عناصر الخطبة
1/حرص المسلم على تحقيق الإيمان والثبات عليه 2/مطالعة سير الثابتين تثبت المسلم على دينه 3/سرد قصص بعض الثابتين المتقين 4/الحث على الثبات على الدين واليقين في الديناقتباس
إِنَّ الْمُؤْمِنَ أَحْوَجُ مَا يَكُونُ إِلَى الثَّبَاتِ عَلَى دِينِهِ، وَهُوَ أَحْوَجُ إِلَيْهِ مِنْ طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ وَنَفَسِهِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ بِهَا حَيَاةُ جَسَدِهِ، وَبَقَاؤُهُ فِي دُنْيَاهُ، وَأَمَّا دِينُهُ فَمُرْتَهَنٌ بِهِ فِي نَجَاتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَسَعَادَتِهِ الْأَبَدِيَّةِ، وَلَنْ يَنْجُوَ وَيَسْعَدَ إِلَّا مَنْ لَقِيَ اللَّهَ -تَعَالَى- ثَابِتًا عَلَى دِينِهِ...
الخطبة الأولى:
الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ:70-71].
أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ -تَعَالَى-، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَيُّهَا النَّاسُ: الْإِيمَانُ بِاللَّهِ -تَعَالَى- هُوَ أَغْلَى مَا يَمْلِكُهُ الْعَبْدُ، وَلِأَجْلِ تَحْقِيقِهِ خَلَقَهُ اللَّهُ -تَعَالَى-، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ هَاجِسُ كُلِّ مُؤْمِنٍ الْحِفَاظَ عَلَى الْإِيمَانِ طِيلَةَ الْحَيَاةِ، وَالثَّبَاتَ عَلَيْهِ إِلَى الْمَمَاتِ؛ فَلَا سَعَادَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إِلَّا بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ؛ (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ)[الْأَنْعَامِ:82].
وَمِمَّا يُعِينُ الْمُؤْمِنَ عَلَى الثَّبَاتِ مُطَالَعَةُ سِيَرِ الثَّابِتِينَ مِنَ الرُّسُلِ وَأَتْبَاعِهِمْ؛ فَفِي التَّارِيخِ الْبَشَرِيِّ الْقَدِيمِ وَالْحَدِيثِ أَخْبَارٌ كَثِيرَةٌ لِلثَّابِتِينَ عَلَى دِينِهِمْ، الَّذِينَ تَحَمَّلُوا الْعَذَابَ وَالْأَلَمَ حِفَاظًا عَلَى إِيمَانِهِمْ، حَتَّى لَقُوا اللَّهَ -تَعَالَى- وَهُمْ ثَابِتُونَ مُؤْمِنُونَ مُوقِنُونَ. وَقَصَّ اللَّهُ -تَعَالَى- عَلَيْنَا فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ أَخْبَارَ الْأَنْبِيَاءِ -عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- فِي ثَبَاتِهِمْ عَلَى الدِّينِ، كَمَا قَصَّ عَلَيْنَا أَخْبَارَ مُؤْمِنِينَ ثَبَتُوا عَلَى دِينِهِمْ؛ كَأَصْحَابِ الْكَهْفِ الَّذِينَ اعْتَزَلُوا قَوْمَهُمْ وَمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الشِّرْكِ، وَقَصَّ عَلَيْنَا خَبَرَ أَصْحَابِ الْأُخْدُودِ فِي سُورَةِ الْبُرُوجِ؛ حِينَ فَتَنَهُمُ الْمَلِكُ الظَّالِمُ فِي دِينِهِمْ، وَحَرَّقَهُمْ عَلَيْهِ وَهُمْ ثَابِتُونَ مُوقِنُونَ، كَمَا قَصَّ عَلَيْنَا خَبَرَهُمْ رَسُولُنَا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَهَمِّيَّةِ قِرَاءَةِ أَخْبَارِ الثَّابِتِينَ عَلَى الْحَقِّ فِي تَقْوِيَةِ الْإِيمَانِ، وَالرَّبْطِ عَلَى الْقُلُوبِ، وَتَعْمِيقِ الْيَقِينِ؛ فَإِنَّ قِرَاءَةَ أَخْبَارِهِمْ دَاعِيَةٌ لِلتَّأَسِّي بِهِمْ.
وَمِنَ الثَّابِتِينَ عَلَى الدِّينِ: أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، وَطَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-، وَلَهُمَا قِصَّةٌ فِي الْأَذَى اشْتَرَكَا فِيهَا؛ فَإِنَّ طَلْحَةَ أَسْلَمَ عَلَى يَدِ أَبِي بَكْرٍ "فَلَمَّا أَسْلَمَ أَبُو بَكْرٍ وَطَلْحَةُ، أَخَذَهُمَا نَوْفَلُ بْنُ خُوَيْلِدِ بْنِ الْعَدَوِيَّةِ فَشَدَّهُمَا فِي حَبْلٍ وَاحِدٍ، وَلَمْ يَمْنَعْهُمَا بَنُو تَيْمٍ، وَكَانَ نَوْفَلُ بْنُ خُوَيْلِدٍ يُدْعَى أَسَدَ قُرَيْشٍ، فَلِذَلِكَ سُمِّيَ أَبُو بَكْرٍ وَطَلْحَةُ: الْقَرِينَيْنِ" رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ. وَعَنْ مَسْعُودِ بْنِ حِرَاشٍ قَالَ: "بَيْنَا أَنَا أَطُوفُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ إِذَا أُنَاسٌ كَثِيرٌ يَتْبَعُونَ إِنْسَانًا فَتًى شَابًّا مُوثَقًا يَدُهُ إِلَى عُنُقِهِ، قُلْتُ: مَا شَأْنُهُ؟ قَالُوا هَذَا طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ صَبَأَ، وَامْرَأَةٌ وَرَاءَهُ تَذُمُّهُ وَتَسُبُّهُ، قَالُوا هَذِهِ أُمُّهُ الصَّعْبَةُ بِنْتُ الْحَضْرَمِيِّ"(رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي التَّارِيخِ الْكَبِيرِ).
وَمِنَ الثَّابِتِينَ عَلَى الدِّينِ: عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، وَكَانَ مِنَ السَّابِقِينَ إِلَى الْإِسْلَامِ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيُّ: "لَمَّا أَسْلَمَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ أَخَذَهُ عَمُّهُ الْحَكَمُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ فَأَوْثَقَهُ رِبَاطًا وَقَالَ: أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ آبَائِكَ إِلَى دِينٍ مُحْدَثٍ؟ وَاللَّهِ لَا أَحُلُّكَ أَبَدًا حَتَّى تَدَعَ مَا أَنْتَ عَلَيْهِ مِنْ هَذَا الدِّينِ، فَقَالَ عُثْمَانُ: وَاللَّهِ لَا أَدَعُهُ أَبَدًا وَلَا أُفَارِقُهُ، فَلَمَّا رَأَى الْحَكَمُ صَلَابَتَهُ فِي دِينِهِ تَرَكَهُ، قَالَ ابْنُ سَعْدٍ: فَكَانَ عُثْمَانُ مِمَّنْ هَاجَرَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ الْهِجْرَةَ الْأُولَى وَالْهِجْرَةَ الثَّانِيَةَ، وَمَعَهُ فِيهِمَا جَمِيعًا امْرَأَتُهُ رُقْيَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-".
وَمِنَ الثَّابِتِينَ عَلَى الدِّينِ: سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وَهُوَ مِنَ السَّابِقِينَ لِلْإِسْلَامِ، فَلَمَّا أَسْلَمَ: "حَلَفَتْ أُمُّ سَعْدٍ أَنْ لَا تُكَلِّمَهُ أَبَدًا حَتَّى يَكْفُرَ بِدِينِهِ، وَلَا تَأْكُلَ وَلَا تَشْرَبَ، قَالَتْ: زَعَمْتَ أَنَّ اللَّهَ وَصَّاكَ بِوَالِدَيْكَ، وَأَنَا أُمُّكَ، وَأَنَا آمُرُكَ بِهَذَا، قَالَ: مَكَثَتْ ثَلَاثًا حَتَّى غُشِيَ عَلَيْهَا مِنَ الْجَهْدِ، فَقَامَ ابْنٌ لَهَا يُقَالُ لَهُ عُمَارَةُ فَسَقَاهَا، فَجَعَلَتْ تَدْعُو عَلَى سَعْدٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- فِي الْقُرْآنِ هَذِهِ الْآيَةَ: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا)[لُقْمَانَ:14-15]"(رَوَاهُ مُسْلِمٌ).
وَمِنَ الثَّابِتِينَ عَلَى الدِّينِ: الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، وَكَانَ مِنَ السَّابِقِينَ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَهُوَ ابْنُ عَمَّةِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، رَوَى الْحَاكِمُ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: "أَسْلَمَ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِي سِنِينَ، وَهَاجَرَ وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِي عَشْرَةَ سَنَةً، وَكَانَ عَمُّ الزُّبَيْرِ يُعَلِّقُ الزُّبَيْرَ فِي حَصِيرٍ، وَيُدَخِّنُ عَلَيْهِ بِالنَّارِ، وَيَقُولُ: ارْجِعْ إِلَى الْكُفْرِ، فَيَقُولُ الزُّبَيْرُ: لَا أَكْفُرُ أَبَدًا".
وَمِنَ الثَّابِتِينَ عَلَى الدِّينِ: سَعِيدُ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، وَهُوَ مِنَ السَّابِقِينَ إِلَى الْإِسْلَامِ، قَالَ: "وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُنِي، وَإِنَّ عُمَرَ لَمُوثِقِي عَلَى الْإِسْلَامِ، قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ عُمَرُ"(رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ).
وَمِنَ الثَّابِتِينَ عَلَى الدِّينِ: مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، وَهُوَ مِنَ السَّابِقِينَ إِلَى الْإِسْلَامِ، قَالَ مُحَمَّدٌ الْعَبْدَرِيُّ: "كَانَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ فَتَى مَكَّةَ شَبَابًا وَجَمَالًا وَسَبِيبًا، وَكَانَ أَبَوَاهُ يُحِبَّانِهِ، وَكَانَتْ أُمُّهُ مَلِيئَةً، كَثِيرَةَ الْمَالِ، تَكْسُوهُ أَحْسَنَ مَا يَكُونُ مِنَ الثِّيَابِ وَأَرَقَّهُ، وَكَانَ أَعْطَرَ أَهْلِ مَكَّةَ، يَلْبَسُ الْحَضْرَمِيَّ مِنَ النِّعَالِ... فَبَلَغَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَدْعُو إِلَى الْإِسْلَامِ فِي دَارِ أَرْقَمَ بْنِ أَبِي الْأَرْقَمِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ فَأَسْلَمَ وَصَدَّقَ بِهِ وَخَرَجَ، فَكَتَمَ إِسْلَامَهُ خَوْفًا مِنْ أُمِّهِ وَقَوْمِهِ، فَكَانَ يَخْتَلِفُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سِرًّا، فَبَصُرَ بِهِ عُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ يُصَلِّي فَأَخْبَرَ أُمَّهُ وَقَوْمَهُ فَأَخَذُوهُ فَحَبَسُوهُ، فَلَمْ يَزَلْ مَحْبُوسًا حَتَّى خَرَجَ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ فِي الْهِجْرَةِ الْأُولَى، ثُمَّ رَجَعَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ حِينَ رَجَعُوا، فَرَجَعَ مُتَغَيِّرَ الْحَالِ قَدْ حَرَجَ، يَعْنِي: "غَلُظَ"، وَمِنْ ثَبَاتِهِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: أَنَّهُ بَعْدَ هِجْرَتِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ قَدِمَ مَكَّةَ زَائِرًا "وَبَلَغَ أُمَّهُ أَنَّهُ قَدْ قَدِمَ فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ: يَا عَاقُّ، أَتَقْدَمُ بَلَدًا أَنَا فِيهِ لَا تَبْدَأُ بِي؟ فَقَالَ: مَا كُنْتُ لِأَبْدَأَ بِأَحَدٍ قَبْلَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَلَمَّا سَلَّمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَخْبَرَهُ بِمَا أَخْبَرَهُ ذَهَبَ إِلَى أُمِّهِ، فَقَالَتْ: إِنَّكَ لَعَلَى مَا أَنْتَ عَلَيْهِ مِنَ الصَّبْأَةِ بَعْدُ، قَالَ: أَنَا عَلَى دِينِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَهُوَ الْإِسْلَامُ الَّذِي رَضِيَ اللَّهُ لِنَفْسِهِ وَلِرَسُولِهِ، قَالَتْ: مَا شَكَرْتَ؟ مَا رَثَيْتُكَ مَرَّةً بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ وَمَرَّةً بِيَثْرِبَ، فَقَالَ: أُقِرُّ بِدِينِي إِنْ تَفْتُنُونِي، فَأَرَادَتْ حَبْسَهُ، فَقَالَ: لَئِنْ أَنْتِ حَبَسْتِنِي لَأَحْرِصَنَّ عَلَى قَتْلِ مَنْ يَتَعَرَّضُ لِي، قَالَتْ: فَاذْهَبْ لِشَأْنِكَ، وَجَعَلَتْ تَبْكِي، فَقَالَ مُصْعَبٌ: يَا أُمَّهْ، إِنِّي لَكِ نَاصِحٌ، عَلَيْكِ شَفِيقٌ، فَاشْهَدِي أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ..." وَلَكِنَّهَا أَبَتْ.
فَرَضِيَ اللَّهُ -تَعَالَى- عَنِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِينَ، وَعَنِ الثَّابِتِينَ عَلَى الدِّينِ، وَجَمَعَنَا بِهِمْ فِي دَارِ النَّعِيمِ.
وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ...
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ -تَعَالَى- وَأَطِيعُوهُ، وَاثْبُتُوا عَلَى دِينِهِ وَلَوْ كَثُرَ الْمُغَيِّرُونَ وَالْمُبَدِّلُونَ؛ فَلَنْ يَرِدَ عَلَى حَوْضِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَّا الْمُؤْمِنُونَ الثَّابِتُونَ.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: قِرَاءَةُ سِيَرِ هَؤُلَاءِ الصَّحَابَةِ الْعُظَمَاءِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- فِي ثَبَاتِهِمْ عَلَى دِينِهِمْ، وَعِزَّةِ نُفُوسِهِمْ، وَقُوَّةِ تَحَمُّلِهِمْ، وَهَوَانِ أَنْفُسِهِمْ عَلَيْهِمْ فِي ذَاتِ اللَّهِ -تَعَالَى-؛ تَدْفَعُ الْمُؤْمِنَ لِلتَّأَسِّي بِهِمْ، وَالسَّيْرِ عَلَى طَرِيقِهِمْ، فِي الثَّبَاتِ عَلَى الدِّينِ، وَتَحَمُّلِ الْأَذَى فِيهِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا عَلِمَ الْمُؤْمِنُ أَنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- قَدْ أَقْسَمَ عَلَى خُسْرِ كُلِّ إِنْسَانٍ إِلَّا مَنْ لَقِيَ اللَّهَ -تَعَالَى- بِمَا رَضِيَ مِنْ دِينِهِ الْقَوِيمِ (وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)[الْعَصْرِ:1-3].
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: "أَوَّلُ مَنْ أَظْهَرَ إِسْلَامَهُ سَبْعَةٌ: رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَأَبُو بَكْرٍ، وَعَمَّارٌ، وَأُمُّهُ سُمَيَّةُ، وَصُهَيْبٌ، وَبِلَالٌ، وَالْمِقْدَادُ، فَأَمَّا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَمَنَعَهُ اللَّهُ بِعَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ، وَأَمَّا أَبُو بَكْرٍ فَمَنَعَهُ اللَّهُ بِقَوْمِهِ، وَأَمَّا سَائِرُهُمْ فَأَخَذَهُمُ الْمُشْرِكُونَ، فَأَلْبَسُوهُمْ أَدْرَاعَ الْحَدِيدِ، وَصَهَرُوهُمْ فِي الشَّمْسِ، فَمَا مِنْهُمْ إِنْسَانٌ إِلَّا وَقَدْ وَاتَاهُمْ عَلَى مَا أَرَادُوا، إِلَّا بِلَالٌ؛ فَإِنَّهُ هَانَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ فِي اللَّهِ -تَعَالَى-، وَهَانَ عَلَى قَوْمِهِ، فَأَعْطَوْهُ الْوِلْدَانَ، وَأَخَذُوا يَطُوفُونَ بِهِ شِعَابَ مَكَّةَ، وَهُوَ يَقُولُ: أَحَدٌ، أَحَدٌ"(رَوَاهُ أَحْمَدُ).
وَيَنْبَغِي لِكُلِّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ أَنْ يَسْتَذْكِرُوا أَخْبَارَ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- فِي ثَبَاتِهِمْ عَلَى دِينِهِمْ، وَصَبْرِهِمْ عَلَى مَا نَالَهُمْ مِنْ أَذَى أَقْوَامِهِمْ، وَأَنْ يُعَلِّمُوا أَوْلَادَهُمْ سِيَرَ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ-؛ لِتَرْسِيخِ إِيمَانِهِمْ، وَتَثْبِيتِ دِينِهِمْ، وَتَقْوِيَةِ قُلُوبِهِمْ؛ لِئَلَّا تَمُوجَ بِهِمْ أَعَاصِيرُ الْفِتَنِ وَالْمِحَنِ.
إِنَّ الْمُؤْمِنَ أَحْوَجُ مَا يَكُونُ إِلَى الثَّبَاتِ عَلَى دِينِهِ، وَهُوَ أَحْوَجُ إِلَيْهِ مِنْ طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ وَنَفَسِهِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ بِهَا حَيَاةُ جَسَدِهِ، وَبَقَاؤُهُ فِي دُنْيَاهُ، وَأَمَّا دِينُهُ فَمُرْتَهَنٌ بِهِ فِي نَجَاتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَسَعَادَتِهِ الْأَبَدِيَّةِ، وَلَنْ يَنْجُوَ وَيَسْعَدَ إِلَّا مَنْ لَقِيَ اللَّهَ -تَعَالَى- ثَابِتًا عَلَى دِينِهِ، وَفِي آخِرِ الزَّمَانِ يُبَدِّلُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ دِينَهُمْ، وَيَبِيعُونَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا؛ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا"(رَوَاهُ مُسْلِمٌ)؛ فَالثَّبَاتَ الثَّبَاتَ -عِبَادَ اللَّهِ-، وَإِيَّاكُمْ وَالزَّيْغَ وَالضَّلَالَ، وَاحْذَرُوا فِتَنَ السَّرَّاءِ كَمَا تَحْذَرُونَ فِتَنَ الضَّرَّاءِ؛ فَإِنَّ جَزَاءَ الثَّبَاتِ عَلَى الدِّينِ جَنَّةٌ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم