عناصر الخطبة
1/ أبواب الأعمال الصالحة كثيرة 2/ كل مُيَسَّر لما خُلق له 3/ بذل الصدقة للمحتاج من أعظم الإحسان 4/ فضائل الصدقة وثمراتها 5/ مساوئ استقلال الصدقة 6/ تنمية الله للصدقات وتكثيرها 7/ عدل الله مع المتصدقين 8/ صور من تصدُّق السلف بالقليل 9/ الحث على عدم احتقار الصدقة بالقليل والقديم.
اهداف الخطبة

اقتباس

بَذْلُ الصَّدَقَةِ لِلْمُحْتَاجِ مِنْ أَعْظَمِ الْإِحْسَانِ؛ لِأَنَّهَا تُشْبِعُ جَائِعًا، أَوْ تَكْسُو عَارِيًا، أَوْ تُعَالِجُ مَرِيضًا، أَوْ تَقْضِي دَيْنًا، أَوْ تُئْوِي مُشَرَّدًا، أَوْ تَكْفُلُ أَرْمَلَةً وَيَتِيمًا. وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَحْتَقِرُ قَلِيلَ الصَّدَقَةِ فَلَا يَبْذُلُهُ، فَيَسْتَحْيِي أَنْ يَمُدَّ لِلْفَقِيرِ رِيَالًا، وَيَخْجَلُ أَنْ يُقَدِّمَ شَيْئًا مِنْ طَعَامٍ، أَوْ قِطْعَةً مِنْ لِبَاسٍ أَوْ أَثَاثٍ. وَكَمْ مَنَعَ قِلَّةُ مَا بِيَدِ الْوَاحِدِ مِنَ الْإِنْفَاقِ... وَكَمْ مِنْ عَازِمٍ عَلَى الصَّدَقَةِ نَظَرَ فِي مِحْفَظَتِهِ فَلَمْ يَجِدْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْ مَالٍ فَأَحْجَمَ عَنِ الصَّدَقَةِ، وَكَمْ بَقِيَ لِلْوَاحِدِ مِنْ غَدَائِهِ وَعَشَائِهِ فَاسْتَقَلَّ أَنْ يُطْعِمَ بِهِ أَحَدًا. مَعَ أَنَّ اللُّقْمَةَ الْوَاحِدَةَ تَكْسِرُ حِدَّةَ الْجُوعِ...

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الْحَمْدُ لِلَّهِ الْجَوَادِ الْكَرِيمِ، الْبَرِّ الرَّحِيمِ؛ يَرْفَعُ وَيَضَعُ، وَيُعِزُّ وَيُذِلَّ، وَيُعْطِي وَيَمْنَعُ، وَيَقْبِضُ وَيَبْسُطُ (لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا) [الْفُرْقَانِ:2]، نَحْمَدُهُ وَنَشْكُرُهُ عَلَى مَا أَعْطَانَا وَمَا مَنَعَنَا، فَيُعْطِينَا بِفَضْلِهِ وَكَرَمِهِ، وَيَمْنَعُنَا بِحِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ.

 

وَأَشْهَدُ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ جَعَلَ التَّقَرُّبَ إِلَيْهِ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ سَبَبًا لِرِضَاهُ، وَإِذَا رَضِيَ عَنِ الْعَبْدِ أَعْطَاهُ، وَعَطَاؤُهُ سُبْحَانَهُ لَا يَنْقَطِعُ؛ لِأَنَّهُ دَائِمٌ لَا يَفُوتُ، وَحَيٌّ لَا يَمُوتُ (مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [النَّحْلِ:96].

وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ حَثَّ عَلَى الصَّدَقَةِ وَرَغَّبَ فِيهَا، وَأَخْبَرَ أَنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- يُنَمِّيهَا، وَكَانَ يُنْفِقُ مَا عِنْدَهُ، وَلَا يَدَّخِرُ شَيْئًا لِنَفْسِهِ وَأَهْلِهِ، فَيَمْضِي الشَّهْرُ وَالشَّهْرَانِ، وَمَا فِي بَيْتِهِ إِلَّا الْأَسْوَدَانِ، التَّمْرُ وَالْمَاءُ، وَلَا تُوقَدُ فِي بَيْتِهِ النَّارُ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا الَّلَهَ -تَعَالَى- وَأَطِيعُوهُ، وَاعْمَلُوا صَالِحًا فِي دُنْيَاكُمْ تَجِدُوهُ فِي أُخْرَاكُمْ؛ فَإِنَّ الْحِسَابَ عَسِيرٌ، وَفَوْزَ الْفَائِزِ كَبِيرٌ، وَخُسْرَانَ الْخَاسِرِ عَظِيمٌ (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) [الْكَهْفِ: 49].

 

أَيُّهَا النَّاسُ: أَبْوَابُ الْخَيْرِ كَثِيرَةٌ، وَأَعْمَالُ الْبِرِّ عَدِيدَةٌ، فَمَنْ أُغْلِقَ عَلَيهِ بَابٌ فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابٌ، وَمِنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ مَا يَكُونُ بِالْمَالِ؛ كَالْوَقْفِ وَالصَّدَقَةِ وَالْإِطْعَامِ، وَمِنْهُ مَا يَكُونُ بِالْبَدَنِ كَالصَّلَاةِ، وَمِنْهُ مَا يَكُونُ بِاللِّسَانِ كَالذِّكْرِ، وَمِنْهُ مَا يَكُونُ بِالْقَلْبِ كَالتَّفَكُّرِ. وَمِنْهُ عَمَلٌ صَالِحٌ مَقْصُورٌ نَفْعُهُ عَلَى صَاحِبِهِ كَالْعِبَادَاتِ الْمَحْضَةِ، وَمِنْهُ عَمَلٌ صَالِحٌ يَتَعَدَّى نَفْعُهُ إِلَى غَيْرِهِ؛ كَالتَّعْلِيمِ وَالْوَعْظِ وَالْإِرْشَادِ وَالْإِغَاثَةِ.

وَكُلَّمَا نَوَّعَ الْعَبْدُ فِي الْعِبَادَاتِ، وَوَلَجَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ أَبْوَابِ الْخَيْرَاتِ؛ حَافَظَ عَلَى أَوْقَاتِهِ، وَتَضَاعَفَتْ حَسَنَاتُهُ، وَطَرَدَ عَنْهُ السَّأَمَ وَالْمَلَلَ؛ لِأَنَّ النَّفْسَ الْبَشَرِيَّةَ تَمَلُّ الْإِقَامَةَ عَلَى عَمَلٍ وَاحِدٍ، وَتَضْجَرُ مِنَ الرَّتَابَةِ الْمُسْتَمِرَّةِ، وَلَرُبَّمَا تَحَوَّلَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ إِلَى عَادَةٍ، وَضَعُفَتْ فِيهِ جَوَانِبُ اسْتِحْضَارِ النِّيَّةِ وَالْخُشُوعِ.

وَالْإِحْسَانُ إِلَى النَّاسِ مِنْ عَظِيمِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَيَجِدُ صَاحِبُهُ لَذَّةً فِي كُلِّ إِحْسَانٍ يُقَدِّمُهُ؛ ثَوَابًا مُعَجَّلًا مِنَ اللَّهِ -تَعَالَى-، غَيْرَ الثَّوَابِ الْمُدَّخَرِ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.

وَبَذْلُ الصَّدَقَةِ لِلْمُحْتَاجِ مِنْ أَعْظَمِ الْإِحْسَانِ؛ لِأَنَّهَا تُشْبِعُ جَائِعًا، أَوْ تَكْسُو عَارِيًا، أَوْ تُعَالِجُ مَرِيضًا، أَوْ تَقْضِي دَيْنًا، أَوْ تُئْوِي مُشَرَّدًا، أَوْ تَكْفُلُ أَرْمَلَةً وَيَتِيمًا.

وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَحْتَقِرُ قَلِيلَ الصَّدَقَةِ فَلَا يَبْذُلُهُ، فَيَسْتَحْيِي أَنْ يَمُدَّ لِلْفَقِيرِ رِيَالًا، وَيَخْجَلُ أَنْ يُقَدِّمَ شَيْئًا مِنْ طَعَامٍ، أَوْ قِطْعَةً مِنْ لِبَاسٍ أَوْ أَثَاثٍ. وَكَمْ مَنَعَ قِلَّةُ مَا بِيَدِ الْوَاحِدِ مِنَ الْإِنْفَاقِ... وَكَمْ مِنْ عَازِمٍ عَلَى الصَّدَقَةِ نَظَرَ فِي مِحْفَظَتِهِ فَلَمْ يَجِدْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْ مَالٍ فَأَحْجَمَ عَنِ الصَّدَقَةِ، وَكَمْ بَقِيَ لِلْوَاحِدِ مِنْ غَدَائِهِ وَعَشَائِهِ فَاسْتَقَلَّ أَنْ يُطْعِمَ بِهِ أَحَدًا. مَعَ أَنَّ اللُّقْمَةَ الْوَاحِدَةَ تَكْسِرُ حِدَّةَ الْجُوعِ، وَقَدْ عَدَّ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي حَدِيثِهِ لِلصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّ مِنَ الصَّدَقَةِ اللُّقْمَةَ وَاللُّقْمَتَيْنِ، وَالتَّمْرَةَ وَالتَّمْرَتَيْنِ.

بَلْ عَدَّ مَا هُوَ أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ فِي حَدِيثٍ عَظِيمٍ يُبَيِّنُ أَهَمِّيَّةَ الصَّدَقَةِ، وَأَنَّهَا سَبَبٌ لِلنَّجَاةِ مِنَ النَّارِ وَلَوْ كَانَتْ قَلِيلَةً، فَفِي حَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ» (رَوَاهُ الشَّيْخَانِ)، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ قَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَتِرَ مِنَ النَّارِ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَلْيَفْعَلْ».

 

 وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «لِيَتَّقِ أَحَدُكُمْ وَجْهَهُ مِنَ النَّارِ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ». وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ لَهَا: «يَا عَائِشَةُ، اسْتَتِرِي مِنَ النَّارِ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَإِنَّهَا تَسُدُّ مِنَ الْجَائِعِ مَسَدَّهَا مِنَ الشَّبْعَانِ». (رَوَاهُ أَحْمَدُ).

وَلِحَدِيثِ التَّصَدُّقِ بِشِقِّ التَّمْرَةِ مُنَاسَبَةٌ مُهِمَّةٌ؛ وَهِيَ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَخْبَرَ أَنَّ الْعَبْدَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُحَاصَرٌ بِعَمَلِهِ، وَالنَّارُ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ، فَقَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَا مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ، فَيَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ مِنْ عَمَلِهِ، وَيَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ، وَيَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلَا يَرَى إِلَّا النَّارَ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ، فَاتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ». (رَوَاهُ الشَّيْخَانِ).

فَلْنَتَأَمَّلْ هَذَا الْمَوْقِفَ الْعَظِيمَ الْمُخِيفَ الَّذِي تُنْجِي فِيهِ الصَّدَقَةُ مِنَ النَّارِ، وَلَوْ كَانَتْ صَدَقَةً قَلِيلَةً كَشِقِّ تَمْرَةٍ. 

وَكُلُّ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ فِي ذِكْرِ الصَّدَقَةِ بِشِقِّ التَّمْرَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الصَّدَقَةَ سَبَبٌ لِلْوِقَايَةِ مِنَ النَّارِ وَلَوْ كَانَتْ قَلِيلَةً، وَشِقُّ التَّمْرَةِ هُوَ نِصْفُهَا أَوْ جَانِبُهَا، وَهُوَ قَلِيلٌ جِدًّا، وَلَكِنَّهُ عِنْدَ اللَّهِ -تَعَالَى- عَظِيمٌ إِذَا قَدَّمَهُ صَاحِبُهُ مُخْلِصًا فِيهِ، بِحَيْثُ يُنْجِيهِ بِهِ مِنَ النَّارِ، وَيَسْتَوْجِبُ لَهُ بِهِ الْجَنَّةَ.

وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ لِامْرَأَةٍ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَنُجِّيَتْ مِنَ النَّارِ، وَأُدْخِلَتِ الْجَنَّةَ بِتَمْرَةٍ وَاحِدَةٍ، كَمَا رَوَتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَتْ: جَاءَتْنِي مِسْكِينَةٌ تَحْمِلُ ابْنَتَيْنِ لَهَا، فَأَطْعَمْتُهَا ثَلَاثَ تَمَرَاتٍ، فَأَعْطَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تَمْرَةً، وَرَفَعَتْ إِلَى فِيهَا تَمْرَةً لِتَأْكُلَهَا، فَاسْتَطْعَمَتْهَا ابْنَتَاهَا، فَشَقَّتِ التَّمْرَةَ الَّتِي كَانَتْ تُرِيدُ أَنْ تَأْكُلَهَا بَيْنَهُمَا، فَأَعْجَبَنِي شَأْنُهَا، فَذَكَرْتُ الَّذِي صَنَعَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ: «إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَوْجَبَ لَهَا بِهَا الْجَنَّةَ، أَوْ أَعْتَقَهَا بِهَا مِنَ النَّارِ» (رَوَاهُ مُسْلِمٌ).

فَمَنْ يَحْتَقِرُ تَمْرَةً أَوْ شِقَّهَا أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ مَعَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الْعَظِيمَةِ؟! لِنَعْلَمَ أَنَّنَا فِي حَيَاتِنَا الْمَاضِيَةِ قَدْ فَرَّطْنَا كَثِيرًا فِي الْقَلِيلِ فَلَمْ نَتَصَدَّقْ بِهِ؛ لِقِلَّتِهِ فِي نُفُوسِنَا، مَعَ أَنَّهُ يَقَعُ مَوْقِعًا عَظِيمًا عِنْدَ اللَّهِ -تَعَالَى-، وَيَنْتَفِعُ بِهِ مُعْدَمًا لَا يَجِدُ شَيْئًا، أَوْ فَقِيرًا لَيْسَ مَعَهُ مَا يَكْفِيهِ.

فَيَجِبُ أَنْ نُغَيِّرَ نَظْرَتَنَا لِقَلِيلِ مَا يَبْقَى مِنْ أَطْعَمْتِنَا وَمَلَابِسِنَا وَأَثَاثِنَا وَحَاجَاتِنَا فَلَا نَرْمِيهِ، وَإِنَّمَا نَتَصَدَّقُ بِهِ، وَلَا نَسْتَقِلَّ رِيَالَاتٍ أَوْ قُرُوشًا نَمْلِكُهَا فَلْنَتَصَدَّقْ بِهَا؛ فَالْقَلِيلُ مَعَ الْقَلِيلِ يُصْبِحُ كَثِيرًا بِمُرُورِ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامِ.

وَسِرُّ ذَلِكَ: أَنَّ مَا نُقَدِّمُهُ مِنْ قَلِيلِ الصَّدَقَةِ لَا يَبْقَى قَلِيلًا عِنْدَ اللَّهِ -تَعَالَى-، بَلْ يَأْخُذُهُ سُبْحَانَهُ فَيُرَبِّيهِ لَنَا حَتَّى تُصْبِحَ التَّمْرَةُ جَبَلًا، وَيُصْبِحَ الرِّيَالُ مَالًا عَظِيمًا، وَبُرْهَانُ ذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَنْ تَصَدَّقَ بِعِدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ، وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ إِلَّا الطَّيِّبَ، وَإِنَّ اللَّهَ يَتَقَبَّلُهَا بِيَمِينِهِ، ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهِ، كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ، حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الْجَبَلِ» (رَوَاهُ الشَّيْخَانِ)، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: "فَتَرْبُو فِي كَفِّ الرَّحْمَنِ حَتَّى تَكُونَ أَعْظَمَ مِنَ الْجَبَلِ، كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ أَوْ فَصِيلَهُ".

فَكَمْ مِنْ مُتَصَدِّقٍ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَتَذَكَّرُ تَمْرَةً فَيَجِدُ جَبَلًا، وَكَمْ مِنْ تَمْرَةٍ فَمِثْلِهَا وَدُونِهَا يَنْجُو بِهَا صَاحِبُهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ. فَمَنْ ذَا الَّذِي يُسَارِعُ إلى الصَّدَقَةَ بِالْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ بَعْدَ عِلْمِهِ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ؟!

وَمِنْ عَدْلِ اللَّهِ -تَعَالَى- فِي عِبَادِهِ أَنَّهُ يُعَامِلُهُمْ فِي الصَّدَقَاتِ بِحَسَبِ مَا أَعْطَاهُمْ؛ فَقَدْ يَتَصَدَّقُ الْفَقِيرُ بِمَالٍ قَلِيلٍ يَسْبِقُ بِهِ مَالًا كَثِيرًا قَدَّمَهُ ثَرِيٌّ مِنَ الْأَثْرِيَاءِ، وَدَلِيلُ ذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «سَبَقَ دِرْهَمٌ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ» قَالُوا: وَكَيْفَ؟ قَالَ: «كَانَ لِرَجُلٍ دِرْهَمَانِ تَصَدَّقَ بِأَحَدِهِمَا، وَانْطَلَقَ رَجُلٌ إِلَى عُرْضِ مَالِهِ، فَأَخَذَ مِنْهُ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ فَتَصَدَّقَ بِهَا» (رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ).

فَلَا عُذْرَ لِغَنِيٍّ أَنْ يَتَصَدَّقَ مِنْ عُرْضِ مَالِهِ، وَمِمَّا يَسْتَغْنِي عَنْهُ مِنْ طَعَامِهِ وَلِبَاسِهِ وَمَرَاكِبِهِ وَأَثَاثِهِ. وَلَا عُذْرَ لِفَقِيرٍ أَنْ يَتَصَدَّقَ وَلَوْ بِقِطْعَةِ ثَوْبٍ أَوْ أَثَاثٍ، أَوْ بِلُقْمَةٍ أَوْ بِتَمْرَةٍ، فَإِنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- يُنَمِّيهَا لَهُ حَتَّى تُصْبِحَ شَيْئًا عَظِيمًا: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا) [النِّسَاءِ: 40].

بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ...

 

الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا الَّلَهَ -تَعَالَى- وَأَطِيعُوهُ (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [الْمُزَّمِّلِ: 20].

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: كَانَ الصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- يَفْقَهُونَ نُصُوصَ الْبَذْلِ وَالْعَطَاءِ وَالْإِحْسَانِ، فَيَجُودُونَ بِمَا فِي أَيْدِيهِمْ، قَلِيلًا كَانَ أَمْ كَثِيرًا؛ لِعِلْمِهِمْ أَنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- يُنَمِّي لَهُمُ الْقَلِيلَ حَتَّى يُصْبِحَ كَثِيرًا، وَلِعِلْمِهِمْ أَنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- يُعَامِلُهُمْ بِحَسَبِ مَا أَعْطَاهُمْ، وَلِعِلْمِهِمْ أَنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- يُجَازِيهِمْ بِمَثَاقِيلِ الذَّرِّ (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزَّلْزَلَةِ: 7-8].

وَمِنْ أَخْبَارِهِمْ فِي ذَلِكَ: أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمَّا نَدَبَهُمْ إِلَى الصَّدَقَةِ لِسَدِّ حَاجَةِ الْمُضَرِيِّينَ، وَقَالَ لَهُمْ: «تَصَدَّقَ رَجُلٌ مِنْ دِينَارِهِ، مِنْ دِرْهَمِهِ، مِنْ ثَوْبِهِ، مِنْ صَاعِ بُرِّهِ، مِنْ صَاعِ تَمْرِهِ - حَتَّى قَالَ - وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ» تَتَابَعُوا عَلَى الصَّدَقَةِ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِمَا عِنْدَهُ حَتَّى اجْتَمَعَ مِنْ قَلِيلِ صَدَقَتِهِمْ كَوْمَانِ مِنْ طَعَامٍ وَثِيَابٍ.

وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: جَاءَتْنِي امْرَأَةٌ مَعَهَا ابْنَتَانِ تَسْأَلُنِي، فَلَمْ تَجِدْ عِنْدِي غَيْرَ تَمْرَةٍ وَاحِدَةٍ، فَأَعْطَيْتُهَا فَقَسَمَتْهَا بَيْنَ ابْنَتَيْهَا، ثُمَّ قَامَتْ فَخَرَجَتْ.

وَأَتَاهَا ذَاتَ مَرَّةٍ سَائِلٌ وَعِنْدَهَا سَلَّةٌ مِنْ عِنَبٍ، فَأَخَذَتْ حَبَّةً مِنْ عِنَبٍ فَأَعْطَتْهُ، فَقِيلَ لَهَا فِي ذَلِكَ، فَقَالَتْ: هَذِهِ أَثْقَلُ مِنْ ذَرٍّ كَثِيرٍ، ثُمَّ قَرَأَتْ: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ).

وَعَنْ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّهُ أَتَاهُ مِسْكِينٌ، وَفِي يَدِهِ عُنْقُودٌ مِنْ عِنَبٍ، فَنَاوَلَهُ مِنْهُ حَبَّةً وَقَالَ: فِيهِ مَثَاقِيلُ ذَرٍّ كَثِيرَةٌ.

وَعَنْ سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّهُ أَتَاهُ سَائِلٌ وَبَيْنَ يَدَيْهِ طَبَقٌ عَلَيْهِ تَمْرٌ فَأَعْطَاهُ تَمْرَةً فَقَبَضَ السَّائِلُ يَدَهُ، فَقَالَ سَعْدٌ: وَيْحَكَ، تَقَبَّلَ اللَّهُ مِنَّا مِثْقَالَ الذَّرَّةِ وَالْخَرْدَلَةِ، وَكَمْ فِي هَذِهِ مِنْ مَثَاقِيلِ الذَّرِّ؟

فَكُلُّ هَذِهِ الْآثَارِ مِنْهُمْ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- لَا يُفَوِّتُونَ الصَّدَقَةَ، فَإِنْ وَجَدُوا كَثِيرًا تَصَدَّقُوا بِكَثِيرٍ؛ كَمَا تَصَدَّقَ أَبُو بَكْرٍ بِكُلِّ مَالِهِ، وَعُمَرُ بِنِصْفِ مَالِهِ، وَكَمَا جَهَّزَ عُثْمَانُ جَيْشَ الْعُسْرَةِ، وَكَمَا تَصَدَّقَ ابْنُ عَوْفٍ بِقَافِلَةٍ كَامِلَةٍ. وَإِذَا لَمْ يَكُنِ لَدَيْهِمْ إِلَّا قَلِيلٌ تَصَدَّقُوا بِذَلِكُمُ الْقَلِيلِ، وَلَمْ يُفَوِّتُوا أَجْرَ الصَّدَقَةِ لِقَلِيلِ مَا عِنْدَهُمْ، كَمَا تَصَدَّقُوا بِتَمْرَةٍ وَعِنَبَةٍ وَثَوْبٍ وَمِلْءِ الْيَدِ طَعَامًا.

فَحَرِيٌّ بِنَا أَنْ نَتَأَسَّى بِهِمْ فِي ذَلِكَ، وَأَنْ نُعَوِّدَ أَيْدِيَنَا عَلَى الْبَذْلِ وَالسَّخَاءِ؛ لِيُرَبِّيَ اللَّهُ -تَعَالَى- لَنَا مَا بَذَلْنَا فَنَجِدَهُ عَظِيمًا مُدَّخَرًا لَنَا يَوْمَ نَلْقَاهُ؛ فَإِنَّ مِنَ السَّبْعَةِ الَّذِينَ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ: "رَجُلًا تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ".

وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...

 

 

 

 

 

المرفقات
قليل الصدقة.doc
قليل الصدقة - مشكولة.doc
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life