اقتباس
من مخاطر الغزو الفكري ومن مظاهر تحريف المفاهيم: نسبة الأعاصير والسيول والزلازل واشتداد البراكين، والأمراض الفتاكة، إلى أسباب مادية بحتة، أو نسبتها إلى الطبيعة أو الشيطان، وكل هذا من مكر شياطين الإنس والجن؛ لصرف المسلمين عن صحيح عقيدتهم وسلامة فطرتهم، ويقينهم...
يؤمن العبد المسلم أن الله –تبارك وتعالى- رب كل شيء ومليكه، وأنه خالق كل شيء ومدبره، وأن الكون كله في قبضته، لا يعزب عن أمره شيء في الأرض ولا في السماء، فلا تتحرك حبة رمل، ولا ورقة شجر، ولا تنزل قطرة ماء، ولا تهب ريح، ولا تحدث أي حركة ولا سكنة في الكون إلا بإذنه وقدره وتدبيره، -سبحانه وتعالى جل شأنه-، وتقدس سلطانه، وخضع كل شيء لقدرته وعظمته، جل جلال ربنا الكريم العظيم.
ولهذا الإيمان آثاره الاعتقادية ومسالكه العملية، فإذا أيقن العبد بذلك امتلأ قلبه إيمانًا بوحدانية الله وعظمته، ويرد أمور الكون كله إليه سبحانه، ويركن إليه، ويذل لجبروته وقوته، ويعلم أن جميع ما يقع من أعاصير عاتية ورياح مدمرة، أو أوبئة فتاكة، أو سيول مهلكة، يعلم أن هذا كله بقدر الله الملك الحق، ومظهر من مظاهر قدرته، وأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأن أفعال الله -سبحانه- تقع بحكمة بالغة وقدرة مقتدرة.
ولذا كانت هذه البصيرة نعمة من الله –تعالى- على عباده فلا يتلفظون بألفاظ شركية، فلا يقولون: "هبّة الطبيعة"، أو "غضب الطبيعة"، بل ينسبون كل شيء لقدر الله –تبارك وتعالى- ومن ثم يزدادون تعظيمًا وخضوعًا لربهم سبحانه.
وإن من مخاطر الغزو الفكري ومن مظاهر تحريف المفاهيم: نسبة الأعاصير والسيول والزلازل واشتداد البراكين، والأمراض الفتاكة، إلى أسباب مادية بحتة، أو نسبتها إلى الطبيعة أو الشيطان، وكل هذا من مكر شياطين الإنس والجن؛ لصرف المسلمين عن صحيح عقيدتهم وسلامة فطرتهم، ويقينهم بقدرة الله وتأديبه للبشر، قال تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الروم: 41].
والمؤمن عندما يرى الآيات والقوارع ينبغي أن يخاف الله ويعظمه ويهرع إلى مرضاته، وتأمل في هاتين الآيتين الجليلتين، قال الله تعالى: (وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآَيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآَتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآَيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا * وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآَنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا) [الإسراء: 59- 60]، فيرسل الله آياته لتحذير البشر من أخطائهم وجهلهم وشركهم.
ولكن ترى الذين في قلوبهم مرض والتغريبيين والعلمانيين يقللون من أثر مواعظ الله لخلقه، ويضعفون تأثرهم بآيات الله في الكون، فيتفلسف أحدهم قائلاً: الزلازل هو اضطراب القشرة الأرضية، وحركة الرياح بسبب كذا، وسقوط الأمطار حدث بسبب كذا.... وعجزوا عن رد الأمور إلى مدبرها، -سبحانه وتعالى-، يريدون بذلك سلخ المسلم من إيمانه وعقيدته، ونزع تعظيم الله من القلوب.
ومن تأمل في السيرة النبوية وجد أو من وسائل التربية النبوية أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يربط بين الأحداث الكونية وقدرة رب البرية، ويغرس في نفوس أصحابه ويربيهم على أن الأحداث الكونية إنما هي من قدر الله رب العالمين، وهذه أمثلة على ذلك:
1- صوت ارتطام شديد:
عن أبي هريرة قال: كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذ سمع وَجْبَة؛ أي: سقطة وصوت ارتطام شديد؛ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: تدرون ما هذا؟ قال: قلنا الله ورسوله أعلم، قال: هذا حجر رُمي به في النار منذ سبعين خريفًا فهو يهوي في النار الآن حتى انتهى إلى قعرها"(صحيح مسلم 2844).
2- حركة الريح:
عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "يا رسول الله، النَّاسُ إذا رَأوا الغَيمَ فَرِحُوا، رَجَاءَ أنْ يَكُونَ فيه المطرُ، وَأراكَ إذا رَأيتَ غَيْما عُرِفَ فِي وَجْهِكَ الكرَاهِيَةُ؟ فقال: يا عائشةُ، وَمَا يُؤمِّنُني أنْ يكونَ فِيه عَذَابٌ؟ قد عُذِّبَ قومٌ بالرِّيحِ، وقد رَأى قومٌ العذاب، فقالوا: (هَذا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا)[الأحقاف : 24]" وفي رواية قالت: "كان رسولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إذا رَأى مَخِيلَة فِي السَّمَاءِ أَقْبَلَ وأَدْبَرَ وَدَخَلَ وَخَرَجَ، وَتَغَيَّرَ وَجْهُهُ، فَإِذا أمْطَرَتِ السَّمَاءُ سُرِّيَ عنه، فَعرَّفَتهُ عائشةُ ذلك، فقال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: وَما أدْري؟ لَعله كما قال قومٌ: (فَلَمَّا رَأْوهُ عَارِضا مُستَقْبِلَ أودِيَتِهِمْ قَالوا هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا)(صحيح البخاري 4551، ومسلم 899).
3- حركة الشمس لا تتوقف لموت أحد ولا لحياته:
عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: كَسَفَتْ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَ مَاتَ إِبْرَاهِيمُ (ابن النبي)، فَقَالَ النَّاسُ: كَسَفَتْ الشَّمْسُ لِمَوْتِ إِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ فَصَلُّوا وَادْعُوا اللَّهَ" (صحيح البخاري 1043).
4- الأمطار بين الشكران والكفران:
عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ قَالَ: صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صَلَاةَ الصُّبْحِ بِالْحُدَيْبِيَةِ عَلَى إِثْرِ سَمَاءٍ كَانَتْ مِنْ اللَّيْلَةِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: "هَلْ تَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ"؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: "أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ؛ فَأَمَّا مَنْ قَالَ مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي وَمُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ". (صحيح البخاري 846).
5- لا ينتقل المرض إلا بقدر الله -تعالى-:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لَا عَدْوَى وَلَا صَفَرَ وَلَا هَامَةَ"، فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَمَا بَالُ الْإِبِلِ تَكُونُ فِي الرَّمْلِ كَأَنَّهَا الظِّبَاءُ، فَيُخَالِطُهَا الْبَعِيرُ الْأَجْرَبُ فَيُجْرِبُهَا؟!، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "فَمَنْ أَعْدَى الْأَوَّلَ"، نسأل الله أن يفقهنا في ديننا، وأن يحسن لنا الختام أجمعين.
ومن أجل تذكير المسلمين بخطورة التفسير المادي للكوارث والمصائب، وضعنا بين يديك أخي الخطيب الكريم مجموعة خطب منتقاة توضّح أهمية التفكر في الكون وكيف نفهم أحداثه في ضوء قدرة وسلطان رب العالمين، ونسأل الله أن يرزقنا وإياكم الإخلاص في الأقوال والأعمال، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم