اقتباس
وإتباع الهوى مذموم أشد الذم في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل آية ورد فيه لفظ الهوى، فتنصرف إلى الذم ومخالفة أمر الله عز وجل، والله عز وجل حذر من إتباع الهوى وجعله في مرتبة الإله المعبود والمطاع من دون الله سبحانه وتعالى، فقال عز من قائل في عدة آيات { أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا}
حقيقة دين الإسلام هو الانقياد التام لأوامر الله ورسوله، والاستسلام الكامل لما طلبه الشارع، فالإسلام هو إسلام الوجه والقصد لله عز وجل، والتخلص من إسلام الوجه لغير الله من الأنداد والأتباع وكل ما يعبد من دون الله، ومن أشد معيقات تمام الانقياد لله عز وجل، وإسلام الوجه له سبحانه وتعالى؛ الهوى، فمن اتبع هواه، ضل عن طريق الخضوع لمولاه، وصار هواه ندا يعبده من دون الله عز وجل، ولو كان إتباع الهوى مذموما بحق كل مسلم فهو أشد ذما وفتكا عندما يتسرب إلى قلب الدعاة، حيث لا يتصور وجود داعية لدين الله وإتباع أوامر الله والاستسلام لوجه الكريم، ثم يكون هو نفسه متلبسا بهذا المرض العظيم الذي تظهر آثاره وأضراره على الداعية والدعوة بصورة لا تخطر على بال أحد، لذلك كان لابد من الحذر من هذا الداء الخطير، وتطهير الصف الدعوي منه.
إتباع الهوى في اللغة له عدة معان منها: ميل النفس إلى ما تشتهي، وإرادة النفس ما تحب، غلبة ما يحب الإنسان على قلبه، عشق الصور وتمكنها من القلب، وخلاف بين هذه المعاني، إذ أنها تصف إتباع الهوى في درجاته المتفاوتة، منذ بدايته كميل وإعجاب دون تمكن واستقرار، ثم يتطور حتى يصير حبا وغلبة على القلب، ثم يصير بعدها عشقا وهياما يستولى على القلب استيلاء لا فكاك منه إلا برحمة من الله عز وجل. وقال علماء اللغة أن إتباع الهوى إذا أطلق انصرف إلى ما كان مذموما من أمور الدنيا، أما إذا أريد به ما كان خيرا، جاء مقيدا بوصفه.
أما إتباع الهوى في الاصطلاح: فهو السير وراء أهواء النفس وحظوظها وما تشتهيه، والنزول على حكم العاطفة من غير الرجوع إلى شرع أو عقل أو مشورة أو تجربة.
وإتباع الهوى مذموم أشد الذم في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل آية ورد فيه لفظ الهوى، فتنصرف إلى الذم ومخالفة أمر الله عز وجل، والله عز وجل حذر من إتباع الهوى وجعله في مرتبة الإله المعبود والمطاع من دون الله سبحانه وتعالى، فقال عز من قائل في عدة آيات { أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا} [الفرقان: 43]، وقال: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً} [الجاثية: 23]، وهذه الآية ترد على من يزعم أن إتباع الهوى إنما يقع فيه الجهال فقط، فهؤلاء الذين اتخذوا الهوى إله من دون الله، كان عندهم علم ولهم جوارح فاعلة، ولكنهم اتبعوا هواهم وتركوا كل هذه الأدوات التي كان يفترض أن تقودهم إلى الهداية.
والله عز وجل قرن بين إتباع الهوى وبين الظلم، فقال: {فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا} [النساء: 135]، وقرن بين إتباع الهوى وبين الضلال، فقال: ( ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله ) [ ص 32]، وقال: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ } [القصص: 50]، وقرن بين إتباع الهوى والذلة والهوان في الأرض، فقال {لَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ... } [الأعراف: 176] ، وبين الله عز وجل أن عصيان الهوى من علامات الخوف من الله عز وجل، ومن أسباب دخول الجنة، فقال: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 40، 41]
والرسول صلى الله عليه وسلم كان من أشد الناس تحذيرا من إتباع الهوى، وضرب به عدة أمثال ليبين للمسلمين خطورته وأضراره على قلب ونفس المؤمن، فوصفه بأنه إحدى المهلكات، فقال " ثلاث مهلكات؛ شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب كل ذي رأي برأيه"، وقال " بل ائتمروا بالمعروف، وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحا مطاعا، وهوى متبعا، ودنيا مؤثرة. ... " ووصفه في مقام آخر بأنه أحد أسباب سواد القلب وفساد النفس، كما في حديث عرض الفتن على القلوب، الذي جاء فيه قوله صلى الله عليه وسلم " والآخر أسود مربادا، كالكوز مجخيا، لا يعرف معروفا، ولا ينكر منكرا إلا ما اشرب من هواه " وشبه إتباع الأهواء بوصف بالغ الروعة والدقة، حيث شبهه بلهث الكلاب خلف أصحابها، فمن المعروف أن الكلاب تجري وراء أصحابها حيثما اتجهوا، لا يخرجون عن طاعة أصحابهم قط، فقال صلى الله عليه وسلم " وإنه سيخرج أقوام من أمتي تجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب لصاحبه "
أما عن أسباب إتباع الهوى فكثيرة منها ما كان بفعل البيئة الداخلية للداعية، ومنها ما كان من أثر البيئة الخارجية أو المحيطة به، ومن أبرز هذه الأسباب ما يلي:
الأول: التنشئة الخاطئة
فالكثير من الناس لا يدري تلكم الحقيقة البشرية الراسخة؛ أن التعليم في الصغر كالنقش على الحجر، وكثير من الآفات التي تصيب الناس، إنما تنمو معهم منذ الصغر بسبب التنشئة الخاطئة، وإتباع الهوى واحد من العديد من الآفات البشرية التي تأتي من البيت والتربية الأسرية الخاطئة، فالمرء قد يلقى من أبويه في الصغر حبا مفرطا، وتدليلا مفسدا، وحنانا زائدا، فينشئ لا يصبر على أدنى فراق للذته، أو تأخير عن قضاء شهوته، حتى ولو كان فيما يسخط الرحمان، فيكبر المرء وتكبر معه نوازعه الجامحة وأطماعه الجانحة، وحتى ولو كانت مباحة، فإن أقل ما يصيبه من إتباع هواه، أن يسرف فيها، فتتحول إلى داء في جسده يسلبه العافية، وداء في قلبه يسلبه نور الهداية، والضبط مقدرة يتربى عليها الإنسان من صغره، وعادة يتعود عليها، وكلما تعود من صغره، كلما سهل عليه أمرها، وكان أكثر منها تمكنا، فيكون مستعدا عند ملاقاة الأهواء وتلاطم الرغبات، والجهاد الذي هو ذروة سنام الإسلام، لا يستقيم لمسلم فضلا عن داعية إلا بضبط نفسه والتحكم في أهوائه ورغباته، حتى وأن كان في دائرة المباح الذي لا إثم فيه، كما قال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 24]
فكل ما ذكرته الآية ليس محرما بذاته، ولكنه لما صار عائقا ومانعا من طاعة الله ورسوله، وسببا في القعود عن الجهاد في سبيل الله وخدمة الدين صار إثما عظيما وندا من دون الله.
ثانيا: مجالسة أهل الأهواء
السلف رضوان الله عليهم كانوا أعمق الناس فهما، وأسلمهم صدرا، وأعظمهم فقها، وأدراهم بمرامي الشريعة ومقاصد الشارع، لذلك تجدهم أشد الناس تحذيرا من مجالسة أهل الأهواء والمبتدعين والمنحرفين فكريا وسلوكيا وأخلاقيا، فالعاطفة والميل ينمو بطول المجالسة وكثرة المخالطة، والطبع سرّاق، فمن عاشر الصالحين طفق يأخذ من آدابهم وأخلاقهم، ومن عاشر أهل الاستقامة، سار على دربهم واقتفى أثرهم، ومن جالس وصاحب أهل الفتن والزيع والأهواء، تأثر بهم وانتهج سبيلهم وناله من شرهم وآذاهم، فهو كما وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ نافخ كير، يحرق ثياب من يجالسه، أو يصيبه من شرر ناره ونتن غباره، وقد وعى السلف رضي الله عنهم هذا المعنى جيدا، فأكثروا من التحذير من مخالطة أصحاب الأهواء والبدع ،والجلوس إليهم والاستماع منهم، بل ومجرد التعامل معهم، فقد قال الحسن البصري وابن سيرين رحمهما الله: " لا تجالسوا أصحاب الأهواء، ولا تجادلوهم، ولا تسمعوا منهم " وقال أبو قلابة رحمه الله: " لا تجالسوا أهل الأهواء، ولا تجادلوهم، فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم أو يلبسوا عليكم ما كنتم تعرفون ".
ثالثا: تقصير المحيطين
فالله عز وجل قد تعبدنا بشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجعلها من أهم وظائف المرسلين، وقطب الدين الأعظم الذي عليه مدار الدعوة، فلبّ الدعوة هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد يكون السبب في وقوع بعض الدعاة في آفة إتباع الهوى، نابع من تقصير المحيطين بهذا الداعية من رفاقه وإخوانه الدعاة، فقد يرونه في هواه سائرا ويتركونه، وصاحب المرض إذا رأي من حوله لا يحسنون إلا الثناء عليه، ويتحاشون الإنكار عليه، فإنه سوف يستمر على ضلاله من حيث لا يدري، فالثناء مغري، والسكوت مرضي، والعافية منّة من الله سبحانه، وداعية يظل الداعية مصانا من النقد والزجر حتى يأكل المرض قلبه، ويتمكن الهوى من قلبه، ويسيطر على كل جوارحه ومشاعره.
لذلك كان الإسلام حريصا أشد الحرص على مقاومة المنكرات، وعدم السكوت عليها مهما كانت الضغوط، والآيات والأحاديث في هذا الشأن كثيرة جدا، والرسول صلى الله عليه وسلم ضرب في حياته وسيرته مع أهله وأصحابه المثل الأعلى في زجر من اتبع هواه، فالثلاثة الذين خلفوا عن غزوة تبوك، لم يكن عندهم عذر، سوى الميل إلى الدنيا، وإيثار الراحة والكسل والسلامة، على الجهاد والبذل والتضحية والتعب، لذلك كانت العقوبة والتأديب شديد، أكثر من خمسين يوما لا يكلمهم أحد من الناس، هجران كامل من أهل المدينة، حتى أن الواحد منهم كان يمشي في السوق والطرقات بين الناس، فلا يأبهون له، كأنه لا وجود له، حتى أنزل الله عز وجل توبتهم من السماء، ويوم أن رفضت زينب بنت جحش رضي الله عنها أن تعطي صفية بنت حيي بعيرا لتركبه بدلا من بعيرها الذي اعتل، وقالت: أنا أعطي تلك اليهودية، غضب الرسول صلى الله عليه وسلم منها، وهجرها أكثر من شهرين.
رابعا: إهمال القلب وترك مراقبته
لرسول الله صلى الله عليه وسلم حديث رائع يجب على كل داعية أن يضعه دائما نصب عينيه، وجاء فيه "وإنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم أكثر من سبعين مرة "، أي أن قلبي يصيبه غشاوة من كثرة مخالطة الناس، ومكابدة أمور دعوتهم، والإجابة على تساؤلاتهم، لذلك فهو يحتاج إلى مداومة الذكر والاستغفار، حتى يعود إلى قلبه عافيته الإيمانية، وقوته الدعوية، والدعاة في أمس الحاجة إلى دوام مراقبة قلوبهم ،ومتابعة أحواله وتقلباته، لأن الدنيا فتانة، والمغريات كثيرة، وحب الدنيا يتسلل إلى القلب والنفس ببطء، لا يشعر به الغافلون والسادرون، وفي الأثر " الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله "
والأخطر من ذلك أن صاحب الهوى قد يغرق في هواه من مفرق رأسه إلى أخمص قدميه، ومن حيث لا يدري يقسو قلبه، ثم يدخل في طور الاحتضار، ثم الموت، ولا يشعر بهذا الموت إلا عند اللحظة الحاسمة المصيرية، التي يحتاج فيها إلى ثبات وقوة قلبه، عندها يفيق من غفلته الطويلة، فلا يجد قلبه إلا جثة هامدة لا حياة فيها، وعندها لا ينفع الندم.
الداعية طبيب يصف العلاج والدواء للآخرين، ولو كان الطبيب نفسه مريضا، فمن يداويه ؟ ومن ينصحه ويرشده إلى الصواب، فوقوعه في أسر هواه، يجعله يرفض نصيحة الآخرين، ويتكبر عليها، ويعز على نفسه الانقياد للغير، فيتلاشي مخزونه الإيماني، وتتناقص طاعته شيئا فشيئا، حتى يستولي الهوى على قلبه، وما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه، فإما أن يطيع ربه، وإما أن يطيع هواه، والله أغنى الأغنياء عن الشرك، وهو سبحانه لا ينظر إلى الأجسام والصور، ولكن ينظر إلى القلوب والأعمال، وأخطر ما في إتباع الهوى ؛ الوقوع في البدع، وهو المدخل العظيم الذي ولجت منه البدع إلى حظيرة الدين، فمتبع الهوى أقرب الناس وقوعا في باب الابتداع، إذ أنه يحّكم هواه في كل أمر، فهواه هو السيد المطاع، الآمر الناهي، وبالتالي لو تعارض هذا الهوى مع أمر الله ورسوله، فإنه يبادر بإتباع هواه، والابتداع في الدين ليوجد مبررا ومنهجا يوافق ما أملاه عليه هواه، قال حمّاد بن سلمة: حدثني شيخ من الرافضة تاب: كنا إذا اجتمعنا فاستحسنا شيئا، جعلناه حديثا "، ولو يمكن في إتباع الداعية لهواه ضرر أكبر من التخبط والتيه والبعد عن الصراط المستقيم، لكفى بهذا المرض والداء إثما، وتذكروا معي قوله سبحانه وتعالى وتأملوا فيه {فَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ } [الجاثية: 23]، فهذا رجل له علم وسلامة حواس، فلم ينفعه علمه عندما أطاع هواه، وضل عن طريق مولاه، فمن ينقذه ويأخذ بيديه إلى طريق الهداية لو تخلى عنه ربه سبحانه وتعالى ؟!
سلسلة ‘أمراض على طريق الدعوة‘ (1) التصدر وطلب الرئاسة
سلسلة أمراض على طريق الدعوة (2) العجلة في الحكم وعدم التثبت
سلسلة أمراض على طريق الدعوة (3) اليأس والقنوط
سلسلة أمراض على طريق الدعوة (4) رد النصيحة ورفض النقد
سلسلة أمراض على طريق الدعوة (5) المراء والجدل
سلسلة أمراض على طريق الدعوة (6) سوء الظن
سلسلة أمراض على طريق الدعوة (7) التنطع والغلو
سلسلة أمراض على طريق الدعوة (9) العجب بالنفس
أمراض على طريق الدعوة (10) تنافس الدنيا
أمراض على طريق الدعوة (11) الفتـور
أمراض على طريق الدعوة (12) الغضب
التعليقات