عناصر الخطبة
1/ السكن في بيت الزوجية 2/ الحكمة من كون الطلاق مرتين 3/ حفظ الله النساء من تلاعب الرجال بالتعليق 4/ من صور التعليق ميل الرجل إلى إحدى زوجاتهاقتباس
هذا التلاعب المنهي عنه بهذه المؤكدات الربانية المتعددة هو في حق من علّق زوجته مدة عدتها من طلاقه لها مرةً أو مرتين فقط؛ بقصد الإضرار بها، فكيف -يا عباد الله- بمن تلاعب بآيات الله تعالى، واتخذها هزوًا، ولم يكن أهلاً للقوامة والعصمة التي جعلها الله تعالى في يده، ولم يتق الله تعالى في زوجته فعلقها سنين عددًا، قد تصل إلى عشرٍ أو عشرين أو ثلاثين، فدمر حياتها، وقضى على سعادتها ..
الحمد لله العليم الحكيم؛ أنزل علينا من الحديث أحسنه، وشرع لنا من الدين أحكمه: (صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ صِبْغَةً) [البقرة:138]، نحمده على نعمه وآلائه، ونشكره على فضله وإحسانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ أحاط علمه بالمعدوم والموجود، وعلم ما تكنه القلوب وما تخفيه الصدور: (لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى * وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى) [طه:6-8]، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ جاء بالعدل والإحسان، وأمر بالمودة والرحمة، ودعا إلى حسن العشرة، وقال: "فاستوصوا بالنساء خيرًا"، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، اتقوه في أنفسكم بحجزها عن المعاصي، وحملها على الطاعات، واتقوه في أهلكم وولدكم بالإحسان إليهم، والقيام عليهم، واتقوه في الناس أجمعين بأداء ما عليكم من الحقوق لهم، وكف الأذى عنهم؛ فالمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله تعالى عنه.
أيها الناس: حين خلق الله تعالى الزوجين، وأمال كل واحدٍ منهما للآخر، حتى كان كل واحدٍ منهما بمثابة اللباس لزوجه؛ فإنه سبحانه أراد سكن نفسيهما، وراحة قلبيهما، وصلاح الحياة بهما، وخروج النسل منهما: (هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ) [البقرة: 187]، والواحد من الناس إذا لبس لباسًا فارتاح فيه أبقاه، وإذا آذاه نزعه، وهكذا الزوجان إن ارتاح كل واحدٍ منهما لزوجه هَنِئَ في عيشه، وأنس في بيته، وسعد في حياته، فهو يريدها وهي تريده، وأما إن لم يكن بينهما توافقٌ ولا مودةٌ فلا راحة لأحدهما، ولا مصلحة في اجتماعهما، بل المصلحة تكون في افتراقهما؛ لعله يرزق من توافقه فتكون خيرًا له منها، وترزق هي من يوافقها فيكون خيرًا لها منه: (وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعاً حَكِيماً) [النساء: 130].
وحين شرع الله تعالى الطلاق، وجعله علاجًا لهذه المشكلات؛ فإنه سبحانه أتاح فرصةً للمراجعة مرتين: (الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) [البقرة:229]، وذلك أن التوافق قد يكون موجودًا، ولكن ضغوط الحياة، وسرعة غضب الرجل، واستفزاز المرأة له، مع عمل الشيطان بينهما، قد يجعل الرجل يتسرع فيوقع الطلاق في غير محله، فيندم الزوجان على ما حصل، فلهما فرصتان للمراجعة؛ فالطلقة الأولى موقظةٌ، والثانية منذرةٌ بالخطر، والثالثة تفرق بينهما.
وإنما حدَّ الشارع الحكيم الطلاق بمرتين مراعاةً لجانب المرأة؛ لأن الطلاق والرجعة إذا كانا مفتوحين للرجل؛ استطاع أن يحبس المرأة، ويتلاعب بها، ويتلف أعصابها، فيطلقها ويراجعها بلا نهايةٍ كما كان أهل الجاهلية يفعلون، عن عروة عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان الرجل يطلق امرأته ما شاء أن يطلقها، وإن طلقها مائةً أو أكثر إذا ارتجعها قبل أن تنقضي عدتها، حتى قال الرجل لامرأته: والله لا أطلقك فتبيني مني ولا آويك إلي، قالت: وكيف ذاك؟! قال: أطلقك، وكلما قاربت عدتك أن تنقضي ارتجعتك ثم أطلقك وأفعل ذلك، فشكت المرأة ذلك إلى عائشة، فذكرت ذلك عائشة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فسكت فلم يقل شيئًا حتى نزل القرآن: (الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) [البقرة:229]". صححه الحاكم ورجح الترمذي إرساله.
ومع أن الله تعالى حفظ النساء من تلاعب بعض الرجال بأن جعل للطلاق عددًا، وللرجعة حدًّا؛ فإنه سبحانه حذَّر الرجال من التلاعب بالنساء في هاتين الطلقتين؛ وذلك بأن يكون الرجل قد عزم على طلاق امرأته، ولا يريدها البتة، لكنه يستغل الطلقتين في التلاعب بها، أو مساومتها في كل مرةٍ منهما، أو نحو ذلك مما لا يفعله إلا أراذل الناس، فيطلقها حتى إذا فرحت بخلاصها، وقرب فرجها، وكادت عدتها تنتهي؛ أرجعها وهو لا يريدها وإنما يكايدها، ثم طلقها مرةً ثانيةً حتى إذا قاربت عدتها على الانتهاء راجعها مرةً أخرى ثم طلقها الثالثة، يريد بذلك إطالة عدتها، أو إذلالها وأذيتها، أو التلاعب بعواطفها، أو غير ذلك من المقاصد الدنيئة التي لا يلجأ إليها إلا من ضعف عن مقارعة الرجال، فأظهر حيله وقوته على امرأته، مستغلاً ضعفها وسلطته عليها.
ولحفظ المرأة من هذه المكايدة والتلاعب بها نص الله تعالى بكلامه المقدس ناهيًا عن ذلك، ولم يكل بلاغه لجبريل ولا لمحمدٍ -عليهما السلام-، وجعله قرآنًا يقرع الآذان في الصلاة، ويتعبد الناس بتلاوته، فما أرحم الله تعالى بالنساء! وما أحفظه سبحانه لحقوقهن!! (وَإِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [البقرة:231].
تأملوا -رحمكم الله تعالى- ما في هذه الآية العظيمة من التشديد في استغلال مدة العدة لتعليق الزوجة مكايدةً لها؛ إذ سماه الله تعالى ضرارًا، ووصف من فعله بالاعتداء: (وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا)، وعده ظالمًا لنفسه: (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ)، وجعل سبحانه هذا التصرف من الزوج هزءًا بآياته تعالى؛ لأنه استغل ما أعطي من العصمة استغلالاً بشعًا، وهذا كفرٌ لنعمة الشريعة وأحكامها التي يجب عليه شكرها وتطبيقها، وعدم التحايل عليها أو بها، وبالغ سبحانه في موعظته: (وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ) [البقرة: 231]، وأمره بالتقوى، وأخبره أنه عليمٌ بما يسره في نفسه من الإضرار بزوجه ولو أخفاه عن الناس: (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).
كل هذه التحذيرات في آيةٍ واحدةٍ؛ لئلا يتلاعب الأزواج بالزوجات. وفي آيةٍ أخرى قال سبحانه: (وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ) [الطلاق:6]، قال ابن عاشورٍ -رحمه الله تعالى-: "والضارة: الإضرار القوي، فكأن المبالغة راجعةٌ إلى النهي لا إلى المنهي عنه، أي: هو نهيٌ شديدٌ". اهـ.
هذا التلاعب المنهي عنه بهذه المؤكدات الربانية المتعددة هو في حق من علّق زوجته مدة عدتها من طلاقه لها مرةً أو مرتين فقط؛ بقصد الإضرار بها، فكيف -يا عباد الله- بمن تلاعب بآيات الله تعالى، واتخذها هزوًا، ولم يكن أهلاً للقوامة والعصمة التي جعلها الله تعالى في يده، ولم يتق الله تعالى في زوجته فعلقها سنين عددًا، قد تصل إلى عشرٍ أو عشرين أو ثلاثين، فدمر حياتها، وقضى على سعادتها، وحكم عليها بأن تقضي بقية عمرها في آلامها وأحزانها؛ وذلك حين جعلها أسيرة عصمته، فلم يعاشرها بالمعروف، ولم يؤدّ لها حقوقها، بل رماها عند أهلها بلا نفقةٍ ولا سكنى، ولم يطلقها لئلا تتزوج، يرفض الآثم طلاقها ليعذبها وينتقم منها أو من أهلها، وربما حرمها من أولادها، ومضى يستمتع هو بحياته مع غيرها!
لقد أفقرها ولم يغنها، وحبسها ولم يطلقها، ومنعها كل حقٍ لها، وقد دخلت النار امرأةٌ في هرةٍ حبستها فلم تطعمها ولم تتركها تأكل من خشاش الأرض، فكيف بمن حبس آدميةً في عصمته، فلم يجعلها تنعم بالعيش معه زوجةً مكرمةً مصونةً، ولا فارقها لترى في غيره نصيبها.
كم يكون ظالمًا لنفسه، باخسًا لحظه، معتديًا على شريعة ربه، مقابلاً الإحسان بالإساءة؛ فأهل زوجته وثقوا به، وأوطؤوه ابنتهم، وهو ما دخل عليها إلا بإحسانها هي إليه؛ حين قبلته دون غيره، وقدمته على سواه، أيكون جزاؤها وجزاء أهلها أن يعذبهم في ابنتهم، فيعلقها بغير حقٍّ؟!
وإذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم القيامة خصيمَ من استأجر أجيرًا فلم يعطه حقه؛ فكيف بمن استحل امرأةً ثم أضاعها في عمرها وشبابها، وحرمها حقوقها، وألجأها إلى العوز والحاجة؛ ولم يفطن المحسنون لها؛ لأنها في الظاهر ذات زوجٍ، ولا زوج لها في الواقع، فمن يرعاها ومن يقوم عليها؟!
نعوذ بالله تعالى من الظلم والبغي، ومن قلوبٍ اسودت بالأحقاد، فلا تفكر إلا في الانتقام، ونسأله سبحانه أن يرزقنا العدل والإحسان في رعايانا، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن يرزقنا العمل بما علمنا، إنه سميعٌ مجيبٌ.
وأقول قولي هذا وأستغفر الله...
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، نحمده على ما أنعم وأولى، ونشكره على ما هدى وأسدى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وأدوا ما عليكم من الحقوق في الدنيا قبل أن تؤخذ منكم في الآخرة؛ فقد قال نبينا محمدٌ -صلى الله عليه وسلم-: "لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة، حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء". رواه مسلمٌ.
أيها المسلمون: من الناس من إذا تزوج بأخرى مال إليها بكليته، وأضاع الأولى وأولادها، وأمسك نفقته عنها، أو قتر عليها بسبب عدم محبته لها، فتصبح كالمعلقة، والله تعالى نهى المعددين عن ذلك فقال سبحانه: (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ) [النساء:129]، قال ابن عباسٍ -رضي الله عنهما- في معنى المعلقة: "لا مطلقةٌ ولا ذات بعلٍ". وهي التي يهجرها زوجها هجرًا طويلاً، فلا هي مطلقةٌ ولا هي زوجةٌ، وفي حديث أم زرعٍ في أنواع الرجال قالت إحداهن في وصف زوجها: "زوجي العشنق، إن أنطق أطلق، وإن أسكت أعلق". رواه الشيخان. ومعنى ذلك: أنه إن ذكرت عيوبه طلقني، وإن سكت عنها علقني فتركني لا عزباء ولا مزوجةً.
ولكن للمرأة أن تسقط بعض حقوقها، وترضى بتعليقها، في سبيل أن لا تطلق، كمن رغب عنها زوجها لكبرٍ أو نحوه، وأيقنت أنه مفارقها، فاصطلحت معه على إسقاط حقها في المبيت أو النفقة أو السكنى، فما رضيت به وتم الصلح عليه جاز، ولو كانت صورتها صورة معلقةٍ؛ لأنها لم تجبر على ذلك، واختارت ما فيه مصلحتها، قال ابن عباسٍ -رضي الله عنهما-: "خشيت سودة أن يطلقها النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالت: لا تطلقني وأمسكني، وأجعل يومي لعائشة"، ففعل، فنزلت: (فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) [النساء: 128]، فما اصطلحا عليه من شيءٍ فهو جائزٌ". رواه الترمذي وقال: حديثٌ حسنٌ غريبٌ. وفي الصحيحين أنها -رضي الله عنها- وهبت يومها لعائشة -رضي الله عنها-.
لكن الإثم والبغي والظلم أن يعلقها بلا رضاها، وهي تتمنى الخلاص منه فيأبى ويماطل وهو لا يريدها، ولكنه يريد مالها أو أذيتها أو الانتقام من أهلها، فهذه هي المضارة التي نهى الله تعالى عنها.
فليتق الله تعالى كل معلقٍ أن يظلم زوجته، وعلى ذوي المعلق أن ينهوه عن ذلك، وعلى ذوي المعلقة أن يجتهدوا في تخليصها منه، ولا يهملوا قضيتها، وعلى جماعة الناس أن يقفوا في وجه الظالم، ويزجروه بقوارع الشرع، فإن لم ينزجر ردعوه بالقضاء وحاموا عن المعلقات؛ لتخليصهن من الظلم؛ فإن الأمة التي يسكت أفرادها عن الظلم معرضةٌ للانهيار، ومتوعدةٌ بالعذاب، وقد روي في الحديث: "إذا رأيتم أمتي تهاب الظالم أن تقول له: إنك أنت ظالمٌ فقد تُودع منهم". رواه أحمد.
وصلوا وسلموا على نبيكم...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم