اقتباس
وذلك لأن الداعية إذا اتبع هواه، وحكّم مزاجه، صار هذا الهوى هو إمامه وقائده ومعياره الذي يعاير به الناس ويحاكمهم إليه، وإتباع الهوى يدور بين الحب والبغض بلا سبب، والعرب تقول حبك الشيء يعمي ويصم، كما أن البغض يستوجب التماس العثرات، والبحث عن الزلات، وتصيد الأخطاء، لذلك...
من أسوأ الأمراض التي من الممكن أن تكون على طريق الدعوة الإسلامية، هو مرض " سوء الظن "، فهو المرض الذي يعتبر حجر الأساس الذي ينبني عليه كثير من الأمراض والآفات الاجتماعية والدعوية الأخرى، مثل الغيبة والنميمة والتجسس والتحسس والبغضاء والشحناء وفساد ذات البين والشائعات، فهو مرض في غاية الخطورة على المجتمعات المسلمة، فضلا على أن يكون على طريق الدعوة، وبين صفوف العاملين لدين الله عز وجل.
سوء الظن في اللغة العربية مكون من كلمتين، السوء وهي كلمة جامعة لكل قبيح، وكل ما يستقبح، وأيضا السوء هو كل ما يسوء الإنسان ويغمه من أمور الدنيا والآخرة، أما الظن فله عدة معان في اللغة منها:
الشك، فيقال: بئر ظنون: أي لا يدري أفيها ماء أم لا ؟، ومنها قوله عز وجل ( من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ ) [ الحج: 45]
ومنها التهمة، فيقال: أظن به الناس يعني اتهموه، ومنها قوله عز وجل ( وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا ) [ الأحزاب: 10]، ومنها الحسبان والعلم بغير يقين، فتقول: ظننت الشمس طالعة أي حسبتها طالعة، ومنها قوله تعالى ( وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات ..) [ الأنبياء: 87] وقوله ( وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله ) [ الحشر: 2]، ومنها اليقين، فيقال: ظنّ فلان الشيء بمعنى تقينه، ومنها قوله ( الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون ) [ البقرة: 46]، وقوله ( إني ظننت أني ملاق حسابيه ) [ الحاقة 20 ]، ولا تعارض بين هذه المعاني كلها، إذ هي تصوير لمراتب الظن من بدايته إلى نهايته، فالظن هو تخمين وتكهن وخاطر يقع في النفس لأمارات تظهر، وقرائن تبدو، فإذا قويت وتأكدت هذه الأمارات والقرائن صارت يقينا جازما، وإذا ضعفت وتلاشت صارت شكا ووهما.
أما سوء الظن في الاصطلاح: هو اتهام الآخرين من الدعاة وغيرهم بأوصاف سيئة من غير بينة ولا دليل ولا برهان، أو التخمين الذي ينتهي بوصف الغير بما يسوءهم ويغمهم من كل قبيح من غير دليل ولا برهان.
ولقد حرّم الإسلام سوء الظن بكل صوره وجعله مذموما بالكلية، وسوء الظن ذكر في القرآن في مواطن كثيرة جاء أغلب سياقها في شأن الكافرين والمنافقين وضعاف الإيمان ومتبعي الأهواء والشبهات، فقد يقود سوء الظن إلى الكفر والعياذ بالله، والتشكيك في البعث والنشور، كما قال الله عز وجل ( ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا * وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خير منها منقلبا ) [ الكهف: 35 ـ 36 ]، وقد يقود أيضا إلى التشكيك بقدرة الله وعلمه وإطلاعه وإحاطته بالأمر، قال تعالى ( بل ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين ) [ فصلت: 22 ـ 23 ]، وقد يقود لليأس والقنوط من رحمة الله، كما قال تعالى ( بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا وزين ذلك في قلوبكم وظننتم ظن السوء وكنتم قوما بورا ) [ الفتح: 12]، وقد يقود لترك الجهاد ونصرة الدين، كما قال تعالى ( وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية ) [ آل عمران: 154]، وقد يقود للتكذيب بموعود الله ورسوله كما قال الله في شأن المنافقين وضعاف الإيمان يوم الأحزاب ( وتظنون بالله الظنونا ) [ الأحزاب: 10]، وقال رسول صلى الله عليه وسلم " إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث " وقال " لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله تعالى " وفي الحديث القدسي " يقول الله تعالى: أنا عند حسن ظن عبدي بي "
أما سوء الظن بالدعاة والمصلحين فقد أدى للوقوع في العديد من الكبائر والموبقات، فهو أولا يوقع في الغيبة والبهتان والنميمة والقيل والقال، وهذا يقود حتما إلى الشحناء والبغضاء والتدابر وفساد ذات البين، وهذه هي معظم الأمراض والآفات التي توجد في الصف المسلم والدعوي، وسببت له كثيرا من النكبات والتراجعات والهزائم، والله عز وجل قد قرن سوء الظن ببعض من هذه الأمراض لبيان خطره وشره، قال تعالى ( يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن أثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه ) [ الحجرات: 12] .
كل هذه الآفات المسئول الأول عن ظهورها في الصف الدعوي، هو ذلك الداء العظيم " سوء الظن "، الذي لم يكن له أن يظهر ويسبب كل هذه الآفات، ولو استعمل الدعاة مع إخوانهم على الدرب الأصل الإسلامي في النظرة للآخرين وهو " حسن الظن "، وأسباب الوقوع في هذا الداء الخطير كثيرة من أهمها:
الأول: الذنوب والمعاصي
وهما السبب الأول والأساسي وراء كل الأمراض والآفات التي تعترض طريق الدعوة، فالذنوب والمعاصي كالحصى الصغير الذي إذا ما اجتمع صار جبلا عظيما، وكالحطب الذي إذا أوقد صار نارا مهلكة، فالذنوب تؤثر في قلب صاحبها، وتجعل نظرته للحياة وللدعوة ولمن حوله تختلف بالكلية، أول ما يتغير من نظرته لمن حوله، حسن ظنه بالآخرين، حيث يصبح سوء الظن هو الأصل في نظرته لمن حوله، ويحمل كل تصرفات إخوانه على أسوأ المحامل، وأضيق المسالك.
الثاني: غياب المنهج الصحيح في الحكم على الناس
فالإسلام قد أقام نظاما محكما وفريدا في الحكم على الآخرين وعلى أقوالهم، ومواقفهم، وعامة ما يصدر منهم، ويتمثل هذا المنهج فيما يلي:
1 ـ النظر إلى الظاهر وترك السرائر إلى الله، لأنه سبحانه وحده الذي يعلم السر وأخفى، ويعلم ما تخفي الصدور، ويعلم ما ظهر وما بطن، وهذا مقتضى أسمائه وصفاته، فهو العليم الخبير، السميع البصير، القريب المجيب، ولا يعلم ما في الصدور ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا الله عز وجل، بل إن الملائكة الكتبة الحفظة، لا تعلم إخلاص العبد من ريائه، فتكتب كل أعماله، والله عز وجل هو الذي يقبلها فضلا منه وتكرما من المخلصين، ويحبطها عدلا منه وجزاءا للمرائين والمنافقين. فعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إليّ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع منه، فمن قضيت له من حق أخيه بشيء فلا يأخذ منه شيئا، فإنما أقطع له قطعة من النار "، وعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية فصبحنا الحرقات من جهينة، فأدركت رجلا فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، فطعنته فوقع في نفسي من ذلك، فذكرته للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله: " أقال لا إله إلا الله، فقتلته ؟ " قلت: يا رسول الله، إنما قالها خوفا من السلاح، قال: " أفلا شققت عن قلبه، حتى تعلم أقالها أم لا " فما زال يكررها علىّ حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ "
2 ـ الاعتماد على الدليل والبرهان، فلا يقبل كلام مرسل على عواهنه، بلا خطام ولا زمام، وهذا أصل من أصول الإسلام الثابتة، فالإسلام دين البراهين الساطعة، والأدلة القاطعة، قال تعالى ( قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ) [ البقرة 111]، وقال تعالى ( لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء ) [ النور 13]. ولا يكفي مجرد سرد الدليل، لكن يجب التأكد من صحته وسلامته، حتى لا تقام التهم وتنصب العداوات وتتخذ القرارات بموجب أباطيل وترهات وأكاذيب وشائعات، والله عز وجل أمر بالتبيين في آيتين من كتابه الحكيم، فقال سبحانه ( يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ) [ النساء 94 ]، وقال ( يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة ) [ الحجرات 6]. وبعد التأكد من صحة الدليل، يجب التأكد من عدم معارضة الأدلة بعضها بعضا، وهذه هي أهم قاعدة في قواعد الحكم على الآخرين، وبغيابها يظل الحكم ناقصا مبنيا على الظنون والأوهام، يصيب مرة ويخطئ مرات.
ثالثا: اتباع الهوى
وذلك لأن الداعية إذا اتبع هواه، وحكّم مزاجه، صار هذا الهوى هو إمامه وقائده ومعياره الذي يعاير به الناس ويحاكمهم إليه، وإتباع الهوى يدور بين الحب والبغض بلا سبب، والعرب تقول حبك الشيء يعمي ويصم، كما أن البغض يستوجب التماس العثرات، والبحث عن الزلات، وتصيد الأخطاء، لذلك قال تعالى ( إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ) [ النجم: 23]، وقال أيضا ( فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله ) [ القصص: 50] وقال ( أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه .. ) [ الجاثية: 23]
رابعا: الوقوع في الشبهات
من الأسباب التي قد تدفع البعض لسوء الظن في غيره من الدعاة ؛ الوقوع في الشبهات عن قصد، أو غير قصد، وترك التبرير والتوضيح إذا كان الوقوع عن غير قصد، فذلك من الأمور المغرية لئن يلوك سيرته الناس، ويقعون فيه ويسيئون الظن فيه من حيث لا يدري، لذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم " الحلال بين والحرام بين، وبينهما مشبهات لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات كراع حول الحمى يوشك أن يواقعه .. "، وقد أعطى صلى الله عليه وسلم الأسوة من نفسه في تجربة عملية يعلمنا فيه كيف يدفع المسلم والداعية عن نفسه ظنون الناس مهما كان قدره وفضله، فقد كان معتكفا في مسجده فأتته أم المؤمنين صفية بنت حيي رضي الله عنها تزوره ليلا، فحدثته، ثم قامت راجعة إلى بيتها، فقام معها رسول الله، فمر رجلان من الأنصار، فلما رأيا النبي صلى الله عليه وسلم أسرعا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " على رسلكما إنها صفية بنت حيي " فقالا: سبحان الله يا رسول الله، يقصدان التعجب حيث لا مجال للشك في رسول الله والظن السيئ به، فقال صلى الله عليه وسلم: " إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف الله في قلوبكما شرا " فخير الخلق وأفضلهم وأكملهم يعلم الدعاة الذين هم يقومون في الأمة مكان نبيها، كيف يحفظون مقامهم ويصونون جانبهم من سوء الظانين والمشككين.
خامسا: غياب آداب التناجي
للتناجي في الإسلام عدة آداب بمراعاتها يتحقق صلاح الإخوة في الله، ويبتعد شبح سوء الظن بين الناس، من هذه الآداب: حرمة الانفراد بين اثنين فما فوقهما دون الآخر، حتى يوجد معه من يناجيه أو يختلط الجميع بالناس، وفي الحديث " إذا كنتم ثلاثة، فلا يتناجى اثنان دون الآخر، حتى تختلطوا بالناس من أجل أن ذلك يحزنه "، ومن هذه الآداب أيضا أن تكون النجوى في الطاعة والمعروف والإصلاح بين الناس، لا في المعاصي والمنكرات، قال تعالى ( يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصيت الرسول وتناجوا بالبر والتقوى .. ) [ المجادلة: 9 ]، وبغياب هذه الآداب تصبح المناجاة سببا من أقوى أسباب سوء الظن، والتخرص بحق المتناجين.
سوء الظن له عواقب وخيمة على الدعاة والدعوة والمجتمع الإسلامي كله، فسوء الظن يفتح أبواب الكبائر من عينة الغيبة والنميمة والبهتان والتجسس على مصراعيها، لذلك قرن الله عز وجل بين سوء الظن وبين الغيبة، وقرن الرسول صلى الله عليه وسلم بين سوء الظن والتجسس والتحسس، كما أن سوء الظن يصيب الجميع بحالة من التوتر والقلق النفسي والاكتئاب، فسيء الظن يوجه كل ظنونه إلى ما يعتقد أنه يبيض صفحته أو يدافع عن أهله ودعوته وطريقته ومنهجه، ومن كان موضع الظن السيئ يصيبه الهم والحزن من لوك الناس لسيرته وأخباره، ومن لم يقع في هذا ولا ذاك وقع عليه الهم في التفكير في مدى مصداقية هذه الظنون والأقاويل والشائعات، ومن آثاره الخبيثة أيضا أن الناس يكرهون من أصحاب الظنون السيئة وينفرون منهم، ويتجنبون صحبته، فيعيش منبوذا لا صاحب له، ولا يثق فيه أحد، ومن آثاره أيضا تفريق الصف الدعوي، حيث يتراشق الدعاة بالتهم، ويسحبوا الثقة من بعضهم البعض، وتنتشر البغضاء والشحناء بينهم، وتنتقل هذه الحالة لأتباع كل داعية وشيخ، وتشتعل نيران الفرقة والخلاف والتباغض بين صفوف الدعاة.
ولن ينجو المجتمع والصف الدعوي وطريق الدعوة إلى الله من هذا المرض الخطير إلا ببناء العقيدة الصحيحة في القلوب والتي تحرسنا من الظنون السيئة بالآخرين، كما تلعب التربية المستمرة دورها في تغذية العقيدة بمثبتات الإيمان في القلب والنفس، بترك المعاصي والسيئات، والمواظبة على فعل الطاعات والصالحات، وتنمي في القلب أصول الورع والتقوى الرادعة من سوء الظنون وتوابعها من الغيبة والنميمة والبهتان، أيضا يجب التحرز من مواطن الشبهات والتهم، ودفعها إن وقع فيها الإنسان دون قصد، ولا يتكل الداعية فقط على وجوب إحسان الظن به، فعن جابر بن يزيد بن الأسود عن أبيه أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو غلام شاب، فلما صلى إذا رجلان لم يصليا في ناحية المسجد، فدعا بهما فجيء بهما ترتعد فرائصهما فقال: " ما منعكما أن تصليا معنا "، قالا: " قد صلينا في رحالنا "، فقال: " لا تفعلوا، إذا صلى أحدكم في رحله ثم أدرك الإمام، ولم يصل فليصل معه، فإنها له نافلة ".
سلسلة ‘أمراض على طريق الدعوة‘ (1) التصدر وطلب الرئاسة
سلسلة أمراض على طريق الدعوة (2) العجلة في الحكم وعدم التثبت
سلسلة أمراض على طريق الدعوة (3) اليأس والقنوط
سلسلة أمراض على طريق الدعوة (4) رد النصيحة ورفض النقد
سلسلة أمراض على طريق الدعوة (5) المراء والجدل
سلسلة أمراض على طريق الدعوة (7) التنطع والغلو
سلسلة أمراض على طريق الدعوة (8) إتباع الهوى
سلسلة أمراض على طريق الدعوة (9) العجب بالنفس
أمراض على طريق الدعوة (10) تنافس الدنيا
أمراض على طريق الدعوة (11) الفتـور
أمراض على طريق الدعوة (12) الغضب
التعليقات