اقتباس
انتشرت ظاهرة التحرش الجنسي بالأطفال وحتى الكبار في الآونة الأخيرة انتشارًا كبيرًا، بل ربما وقع في الأسرة الواحدة، بين مَن يُفْتَرَض فيهم أنهم حماةٌ لهؤلاء الصغار؛ فصار بعضهم ذئابًا يَستغلون أطفال أقاربهم وأبناء وبنات إخوانهم وأخواتهم في...
لا شك أنَّ ابن آدم خُلِقَ ضعيفًا قليل الصبر عن الشهوات؛ من مطعم ومشرب ومنكح؛ وذلك لما فُطِرَ عليه –امتحانًا وتكليفًا- من حُبّ الشهوات، وحبِّ النساء والمال والبنين، وغير ذلك من متاع الحياة الدنيا.
وأمر الله –سبحانه وتعالى- ابن آدم بأن يُشْبِع شهواته كلها من الحلال الطيّب، وأباح له من الحلال ما يعينه على قضاء وَطَره، فقال -جل وعلا-: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ..)[الأعراف: 32]؛ فالعبد له أن يتمتع بالحلال الطيب، فليس في الإسلام رهبانية، ولا كبح لشهوات النفس وازدرائها واحتقارها، بل هي رغبات وشهوات وُضِعَتْ في الإنسان لأهداف وغايات سامية، من عمارة الأرض، واستمرار النسل، وبقاء الخلق، والتعارف والتعاون، والتواصل، وقبل ذلك وبعده عبادة الله –تبارك وتعالى-، فليس في الإسلام تحريم ولا امتناع عن إشباع الشهوات طالما تم ذلك بطريق طَيِّب حلال؛ قال –سبحانه-: (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا)[الحديد: 27].
ونهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن التبتل والانقطاع عن شهوات الدنيا، فعن سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ -رضي الله عنه- قال: "رَدَّ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ التَّبَتُّلَ، وَلَوْ أَذِنَ لَهُ لَاخْتَصَيْنَا" (صحيح البخاري 4786). قال الطبري: "التبتل هو ترك لذات الدنيا وشهواتها، والانقطاع إلى الله –تعالى- بالتفرغ لعبادته، وقوله: رد عليه التبتل؛ معناه نهاه عنه".
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ –رضي الله عنه-، قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَأْمُرُ بِالْبَاءَةِ، وَيَنْهَى عَنِ التَّبَتُّلِ نَهْيًا شَدِيدًا، وَيَقُولُ: تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ، إِنِّي مُكَاثِرٌ الأَنْبِيَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ". (مسند أحمد 12634، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 4/299 رواه أحمد والطبراني في الأوسط وإسناده حسن). والباءة النكاح الشرعي، وتحصيل المعينات عليه.
وكل من تأمل في شريعة الإسلام يجدها تغلق أبواب الفتن والمحرمات، وتدعو إلى الحلال الطيِّب في المأكل والمشرب والمنكح، وتحذر من الخبث والريبة والإفساد، وكل صور الانحلال.
التحرش الجنسي بالأطفال:
ورغم ما أباحه الإسلام للعباد من التمتُّع بالحلال الطيب؛ وتيسير سبله؛ حيث قال رب العالمين: (فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ)[النساء: 3]؛ إلا أن بعض البشر قد انتكست فِطْرتهم، ومالوا إلى إشباع الشهوات بطرق مُحرَّمة ومُجرَّمة، فذهبت طوائف من منتكسي الفِطَر إلى التحرُّش الجنسي بالأطفال؛ لكونهم صغارًا ربما لا يعرفون ما يحدث، ولا يفهمون مدلولاته، وربما خدَعهم هذا الغِرُّ اللئيم كأنه يتقرب إليهم ويتودد معهم ويلاطفهم، وهم لا يفهمون أغراضه الدنيئة، ولا مقاصده الخبيثة.
تعريف التحرش الجنسي بالأطفال ومظاهره
هو نوع من الاستغلال الجنسي؛ عن طريق اتصال جنسي بين طفل وشخص بالغ من أجل إرضاء رغبات جنسية البالغ، مستخدمًا في ذلك القوة والسيطرة عليه.
والتحرش الجنسي بصفة عامة هو: كل إثارة يتعرض لها الطفل أو الطفلة عمدًا. أو غير ذلك من مثيرات مثل الصور والأفلام والقصص الإباحية.
والتحرش أوسع دائرة من الاغتصاب أو الاستغلال فيدخل فيه الصور التالية: كشف الأعضاء التناسلية أو ملامستها. إزالة ملابس الطفل. حثّ الطفل على ملامسة أو ملاطفة جسدية لشخص آخر. التلصص على الطفل. تعليمه عادات سيئة كالاستمناء. تعريضه لصور فاضحة أو أفلام أو مقاطع. إجباره على أعمال شائنة أو ألفاظ فاضحة. الاغتصاب والاعتداء الجنسي في صوره الطبيعية أو الشاذة (اللواط والسحاق). (بتصرف واختصار من التحرش الجنسي بالأطفال، خالد بن محمد الشهري، مشرف علم النفس بتعليم المنطقة الشرقية).
الحديث عن الظاهرة:
انتشرت ظاهرة التحرش الجنسي بالأطفال وحتى الكبار في الآونة الأخيرة انتشارًا كبيرًا، بل ربما وقع في الأسرة الواحدة، بين مَن يُفْتَرَض فيهم أنهم حماةٌ لهؤلاء الصغار؛ فصار بعضهم ذئابًا يَستغلون أطفال أقاربهم وأبناء وبنات إخوانهم وأخواتهم في إرضاء نزواتهم الخبيثة، وصار كثير من الأطفال يئنُّون من واقعٍ لا يعرفون -بحكم صِغَر سنهم وقلة خبرتهم- كيف يتعاملون معه.
وزاد من هذه الجرائم ما تبثُّه المواقع المنحرفة والقنوات الخبيثة من سموم وصور ومقاطع تُصَوِّر لهؤلاء الخبثاء طرقًا ووسائل وصورًا للتحرش بالأطفال يندى لها الجبين، واغترف هؤلاء الخبثاء هذه الوسائل وزادوا عليها من تصوير الصور والفيديوهات ليزدادوا تحكمًا في ضحاياهم والسيطرة عليهم، وليضمنوا استجابتهم لهم في أي وقتٍ، وتالله لقد أفسدوا في الأرض إفسادًا كبيرًا، وكم من بيوتٍ ومراهقات وأطفالٍ، أصبحوا يعيشون في عذاب بسبب إيذاء وابتزاز جنسي وقع عليهم، وبلاء أصاب أعراضهم من قريب أو بعيد، حوَّل حياة هؤلاء الصغار والفتيات إلى نار حامية، فلا هم يستطيعون المواجهة نظرًا لضعفهم، ولا يستطيعون البوح خوفًا من الفضائح، وكم من جريمة انتحار ارتُكِبَت بسبب هذه المعاناة والآلام التي تنهش في الضحية حتى لا تتركها إلا جثة هامدة، والله الموعد، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
أسباب التحرش بالأطفال ودوافعه:
هناك أسباب كثيرة لحدوث هذه الظاهرة، من أهمها ما يلي:
1- تعسير الحلال:
عسَّر الكبار الحلال على كثير من الشباب والبنات؛ فلجأوا تحت وساوس الشيطان والنفس الأمارة بالسوء إلى طرق محرمة لإشباع الشهوات وإطفاء لهبها.
2- إطلاق البصر إلى المحرمات:
لا شك أن التكنولوجيا الحديثة –رغم منافعها الكثيرة- قد قرَّبت الفساد من البشر، ويسَّرت لهم طرقه، وسهَّلت وسائله، حتى أصبح الشاب أو الفتاة أقرب ما يكون إلى الفساد في فراشه ومخدعه، عندما يخلو بهاتفه، ويتصفح المواقع والقنوات، التي تنقل له ما يعجز معه عن إطفاء شهواته إلا بطرق محرمة، خاصة مع تعسر أسباب الزواج الشرعي، وصدق الشاعر:
وكُنتَ إذا أرسَلتَ طرفَكَ رَائِدًا *** لِقَلبِكَ يومًا أتعَبَتكَ المنَاظِرُ
رأيتَ الَّذِي لاَ كُلُّهُ أنتَ قادِرٌ *** عَليهِ وَلا عَن بَعضِه أنتَ صابِرُ
3- إلحاح الغرب على نشر الشذوذ
لا يظن ظانٌّ أن المواقع المنحرفة والشبكات الإباحية أنها تنشر هكذا بلا خطط مسمومة، بل إنها تحرص كل الحرص على نشر الشذوذ من اللواط والسحاق، وتستعين في ذلك بممثلين وممثلات ومخرجين على درجة كبيرة من الخبرة؛ لِتُصَوِّر للمتابعين فرط اللذة والمتعة التي يصل إليها ممارس الشذوذ، ومن ذلك التحرش بالأطفال، فيبدأ المتابع المغرور في تقليد ذلك على أبناء العائلة والجيران، وإذا عجز تحرش بالغريب في وسائل المواصلات أو في الطرق البعيدة، إشباعًا لنزقه وإرضاء لغروره، وتقليدًا لما رآه في القنوات والمقاطع.
4- الفراغ عند الشباب
يعاني الشباب العربي من فراغ كبير، فالدراسة والتعليم صارت مُهْمَلَة لدى غالبية الشباب، ونظرة واحدة على مؤشرات التعليم في العالم تنبئ عن واقع سيئ للعالم العربي في مؤشرات الابتكار والتعليم وغيرها.
لقد غابت حواضن الشباب عن أداء رسالتها، فانغمس الشباب في إشباع سعار الشهوات، فالنفس إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل، ولذا ينبغي إشغال الشباب والفتيات بأنشطة ثقافية ورياضية وقبل ذلك تحصينهم بالتمسك بدينهم، للنجاة من هذه الفتن.
5- الثقة المبالغ فيها والاختلاط الزائد عن الحد
بعض الأُسَر والشباب الصغار أصبحوا يثقون في غيرهم ثقةً كبيرةً، وبعض العائلات تدع الصغار مع السائق والحارس والمدرِّب والمعلم لفترات طويلة، وهذه الثقة ربما تجر ويلات على الصغار، فينبغي متابعة الصغار وتحذيرهم من طرق ووسائل التحرش، وإشعارهم بالأمان، ليصرحوا لأسرهم بما يحدث لهم استباقًا للكارثة، وحفاظًا على الأبناء.
علاج التحرش والوقاية منه:
لا شك أنَّ علاج هذه الظاهرة تحتاج إلى تضافر مجتمعي شامل، ليقوم كلٌّ بدوره فيها:
- تحتاج إلى إمام المسجد ليشرح زَجْر الدين وتحريم الإسلام لهذه الظواهر وأضرارها، ويغرس فيهم أهمية التحصن بالدين ومراقبة الله -تبارك وتعالى-، والحذر من مساخطه، وعدم استهلاك فترة الشباب وقوته في العصيان.
- وتحتاج إلى المُعَلِّم والمُعَلِّمة الذين يبيِّنون لطلابهم وفتياتهم أضرار التحرش، ويوضِّحون لهم طرق ووسائل النجاة من هذه البلايا وكيف يحمون أنفسهم إذا تعرضوا لهذا الإجرام.
- وتحتاج إلى الأسرة الواعية التي تحنو على أطفالها، وتُعَلِّمهم احترام خصوصياتهم، وحدود التعامل مع الغرباء والأقربين، وتغرس فيهم فنون الصراحة والحوار، وتبث فيهم الثقة، وعدم الخوف من المصارحة بما يحدث لهم، ومعالجة أي مشكلات برفق وعدم تضخيم الأمور ليشعر الأبناء بالأمان مع آبائهم ويبوحون لهم بما يعترضهم خارج وداخل الأسرة.
- وتحتاج إلى وسائل الإعلام النقية التي تحذر من هذا الفجور، وتعرف الأطفال والفتيات كيفية التعامل مع هذا الجرم، وتبيِّن لهم أضرار أصدقاء السوء.
- وتحتاج جهودًا من الأُسَر والدول لشغل أوقات فراغ الشباب في كل نافع مفيد.
- وتحتاج جهود الدول في منع القنوات الخبيثة والمواقع الإباحية التي تثير سعار الشهوات.
- وتحتاج جهودًا من الأسر والمجتمعات في تيسير الحلال وعدم تعسير الزواج، لترك مُتَنَفّس طيِّب لإشباع الشهوات وإطفاء أتون الرغبات التي لا تعصف –حال منعها وكبتها- بالشباب والفتيات فقط، بل بالأسر والمجتمعات، حتى تصل إلى نتائج لا تُحمد عقباها، نسأل الله السلامة والعافية.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم