إن من نعم الله علينا أن جعل لنا الليل نسكن فيه وننام، ذلك أن النوم حاجة لا يستغني عنها الإنسان، وهو ضروري ليستعيد الجسد حيويته وطاقته وليستعيد العقل نشاطه بعد التعرض للضغوط النفسية والإجهاد طيلة النهار، وإذا ما حُرم الإنسان النوم مدة تزيد عن يوم كامل بدأ يعاني من الإرهاق النفسي، وإذا زادت الأيام دون أي نوم فإن البعض يضطرب عقلياً وتظهر لديه الأهلاس والتوهمات .
وفي رمضان يضطرب نظام نوم بعض الصائمين إذ ينفقون الليل في السمر والأكل والشرب، حتى إذا اقترب الفجر تسحروا وناموا، وبعضهم يحرص على صلاة الفجر فينام بعد أن يؤديها.. ومع أن الحكومات في معظم البلدان الإسلامية تؤخر بداية الدوام الرسمي في رمضان فإن الساعات الباقية بين الفجر وبداية الدوام لا تكفي ليستعيد هذا الصائم نشاطه العقلي والبدني وقد حرم نفسه من ساعات النوم التي اعتاد عليها، فيذهب إلى عمله والإرهاق ظاهر على وجهه والكسل مسيطر عليه ولا رغبة له في العمل، فتمر ساعات العمل شاقة عليه ومزعجة له. إنها عادة لا تتمشى مع نمط الحياة المعاصرة حيث الواجبات الكثيرة والمواعيد المنتظمة، وحتى أيام النبي صلى الله عليه وسلم حيث لم يكن شعور الناس بالزمن زائداً كما هو حالنا اليوم، مع ذلك لم تكن عادته صلى الله عليه وسلم أن يسهر الساعات الطويلة ينتظر السحور إلاّ إن سهر لقيام الليل وتلاوة القرآن. إن لأبداننا علينا حقاً، ويكفيها في رمضان مشقة الصيام عن الطعام والشراب والشهوة، ومن الخطأ أن نضيف إلى تلك المشقة اضطراب نظام النوم لدينا حيث ننام في النهار بعد العودة من أعمالنا أكثر بكثير مما ننام في الليل.
ومن ناحية أخرى فإن بعض الصائمين الميالين بطبعهم إلى القلق النفسي قد يعانون في رمضان من انخفاض معنوياتهم في النهار، ويبدأ ذلك لديهم منذ الصباح مع أنهم لم يجوعوا بعد ولم يعطشوا وبخاصة إن كانوا قد تسحروا قبيل الفجر، وانخفاض معنوياتهم هذا يعود إلى إحساسهم بقلق غامض مرتبط بخوفهم من المعاناة نتيجة عدم قدرتهم على الأكل والشرب إلى غروب الشمس، وهذا قلق وتخوف لا داعي له، إذ ديننا دين رفع الحرج، وديننا دين الرحمة ولا مكان فيه لتعذيب النفس، فالذي صام إن بلغ به الجهد حد الألم والمعاناة فالرخصة له في أن يفطر ويصوم بعد رمضان بدلاً عما أفطر، هذه الرخصة قائمة، وكل مؤمن أدرى بنفسه وبقدرته على إتمام صومه، ولن يخدع اللهَ أحدٌ، فهو العالم بالسر وما أخفى من السر، وهو الذي يعلم ما في نفوسنا ولا نعلم ما في نفسه سبحانه وتعالى، لكن الذي لا شك فيه ولا خلاف عليه أن الله لا يرضى لنا العذاب والمشقة والحرج، وأننا مطالبون أن نتقيه ما استطعنا، وأنه لا يطالبنـا بما لا طاقة لنا به، والمؤمن الصائم إن كان من الذين يميلون إلى القلق النفسي سيخف قلقه إن أدرك أن الرخصة بالفطر إن بلغ به الجهد حداً يؤلمه قائمة ومتاحة له، وعلى الغالب فإنه لن يفطر، إذ قلما يبلغ الجهد بالإنسان حد العجز عن الاستمرار في الصوم دون معاناة إلاّ في حالات خاصة يتعرض فيها الصائم لحر شديد مثلاً أو لا يصحو للسحور ويجهده الجوع أو غير ذلك .
أما إن أصابه المرض وهو صائم حتى لو كان صداعاً فله أن يفطر ويتداوى، هذا وإن كان الصيام ضاراً بصحته فليس له الخيار، بل عليه المحافظة على صحته وهو معذور في ذلك من الخالق الرحيم الذي كتب علينا الصيام كما كتبه على الذين من قبلنا لعلنا نتقيه لا ليعذبنا به.. إن الظن أن تعذيب الجسد يؤدي إلى سمو الروح، والظن أن تعذيب الجسد عبادة يتقرب بها الإنسان إلى الله ليس من هدي الرسول صلى الله عليه وسلم. لقد نزَّه الله دينه عن الحرج، والحرج دون العذاب والمعاناة الصريحة: "مـا يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون" (المائدة 6)، "هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج، ملة أبيكم إبراهيم، هو سماكم المسلمين من قبل.. " (الحج 78).
فلنقبل على صيامنا منشرحين بالطمأنينة إلى رحمة الله بنا، فهو الرؤوف الرحيم سبحانه وتعالى .
نظرات نفسية في الصيام (1) ‘لعلـكم تتقون‘
نظرات نفسية في الصيام (2) ‘إن الله مبتليكم بِنَهَر‘
نظرات نفسية في الصيام (3) ‘فإنــه له وجـاء‘
نظرات نفسية في الصيام (4) ‘فَلْيَقُلْ: إنــي صائـــم‘
نظرات نفسية في الصيام (5) ‘الصيـام لا يسبب العصبيـة‘
التعليقات