اقتباس
ذلك الضوء الخاطف الذي يلمع في السماء، قد يكون مقدمة لرخاء وازدهار وزرع وثمر إذا أمره الله، وقد يكون نذيرًا بدمار ووبال وهلاك إذا أمره ربه -عز وجل-، وكذا الأرض التي نمشي عليها قد تكون موطأً سهلًا هينًا لينًا إذا ما أمرها الله -تعالى-، وقد تتزلزل وتهتز فتدمِّر ما فوقها إذا أمرها الله بذلك، وهذي السماء الزاهرة الباهرة تخلب الألباب بجمالها وروعتها وهي يوم القيامة منشقة ومنفطرة ومفتحة,,,
مقدمة:
سبحان الله، سبحانه، سبحانه، عجيب ما نرى من حال دنيانا؛ أمم تصلي صلاة استسقاء لينزل الله عليها المطر بعد أن جفت الأرض وفسد الزرع وعطشت الدواب، وأمم أخرى تجأر إلى الله -تعالى- أن يرفع عنها المطر بعد أن تسبب في سيول وقتلى وفساد أبنية وغرق منشآت... فسبحان من له في كل تقدير حكمة.
ولعل ما يحدثه المطر من نماء ورخاء وخير، وما يمكن أن يحدثه -إن زاد- من تدمير وهلاك ومحق للثمار هو ما يجعل الناس -إذا ما رأوا المطر- ما بين خوف من ازدياده وطمع في خيره ونمائه، مصداق ذلك قول الله -عز وجل-: (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا)[الرعد: 12]، بل وجعل الله -تعالى- ذلك من آياته وعجائبه؛ فقال -عز من قائل-: (وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا)[الروم: 24] "وفي كونه خوفًا وطمعًا وجوه:
الأول: أن عند لمعان البرق يخاف من الصواعق، ويطمع في نزول المطر.
الثاني: أنه يخاف من البرق من يتضرر بالمطر كالمسافر ومن في حقله التمر والزبيب والقمح ونحو ذلك، ويطمع فيه من له في نزول المطر نفع كالزارع ونحوه.
الثالث: أن المطر يخاف منه إذا كان في غير مكانه وزمانه، ويطمع فيه إذا كان في مكانه وزمانه؛ فإن من البلاد ما إذا أمطرت قحطت وإذا لم تمطر أخصبت"(تفسير الخازن بتصرف).
ولقد حدث الأمران؛ النفع والضرر بالمطر، على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبين يديه؛ فعن أنس بن مالك قال: أصابت الناس سنة على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-، فبينا النبي -صلى الله عليه وسلم- يخطب في يوم جمعة قام أعرابي، فقال يا رسول الله: هلك المال وجاع العيال، فادع الله لنا، فرفع يديه وما نرى في السماء قزعة، فوالذي نفسي بيده، ما وضعها حتى ثار السحاب أمثال الجبال، ثم لم ينزل عن منبره حتى رأيت المطر يتحادر على لحيته -صلى الله عليه وسلم-، فمطرنا يومنا ذلك، ومن الغد وبعد الغد، والذي يليه، حتى الجمعة الأخرى، وقام ذلك الأعرابي -أو قال: غيره- فقال: يا رسول الله، تهدم البناء وغرق المال، فادع الله لنا، فرفع يديه فقال: "اللهم حوالينا ولا علينا" فما يشير بيده إلى ناحية من السحاب إلا انفرجت، وصارت المدينة مثل الجوبة (الفرجة المستديرة في السحاب)، وسال الوادي قناة شهرًا، ولم يجئ أحد من ناحية إلا حدث بالجود. (متفق عليه).
والحق أن الأمر كله بيد الله -تعالى- وتقديره وقدرته، يفعل ما يشاء وقتما يشاء حسبما شاء وفق حكمته وإرادته، وكل ما في هذا الكون من مخلوقات طوع أمره ورهن مشيئته، فكلٌ له عبيد وجنود مأمورون: (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ)[المدثر: 31].
فهذا البرق؛ ذلك الضوء الخاطف الذي يلمع في السماء، قد يكون مقدمة لرخاء وازدهار وزرع وثمر إذا أمره الله، وقد يكون نذيرًا بدمار ووبال وهلاك إذا أمره ربه -عز وجل-، وكذا الأرض التي نمشي عليها قد تكون موطأً سهلًا هينًا لينًا إذا ما أمرها الله -تعالى-، وقد تتزلزل وتهتز فتدمِّر ما فوقها إذا أمرها الله بذلك، وهذي السماء الزاهرة الباهرة تخلب الألباب بجمالها وروعتها وهي يوم القيامة منشقة ومنفطرة ومفتحة أبوابًا، وقل مثل ذلك على البحار وعلى الرياح وعلى الكائنات كلها.
ألا تعلم أن الله -عز وجل- قد أهلك جيشًا بأكمله ببعوض أكل لحومهم، وأهلك قائدهم النمروذ الذي ادعى الألوهية ببعوضة دخلت أنفه! يقول ابن كثير في تفسيره: "فجمع النمروذ جيشه وجنوده وقت طلوع الشمس، وأرسل الله عليهم بابًا من البعوض بحيث لم يروا عين الشمس، وسلطها الله عليهم فأكلت لحومهم ودماءهم وتركتهم عظاما بادية، ودخلت واحدة منها في منخري الملك فمكثت في منخريه أربعمائة سنة، عذبه الله بها فكان يضرب رأسه بالمرازب في هذه المدة كلها حتى أهلكه الله بها"(تفسير ابن كثير).
ألا تدري أن الله -سبحانه وتعالى- قد أهلك أقوامًا غرقًا تحت أطنان من الماء المنهمر من السماء أو المتفجر من البحر: (وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً)[الفرقان: 37]، وفي آية أخرى: (فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ * فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ)[القمر: 10-12]، ولقد روي -بسند ضعيف- عن عمر بن الخطاب عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "ليس من ليلة إلا والبحر يشرف فيها ثلاث مرات على الأرض، يستأذن الله في أن ينفضخ عليهم فيكفه الله عز وجل-"(أحمد).
ولقد سمعنا عن تلك النقمة التي تسمى: "تسونامي"؛ أعاصير ورياح ذات سرعة عالية وطوفان قاتل من المياه المالحة وانشقاقات أرضية... كل ذلك يتحد -بأمر الله- ضد بعض البشر الذين أراد الله إهلاكهم، فما باتوا إلا هلكى أو ما أصبحوا إلا موتى، فسبحان الله ملك الملوك ومالك الملك! وتلك القشرة الأرضية التي نحيا عليها ونزرع ونتجول وهي تحجز عنا ما تحتها من معادن منصهرة شديدة الحرارة، إذا بها -بأمر الله- تتصدع فتسمح لشيء من تلك المصهورات أن تخرج مندفعة على هيئة براكين تقتل وتدمر وتمحو بلادًا كاملة...
ولو نظرنا بعين القلب لأدركنا أن كل نعمة من الله -تعالى- تزداد بالشكر، وتتحول إلى نقمة بالذنوب والمعاصي، وصدق الله: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ)[إبراهيم: 7]، وهذا نموذج عملي وواقعة حقيقية لذلك: (لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ)[سبأ: 15-17]، وبعدها مباشرة: (وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ * فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ)[سبأ: 18-19].
وتلك قرية كانت تتقلب في نعم الله؛ أمان ورزق رغد، فلما كفرت النعمة ولم تشكرها نُزِعت منها فصار الأمن خوفًا والرزق الرغد جوعًا: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ)[النحل: 112].
فيا الله في الذنوب والمعاصي! وهذا البرق كذلك؛ جندي من جنود الله، يكون نعمة علينا وبشير خير لنا ما أطعنا الله -تعالى- وشكرناه وأقمنا شريعته، ويتحول إلى نذير نقمة وشر وبلاء إذا ما انتشرت المعاصي وضيعت حدود الدين... وصدق الله: (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا).
وحول البرق وكونه بشيرًا بالمطر الرغد والنماء العاجل، أو كونه نذيرًا بهلاك ودمار، حول هذا وذاك قد جمعنا بعض خطب لإخواننا الخطباء تجلي الأمر وتظهره، وتدلل له وتؤصله، وتوضح كيف تدوم النعم، وتحذر من عاقبة كفرانها... فإليك فانتفع بها:
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم