اقتباس
إن للأعياد في الإسلام فلسفة خاصة وأهدافًا سامية، إذ قد ربط التشريع الحكيم بين أفراح المؤمنين وقيامهم بطاعات كبرى، وجعل قبل يومي العيد؛ يوم الفطر ويوم الأضحى، مواسم للطاعة، يغفر الله فيها لعباده، ويقرِّبهم إليه، ويرفع بطاعاتهم ذِكْرهم وأجرهم عنده. وإن فلسفة العيد في الإسلام قائمة على الفرح بالطاعات، طالما تقرَّب العبد من ربه –سبحانه وتعالى-، ...
تميز المنهج الإسلامي في تناوله لسائر أمور البشر عن غيره من الأفكار البشرية الأرضية والأنظمة الوضعية؛ فالمنهج الإسلامي يتسم بخصائص سامية وغايات نبيلة، وأهداف طموحة، ومُثُل وقِيَم فُضْلَى؛ فإذا كانت الأمم قد اعتادت تخصيص الأيام الوطنية والأعياد المرتبطة بمناسبات معينة والاحتفاء والاحتفال بها، وجعلت لها مواسم وأيام احتفالات، ارتبطت بإجازات رسمية، واتَّسَمت كثير من هذه المناسبات بالفَرَح المذموم، وصارت مواسم للتفلُّت من ربقة الشريعة في إشباع الغرائز والشهوات من كل الطرق، إلا أن الإسلام خالف هذه النظرة الشهوانية للأعياد، وجعلها مرتبطة بالعبادات، وتكميلاً لها واحتفاءً بها.
وقد شاءت إرادة الله –جل جلاله- أن يُنَوِّع مواسم العبادات لعباده؛ فهناك عبادات قلبية وأهمها وأعظمها التوحيد والإيمان؛ لا ينفك عنها العبد في ليله ونهاره، وتدوم معه في كل أحواله؛ لأن الفرد بلا عقيدة صحيحة هباءٌ تَذْرُوه رياح الفتن، وتتسلط عليه الشهوات، ويتخبط بين تلاطم الشبهات. ومن العبادات ما يتعلق بالأبدان؛ كالصلاة اليومية، والصيام، والجهاد في سبيل الله، ومعاونة أهل الحاجة، وتعليم الجاهل، وإسماع الأصم، ودلالة التائه، وتنحية الأذى عن الطريق، وغيرها من الأعمال التي تستلزم حركة الأبدان وسلامتها وقوتها. وهناك عبادات مالية؛ وأعظمها الزكاة المفروضة، والصدقات، والإحسان إلى الفقراء والمحتاجين واليتامى والمعوزين، وبذل المال في مراضي الله –تبارك وتعالى-، وصلة الرحم من خلاله، ونفع المسلمين به.
وهناك عبادات تجمع بين الأصناف أعلاه؛ فيلزم لأدائها سلامة الأبدان وقدرتها حقيقة أو حكمًا، وكذا يلزم لأدائها المال المعين على تحمُّل نفقاتها، والقيام بحقوقها ومتعلقاتها، وعلى رأس هذه الأعمال؛ الحج والعمرة والزيارة. وشاء الله -تعالى- هذا التنويع بين العبادات؛ نظرًا لاختلاف النفوس وتنوُّع تطلعاتها، وتعدد رغباتها، واختلاف طاقاتها؛ فمن المسلمين من يفتح الله له في الصلاة وخشوعها، وفقه أسرارها، فيزيد فيها عن الفرائض، ويحضر فيها قلبه، وتكون سلواه وهجيراه. ومنهم من يفتح الله عليه أبواب الزكاة والصدقات، فينفق منها آناء الليل وأطراف النهار. ومنهم من يفتح له في الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ومنهم من يفتح له في الذِّكر وقراءة القرآن وتعليمه. ومنهم من يفتح الله له في الحج والعمرة ومجاورة الحرمين. والكل مأجورٌ إن شاء الله؛ طالما توسط واعتدل ولم يُخِلَّ بواجب الوقت؛ ولله في خلقه شؤون، فالمهم أن يعي العبد الباب الذي يسَّره له للوصول إليه.
الأضحى .. تضحية وفداء عيد الأضحى يوم عظيم من أيام الله -تعالى-، يومٌ تُعَظَّمُ فيه الشعائر، وتُؤَدَّى فيه النُّسُك، وهو يوم الحج الأكبر ويوم النحر؛ وترجع عظمة هذا اليوم المشهود إلى أنه اليوم الذي يؤدي الحجاج فيه أركانًا وأعمالاً رئيسة في فريضة الحج. وفي أنحاء بلاد المسلمين يهرع المسلمون إلى أداء صلاة العيد في المصليات الجامعة، ثم يعودون لذبح الأضاحي، تقربًا إلى الله –تعالى-، وتعظيمًا لشعائره، وتذكرًا لأول أضحية في الملة الحنيفية؛ وفداء الله -تعالى- لإسماعيل -عليه السلام- بعدما همَّ أبو الأنبياء؛ إبراهيم –عليه السلام- بذبحه استجابةً لأمر الله -جل وعلا-: (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) [الصافات: 102- 107].
ومتابعة لسُّنة النبي محمد –صلى الله عليه وسلم- الذي ضحَّى وأمر بالأضحية، فعن عائشةَ -رَضِيَ اللهُ عنها-: "أنَّ رَسولَ اللهِ –صلى الله عليه وسلم- أمَرَ بكبشٍ أقرَنَ، يطَأُ في سوادٍ، ويَبْرُكُ في سوادٍ، وينظُرُ في سوادٍ؛ فأُتِيَ به ليُضَحِّيَ به، فقال لها: يا عائشةُ، هَلُمِّي المُدْيَةَ. ثم قال: اشْحَذِيها بحَجَرٍ، ففَعَلَتْ: ثمَّ أخَذَها وأخَذَ الكَبْشَ فأضجَعَه، ثم ذبَحَه، ثمَّ قال: باسْمِ اللهِ، اللهُمَّ تقبَّلْ مِن محمَّدٍ وآلِ محمَّدٍ، ومنْ أمَّةِ محمَّدٍ. ثم ضحَّى به"(صحيح مسلم 1967). بل وحذر النبي –صلى الله عليه وسلم- من ترك شعيرة الأضحية حال القدرة عليها؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ وَجَدَ سَعَةً لأَنْ يُضَحِّىَ فَلَمْ يُضَحِّ؛ فَلاَ يَحْضُرْ مُصَلاَّنَا"(أخرجه أحمد والحاكم وحسنه الألباني في صحيح الترغيب 1087).
فلا شك أن هذا يومٌ معظَّم لدى جموع المسلمين في شتَّى بقاع الأرض؛ والكل يرجو أن يتقبل الله منه، ويغفر له. العيد وأيام التشريق موسم ذكر وفِكَر يأتي يوم الأضحى وأيام التشريق لتعظيم ذِكْر الله –تبارك وتعالى-؛ فعَنْ نُبَيْشَةَ الْهُذَلِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "أَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ"(صحيح مسلم 1141)، وفي رواية أبي داود "وَإِنَّ هَذِهِ الأَيَّامَ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ"(سنن أبي داود 2813، وصححه الألباني).
فهذا اليوم وما يليه من أيام التشريق ليست أيام أكل وشرب ولعب فقط، بل يُضاف في وصفها وأعمالها أنها أيام ذِكْر لله -تعالى-، وفي صحيح البخاري أن عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- "كان يُكَبِّرُ في فُسْطَاطِهِ بِمَنى، ويُكَبِّرُ النَّاسُ لتكبيرهِ دُبُرَ الصلاة، وفي غَيْرِ وَقْتِ الصلاةِ، وإذا ارتفع النهارُ، وعند الزوال، وإذا ذَهبَ يَرْمي". وفي رواية: "أنه كان يُكَبِّرُ في قُبَّتِهِ بِمنِى، فَيَسْمَعُهُ أهل المسجد فَيُكَبِّرُونَ، ويُكبِّرُ أَهلُ الأسواقِ حتى تَرْتَجُّ مِنَى تَكْبِيرًا"، وفي أخرى: "كان يّكبِّر بمنى تلك الأيام، وخلْفَ الصلاةِ، وعلى فِراشهِ، وفي فُسطَاطِهِ، ومَجْلِسِهِ، ومَمْشَاهُ في تلك الأيام جميعًا"(أخرجه البخاري معلقًا مجزومًا به: 1/329).
لكن.. هل صار العيد في أيامنا هذه موسم للذكر، لا نحرِّم اللهو فهو في العيد سُنَّة؛ إذ يباح الترفيه عن النفس والتوسعة على الأهل، فعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ دَخَلَ عَلَيْهَا وَالنَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عِنْدَهَا يَوْمَ فِطْرٍ أَوْ أَضْحًى، وَعِنْدَهَا قَيْنَتَانِ تُغَنِّيَانِ بِمَا تَقَاذَفَتْ الْأَنْصَارُ يَوْمَ بُعَاثٍ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: مِزْمَارُ الشَّيْطَانِ مَرَّتَيْنِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "دَعْهُمَا يَا أَبَا بَكْرٍ! إِنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا، وَإِنَّ عِيدَنَا هَذَا الْيَوْمُ"(متفق عليه).
وعن عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: "وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُومُ عَلَى بَابِ حُجْرَتِي وَالْحَبَشَةُ يَلْعَبُونَ بِالْحِرَابِ فِي الْمَسْجِدِ، وَرَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَسْتُرُنِي بِثَوْبِهِ لأَنْظُرَ إِلَى لَعِبِهِمْ بَيْنَ أُذُنِهِ وَعَاتِقِهِ، ثُمَّ يَقُومُ مِنْ أَجْلِي حَتَّى أَكُونَ أَنَا الَّتِي أَنْصَرِفُ، فَاقْدُرُوا قَدْرَ الْجَارِيَةِ الْحَدِيثَةِ السِّنِّ الْحَرِيصَةِ عَلَى اللَّهْوِ. وَقَالَتْ: كَانَ يَوْمُ عِيدٍ تَلْعَبُ السُّودَانُ بِالدَّرَقِ وَالْحِرَابِ"(رواه البخاري 907). وإنما الذي عمَّ وطمَّ أن الأعياد ربما صارت فرصةً للتفلُّت من شعائر الدين، وربما الجرأة على بعض المحرمات، نسأل الله السلامة والعافية.
فلسفة العيد الإسلام إن للأعياد في الإسلام فلسفة خاصة وأهدافًا ساميةً؛ إذ قد ربط التشريع الحكيم بين أفراح المؤمنين وقيامهم بطاعات كبرى، وجعل قبل يومي العيد؛ يوم الفطر ويوم الأضحى، مواسم للطاعة، يغفر الله فيها لعباده، ويقرِّبهم إليه، ويرفع بطاعاتهم ذِكْرهم وأجرهم عنده. وإنَّ فلسفة العيد في الإسلام قائمة على الفرح بالطاعات، طالما تقرَّب العبد من ربه –سبحانه وتعالى-، وصدق الله: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) [يونس: 58]، شريطة الاكتفاء بالحلال في الترويح عن النفس وعدم الغرق في بحار الشهوات المحرَّمة. ومن فلسفة العيد في الإسلام: التصافي والتسامح والتلاقي والتزاور، والتواصل والتكافل الاجتماعي، فينبغي للمسلمين أن يحرصوا على أخوتهم، ونشر ثقافة التسامح في المجتمع، وأولى الناس بالتسامح الأقارب، الأب والأم، والزوج والزوجة، والابن والابنة، والأخوال والأعمام، لا ينبغي لنا في أيام العيد أن نتقاطع ولا نتدابر، بل نتواصل، لذا كان من سنته –صلى الله عليه وسلم- يوم العيد مخالفة الطريق؛ ليرى المسلمون بعضهم بعضًا، ويفشوا السلام والتلاقي والمودة فيما بينهم، ليصبحوا جسدًا واحدًا.
كيف تستفيد الأمة من الأعياد؟ الجماعة والألفة والوحدة من معالم هذا الدين؛ إذ يدعو الإسلام إلى الائتلاف والتماسك والتعاضد بين المسلمين في كل زمان ومكان، ولذا كانت كثيرٌ من العبادات جماعيةً، وأشهرها الصلاة والصيام والحج؛ تذكيرًا بوحدة المسلمين في معالم دينهم؛ فربهم واحد ونبيهم واحد، وقبلتهم واحدة، وكتابهم واحد، وشعائرهم ومشاعر دينهم واحدة، فلماذا الفُرقة والشتات بين المسلمين؟
إن على الأُمَّة المسلمة اليوم أن تتدارس سُبُل استفادة المسلمين من هذا الأيام الكبرى وخاصة يومي الفطر والأضحى، الذين يتجمع فيهما المسلمون على عبادةٍ وفرحةٍ، ومدارسة كيف يكون العيد سبيلاً لشعور الأمة بوحدتها واعتزازها بدينها وترابطها وأخوتها الإيمانية. كما ينبغي أن يتَّخِذ القاطعون من العيد فرصةً لِبِرّ الوالدين والإحسان إليهم، وصلة الأرحام المقطوعة، ويتخذ منها الأزواج فرصةً لتناسي المتاعب والمصاعب، وفرصة ليتلاقى أفراد الأسرة في ظلال من المودة والرحمة، وفي صورة أعلى أن يرتبط المسلمون بعقيدة الولاء لهذا الدين وأهله، والبراء من كل صور المخالفة لشريعة الإسلام وشعائره، وأن يتوحدوا في إطار يقوِّيهم ويمنع فُرْقتهم وتشتتهم.
أيها الخطيب الواعي! حرصنا في ملتقى الخطباء على انتقاء مجموعة من الخطب التي تؤازرك في تجلية معاني عيد الأضحى، ونسأل الله أن يشرح صدرك ويُجْرِي الحقَّ على قلبك ولسانك، وأن نكون مِعْوَل بناء وارتقاء في بناء الأمة المتصدِّع، فنرجو أن تستفيد من هذه المختارة في بيان خصائص عيد الأضحى، ونسأل الله أن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال.
التعليقات