لِتَوْطِينِ الْهِنْدُوسِ فِيهَا، وَإِخْلَائِهَا مِنْ أَهْلِهَا. وَتَهْجِيرُ المُسْلِمِينَ مِنْ أَرَاكَانَ المُسْلِمَةِ تَحْمِلُهُ الْأَخْبَارُ إِلَى النَّاسِ كُلَّ يَوْمٍ؛ لِيُخْلُوهَا لِلْبُوذِيِّينَ الَّذِينَ جِيءَ بِهِمْ مِنْ بُلْدَانِهِمْ لِيَسْتَوْطِنُوا دِيَارَ المُسْلِمِينَ.

 

وَتَهْجِيرُ أَهْلِ السُّنَّةِ مِنْ دِيَارِهِمْ فِي الْعِرَاقِ وَالشَّامِ، وَإِبَادَةُ مَنْ لَا يَخْرُجُ مِنْهُمْ تَجْرِي الْآنَ عَلَى قَدَمٍ وَسَاقٍ، وَقَدْ أُعْطِيَ الصَّفَوِيُّونَ الْإِذْنَ بِفِعْلِ ذَلِكَ مِنَ الْقُوَى الِاسْتِعْمَارِيَّةِ الْكُبْرَى. وَيَتَلَقَّوْنَ كَامِلَ المَعُونَةِ وَالتَّأْيِيدِ إِمَّا عَلَنًا وَإِمَّا خُفْيَةً بِتَكْبِيلِ دُوَلِ أَهْلِ السُّنَّةِ عَنْ نَصْرِ إِخْوَانِهِمُ المُسْتَضْعَفِينَ، أَوْ إِمْدَادِ الْجَوْعَى وَالْجَرْحَى مِنْهُمْ بِالطَّعَامِ وَالدَّوَاءِ؛ لِيُقْتَلُوا صَبْرًا أَمَامَ كَامِيرَاتِ الْعَالَمِ الْغَرْبِيِّ الْحُرِّ.

 

وَلَنْ يَكُونَ الْغَرْبُ بَعِيدًا عَنْ تَهْجِيرِ المُسْلِمِينَ مِنْ أُورُبَّةَ؛ إِذْ تَتَعَالَى الْأَصْوَاتُ المُطَالِبَةُ بِذَلِكَ.

 

لَقَدْ كَانَ الْغَرْبُ الْحُرُّ الَّذِي صَنَعَ الِاسْتِبْدَادَ وَالظُّلْمَ فِي كَثِيرٍ مِنْ بِلَادِ المُسْلِمِينَ كَانَ يُفَاخِرُ بِأَنَّهُ يُؤْويِ المُعَارِضِينَ لِبُلْدَانِهِمْ، الْخَائِفِينَ عَلَى حَيَاتِهِمْ، وَيَتَبَاهَى بِأَنَّهُ مَنَحَ المُسْلِمِينَ حُرِّيَّةَ مُمَارَسَةِ شَعَائِرِهِمْ بِمَا كَانَ لَا يُسْمَحُ بِهِ فِي بَعْضِ الْبُلْدَانِ الْإِسْلَامِيَّةِ.

 

وَكَانَ الْغَرْبُ اللِّيبْرَالِيُّ وَاثِقًا بِأَنَّ مَنْظُومَتَهُ الْفِكْرِيَّةَ المُتَمَثِّلَةَ فِي حُرِّيَّةِ الْرَأْيِّ وَالْحُرِّيَّةِ الشَّخْصِيَّةِ أَقْوَى مِنْ أَنْ تُؤَثِّرَ فِيهَا أَيَّةُ إِيدُيولُوجِيَّةٍ أُخْرَى، وَخَاصَّةً بَعْدَ صَرْعِ المَارْكِسِيَّةِ، وَتَضَعْضُعِ الِاشْتِرَاكِيَّةِ، وَلَكِنَّهُ فُوجِئَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَتَمَدَّدُ فِي أُورُبَّا لِيَبْتَلِعَ مَنْظُومَتَهُ الْفِكْرِيَّةَ الَّتِي كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّ نِهَايَةَ التَّارِيخِ سَتَقِفُ عِنْدَهَا. فَانْقَلَبَ عَلَى مَفَاهِيمِهِ الَّتِي كَانَ وَاثِقًا مِنْهَا، وَصَارَ يَشْتَكِي بِأَنَّ المُسْلِمِينَ لَا يَنْدَمِجُونَ فِي الْحَضَارَةِ الْغَرْبِيَّةِ، وَلَا يَلْتَزِمُونَ مَبَادِئَهَا! وَالمَقْصُودُ أَنَّهُمْ لَا يَتْرُكُونَ دِينَهُمْ لِيَذُوبُوا فِي الْفِكْرِ الْغَرْبِيِّ الإِلْحَادِيِّ.

 

وَبَدَلَ أَنْ يَكُونُوا مُتَأَثِّرِينَ بِالْفِكْرِ الْغَرْبِيِّ صَارُوا يُؤَثِّرُونَ فِيهِ، حَتَّى صَرَّحَ الْغَرْبِيُّونَ أَنَّ الْإِسْلَامَ إِذَا تُرِكَ يَنْمُو بِشَكْلِهِ الْحَالِي مُسْتَفِيدًا مِنْ أَجْوَاءِ الْحُرِّيَّةِ الْفِكْرِيَّةِ وَالشَّخْصِيَّةِ فَإِنَّ أُورُبَّةَ سَتَكُونُ مُسْلِمَةً خِلَالَ نِصْفِ قَرْنٍ أَوْ أَقَلَّ! وَصَدَقَ اللهُ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّـهِ قِيلًا: ?وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ اليَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ? [البقرة: 120].

 

مَنْ كَانَ يُصَدِّقُ أَنَّ جَالِيَاتٍ مُسْلِمَةً مُتَفَرِّقَةً، وَفِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَحْيَانِ مُخْتَلِفَةً بَلْ وَمُتَنَاحِرَةً فِي أُورُبَّا، وَأَكْثَرُهَا مِنَ الْعُمَّالِ الْبُسَطَاءِ الَّذِينَ ذَهَبُوا يَبْحَثُونَ عَنِ الرِّزْقِ اسْتَطَاعُوا أَنْ يَهْزِمُوا المَنْظُومَةَ الْفِكْرِيَّةَ الْغَرْبِيَّةَ الْقَوِيَّةَ الَّتِي طَالَما تَبَاهَى الْغَرْبِيُّونَ بِقُوَّتِهَا وَمَتَانَتِهَا حَتَّى تَخَلَّى الْغَرْبِيُّونَ عَنْ أَسَاسِهَا وَأَصْلِهَا وَهِيَ الْحُرِّيَّةُ الشَّخْصِيَّةُ فِي اللِّبْسِ بِمَنْعِ نِقَابِ المَرْأَةِ المُسْلِمَةِ، وَالْحُرِّيَّةُ الْفِكْرِيَّةُ بِمُمَارَسَةِ أَهْلِ كُلِّ دِينٍ شَعَائِرَهُمْ. وَصَارُوا كُلَّ يَوْمٍ يُضَيِّقُونَ الْحُرِّيَّاتِ؛ حِفَاظًا عَلَى أُورُبَّا مِنَ الْأَسْلَمَةِ، وَتَحْتَ شِعَارَاتِ مُكَافَحَةِ الْإِرْهَابِ الَّذِي صَنَعُوا أَكْثَرَهُ، وَأَوْجَدُوا أَرْضِيَّتَهُ، وَغَضُّوا الطَّرْفَ عَنْ إِرْهَابِ الصَّفَوِيِّينَ وَالنُّصَيْرِيِّينَ الَّذِي فَاقَ كُلَّ إِرْهَابٍ.

 

وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ لِمَ تَعَايَشَ المُسْلِمُونَ مَعَ كُلِّ الطَّوَائِفِ وَالمِلَلِ خِلَالَ سِيَادَتِهِمْ لِلْعَالَمِ أَكْثَرَ مِنْ عَشَرَةِ قُرُونٍ، وَلِمَاذَا ضَاقَتْ كُلُّ المِلَلِ وَالطَّوَائِفِ عَنْ تَحَمُّلِ المُسْلِمِينَ، حَتَّى إِذَا مَا انْتَصَرُوا عَلَيْهِمْ هَجَّرُوهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ، وَسَعَوْا فِي إِبَادَتِهِمْ؟!

 

لَا تَفْسِيرَ لِذَلِكَ إِلَّا أَنَّ الْإِسْلَامَ يُؤَثِّرُ وَلَا يَتَأَثَّرُ، وَيَقْوَى وَلَا يَضْعُفُ، وَيَتَمَدَّدُ وَلَا يَنْكَمِشُ، يَحْمِلُهُ عَامِلٌ بَسِيطٌ فَيَصْرَعُ بِهِ أَكْبَرَ فَيْلَسُوفٍ.

 

صَارَعَتِ المَارْكِسِيَّةُ الْإِسْلَامَ فَتَمَزَّقَتْ، وَعَادَتْ كُلُّ الْبِلَادِ الَّتِي فُرِضَ فِيهَا الْإِلْحَادُ إِلَى إِسْلَامِهَا. وَصَارَعَتْهُ اللِّيبْرَالِيَّةُ الرَّأْسِمَالِيَّةُ وَهِيَ الْآنَ تَحْتَضِرُ كَمَنْظُومَةٍ فِكْرِيَّةٍ، وَتَتَوَحَّشُ؛ لِأَنَّ الْأَفْكَارَ تَتَوَحَّشُ وَتَكُونُ أَكْثَرَ قَسْوَةً وَدَمَوِيَّةً حِينَ تَفْقِدُ تَمَدُّدَهَا عَلَى الْأَرْضِ.

 

وَهَذَا مَا حَصَلَ لِلْفِكْرَةِ اللِّيبْرَالِيَّةِ الْغَرْبِيَّةِ حَتَّى اسْتَعَانَتْ بِالْكَنِيسَةِ وَهِيَ لَا تُؤْمِنُ بِهَا، فَاجْتَمَعَتِ الْكَنِيسَةُ الْغَرْبِيَّةُ الْكَاثُولِيكِيَّةُ بِالشَّرْقِيَّةِ الْأَرْثُوذُكْسِيَّةُ بَعْدَ قَطِيعَةٍ دَامَتْ أَلْفَ سَنَةٍ؛ مِنْ أَجْلِ مُقَاوَمَةِ المَدِّ الْإِسْلَامِيِّ، بَعْدَ عَجْزِ المَنْظُومَةِ الْفِكْرِيَّةِ الْعَلْمَانِيَّةِ الْغَرْبِيَّةِ عَنْ إِيقَافِ زَحْفِهِ وَتَغَلْغُلِهِ. ?يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّـهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ? [التوبة: 33].

 

بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ...  

 

 

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

 

الْحَمْدُ لِلَّـهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

 

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ -تَعَالَى- وَأَطِيعُوهُ ?وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّـهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ? [البقرة: 281].

 

أَيُّهَا النَّاسُ: مَا أَحْوَجَ المُسْلِمِينَ فِي هَذَا الظَّرْفِ الْعَصِيبِ، وَفِي هَذِهِ الْأَيَّامِ الْحَافِلَةِ بِالْأَحْدَاثِ المُتَسَارِعَةِ، وَمَا تَحْمِلُهُ مِنْ مُفَاجَآتٍ وَأَحْدَاثٍ كُبْرَى إِلَى تَقْوِيَةِ إِيمَانِهِمْ بِاللَّـهِ تَعَالَى، وَالْيَقِينِ بِنَصْرِهِ لِعِبَادِهِ، وَالثِّقَةِ بِدِينِهِمُ الَّذِي يَحْتَشِدُ الْعَالَمُ كُلُّهُ لِحَرْبِهِ فَيَعْجَزُ عَنِ اسْتِئْصَالِهِ!

 

إِنَّهُ دِينٌ عَظِيمٌ عَاشَ فِي كَنَفِ دُوَلِهِ المُتَعَاقِبَةِ أَهْلُ المِلَلِ وَالنِّحَلِ وَالطَّوَائِفِ، فَأَقَامَ الْعَدْلَ فِيهَا، وَرَفَعَ الظُّلْمَ عَنْهَا، وَلَمْ يُضْطَرَّ إِلَى تَهْجِيرِ أَهْلِهَا أَوْ إِبَادَتِهِمْ.

 

وَإِنَّهُ دِينٌ مَنْ تَمَسَّكَ بِهِ فَهُوَ مَنْصُورٌ، وَمَنْ تَخَلَّى عَنْهُ فَهُوَ مَخْذُولٌ، فَلَنْ يَنْتَصِرَ الْبَاطِلُ وَلَوْ سَوَّقَ لَهُ أَقْوَى النَّاسِ، وَلَنْ يُهْزَمَ الْحَقُّ وَلَوْ حَمَلَهُ أَضْعَفُ النَّاسِ؛ ?إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا? [غافر: 51]، ?وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ? [الرُّوم: 47]، ?وَإِنَّ جُنْدَنَا لهُمُ الغَالِبُونَ? [الصَّفات: 173]، ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ? [محمد: 7-8].

 

فَلْنَتَمَسَّكْ بِدِينِنَا، وَنُقَوِّ إِيمَانَنَا، وَتَجْتَمِعْ كَلِمَتُنَا، وَنُزِلْ أَسْبَابَ التَّفَرُّقِ وَالِاخْتِلَافِ بَيْنَنَا ?وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّـهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا? [آل عمران: 103]، ?وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ? [الأنفال: 46].

 

وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...

 

 

المرفقات

المسلمين.. لماذا؟!

المسلمين.. لماذا؟! - مشكولة

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات