اقتباس
ومن المعاني التربوية المهمة في فتح مكة أن التغيير والنصر والتمكين يأتي من حيث لا نحتسب، بل من حيث قد نكره؛ فلو أراد المسلمون أن يفتحوا مكة فلا شك أنهم سيضعون أكثر من احتمال أو تصور لهذا الفتح، ولو أنهم وضعوا ألفًا من هذه...
تزخر السيرة النبوية العطرة بفوائد تربوية فريدة من نوعها؛ فهي محاضن تربوية من نوع خاص، يتعلم فيها المتربي الدرس والعبرة من خلال الموقف اللحظي، وهو أكثر أساليب التربية فاعلية وتأثيرًا، حيث السبب والنتيجة ماثلتان أمام عينيه مثولاً واضحًا، فيراهما وينهل منهما في الوقت ذاته ولا يصعب عليه الربط بينهما.
ومن الحوادث التي امتلأت عبرًا ودروسًا وفوائد، استفاد منها من عايشوها، وسار على خطاها من قرؤوا عنها أو تدارسوها؛ غزوة فتح مكة، حيث الفطنة السياسية، والقوة التي وصل إليها المسلمون، والتواضع الذي امتاز به الرسول عليه الصلاة والسلام وأصحابه، والعزة التي تميزوا بها في مواجهة الكافرين... إلى غير ذلك من دروس الغزوة.
فتح مكة لحظة فارقة حقيقية في تاريخ المسلمين، بل ربما في تاريخ الأرض والعالم، حتى إنه إذا ذُكر الفتح معرفًا انصرف الذهن مباشرة إلى فتح مكة، مع أن كل انتصارات المسلمين كانت فتحًا، غير أن ما قبْل فتح مكة شيء وما بعده شيء آخر، حتى إن الرسول كان يقول: "لا هجرة بعد الفتح". ويقول رب العالمين: (لاَ يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ).
ومن المعاني التربوية المهمة في فتح مكة أن التغيير والنصر والتمكين يأتي من حيث لا نحتسب، بل من حيث قد نكره؛ فلو أراد المسلمون أن يفتحوا مكة فلا شك أنهم سيضعون أكثر من احتمال أو تصور لهذا الفتح، ولو أنهم وضعوا ألفًا من هذه الاحتمالات لجاء التغيير من طريق آخر، وما حدث هو أن قبيلة مشركة أغارت على قبيلة أخرى مشركة، فتم الفتح للمؤمنين.
وقد يأتي النصر من حيث يكره المسلمون؛ فقد كره المسلمون لقاء المشركين في بدر فجعل الله في باطنه النصر، يقول تعالى: (كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ) [الأنفال: 5]. وكره المسلمون صلح الحديبية وقالوا: لِمَ نعطي الدنية في ديننا؟! وكان في باطنه الخير كله الخير.
تُرى لماذا هذه السنة؟! ولماذا يأتي النصر من حيث نكره؟! ولماذا لا يأتي النصر من حيث نحب؟! أو بالطريقة التي نريد؟! أو بالطريقة التي نخطِّط لها؟! هذا الكلام يتكرر كثيرًا في مراحل التاريخ؛ لأن الله يريد لنا ألا نُفتن بنصرنا، ونعتقد أن النصر جاء من حسن تدبيرنا، ودقة خطتنا، وبراعة أدائنا، ولذكاء عقولنا، ولسرعة تصرفنا.. يجب ألا ننسى أن الذي نصرنا هو الله القوي؛ لذلك يأتي النصر من حيث لا نحتسب، بل من حيث نكره؛ وليعترف الجميع أن الناصر هو الله، لذلك يقول الله سبحانه: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) [النصر: 1].. النصرُ نصر الله، والفتح فتح رب العالمين للمسلمين.
ولعلنا إن تتبعنا كل حدث في فتح مكة خرجنا منه بعبرة وعظة، لكن تكفينا في هذه العجالة هذه الإشارات، ولعل الخطيب يجد فيما اخترناه له من الخطب المنتقاة عن فتح مكة لهذا الأسبوع بغيته، وربما يزيد عليها كثيرً من خلال تأملاته في هذا الفتح العظيم، الذي تفننت الخطب المختارة لهذا الأسبوع في حكايته، واستخراج ما فيه من فوائد ودروس.
التعليقات