اقتباس
والوصف القرآني بالغ الدقة والروعة؛ إذ من المعلوم أن التلقي يكون بالأذن ثم يعرض على العقل والقلب، بعدها يصدر الأمر إلى اللسان بالكلام أو عدمه، فإذا وصف القرآن التلقي بأنه كان بالألسن فمعناه سرعة نقل الخبر والتحدث بما سمع دون تمحيص وتفكير وتقييم، لذلك كان المتحدث بكل ما سمع ..
من الأمراض التي قلّ من سلم منها معاشر الدعاة، وخاصة في هذه الأيام التي أصبح تناقل الخبر والمعلومة فيها يتم من أقصى الكرة الأرضية إلى أدناها في طرفة عين؛ مرض "العجلة في الحكم وترك التثبت والتيقن من الأمر"، ونظرًا لخطورة هذا المرض وانتشاره وآثاره الخطيرة على الدعوة والداعية، أفردنا الحديث عنه في موضوع مستقل ولم نضعه ضمن آثار مرض الاستعجال الذي سبق أن تحدثنا عنه في مرة فائتة.
عدم التثبت وترك التبيّن في اللغة يدور على ثلاثة معانٍ:
الأول: طلب ما يكون به الثبات على الأمر، أي لزومه وعدم التحول عنه أو تجاوزه إلى غيره، أي طلب الدليل الموصل إلى الثبات على الأمر.
الثاني: فحص الدليل الموصل إلى الثبات في الأمر، فيقال: أثبت الأمر أي حققه وصححه، فأثبت الكتاب أي سجّله، وأثبت الحق أي أقام حجته، وأثبت الشيء أي عرفه حق المعرفة.
الثالث: التأني والتريث وعدم الاستعجال، والتثبت والتبيّن بمعنى واحد في اللغة، والدليل على ذلك الاستعمال القرآني للفظتين في موضع واحد للدلالة على معنى واحد، في قوله -عز وجل-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ) [الحجرات: 6]، ففي قراءة متواترة وهي قراءة أهل المدينة (فتثبتوا) بدلاً من (فتبينوا)، قال إمام المفسرين ابن جرير الطبري معلقًا: "والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان معروفتان، متقاربتا المعنى، فأيهما قرأ القارئ فمصيب".
أما في الاصطلاح فعدم التثبت وترك التبين معناه: السرعة والعجلة في إصدار الأحكام والأوصاف على الناس، وتناقل هذه الأحكام والأوصاف دون فهم أو روية أو ضوابط، ودون اعتبار للواقع، على أنها أحكام نهائية غير قابلة للنقض، وإلى هذا المعنى أشار القرآن الكريم في سورة النور واصفًا لحال من تناقل خبر الإفك، دون تثبت أو تبين، فقال -عز وجل-: (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) [النور: 15]، والوصف القرآني بالغ الدقة والروعة؛ إذ من المعلوم أن التلقي يكون بالأذن ثم يعرض على العقل والقلب، بعدها يصدر الأمر إلى اللسان بالكلام أو عدمه، فإذا وصف القرآن التلقي بأنه كان بالألسن فمعناه سرعة نقل الخبر والتحدث بما سمع دون تمحيص وتفكير وتقييم، لذلك كان المتحدث بكل ما سمع أحد الكاذبين كما قال -صلى الله عليه وسلم-، ونقل الكلام دون تمحيص هو صورة من صور الإفك، وفيها من الخفة والاستهتار والجراءة على أعظم الأمور وأخطرها، وهي الأعراض والأوصاف.
ولعدم التثبت وترك التيقن العديد من الصور والمظاهر التي تدل على عجلة صاحبها وتسرعه في القرار واتخاذ المواقف السلبية، من هذه الصور:
أولاً: معاداة الأقران من الدعاة والأفراد والهيئات، والتفتيش عن عيوبهم، والاستجابة للحملات المغرضة ضدهم، والاشتراك في تشويه صورتهم أمام العامة، ورفض إقالة عثراتهم، وإشاعة عيوبهم، وذلك كله دون تمحيص وتحقيق للخبر الدائر والأمر الرائج.
ثانيًا: اتخاذ مواقف سريعة بالسلب أو بالإيجاب تأثرًا ببعض الأخبار والإشاعات، دون بحث في مدى دقة هذه الأخبار، ودون دراسة لآثار هذه القرارات المتعجلة.
ثالثًا: المبادرة بالتنفيذ لمجرد صدور التكاليف والأوامر، دون إحاطة تامة بكل ظروفه وملابساته، ودون معرفة دقيقة بمن يحق له التوجيه وإصدار التكاليف.
هذه بعض مظاهر عدم التثبت من الخبر، أما عن أسبابه الدافعة له فكثيرة؛ منها:
أولاً: النشأة الأولى، فقد ينشأ المرء في بيئة يغلب عليها التسرع وعدم التثبت، والعجلة في اتخاذ القرارات والمواقف، والمرء في صغره يتأثر أيما تأثُّر، وينطبع في ذهنه ومخيلته هذا السلوك، ويصبح سمتًا لازمًا له طوال حياته، لذلك قالوا قديمًا: "التعليم في الصغر كالنقش على الحجر"، والرسول -صلى الله عليه وسلم- نهى عن الكذب على الصغير عندما رأى الأنصارية تنادي على ولدها لتعطيه؛ لأن ذلك سيؤثر سلبًا على الطفل الصغير، فينشأ معتادًا على الكذب وأجوائه.
ثانيًا: الصحبة الفاسدة؛ فالمرء على دين خليله، والصاحب ساحب، والطباع سرّاقة، وكلما كان المرء ضعيف الشخصية كان إمعة في سلوكه، فيحاكي ويقلد بلا روية ولا بصيرة.
ثالثًا: الاغترار ببريق الألفاظ؛ فقد يقرع أذن المرء طائفة من الألفاظ المعسولة والعبارات الخلابة، وإذا بالمرء يغتر بهذه الألفاظ، فيحسبها ذهبًا وهي تراب، ولفت النبي -صلى الله عليه وسلم- النظر إلى هذا السبب حين قال: "إنكم تختصمون إليّ، ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض، فمن قضيت له بحق أخيه شيئًا بقوله، فإنما أقطع له قطعة من النار، فلا يأخذها". أخرجه البخاري في كتاب المظالم والغصب، ومسلم وأبو داود في الأقضية.
رابعًا: الجهل بأساليب التثبت؛ فقد يجهل الداعية أساليب وطرق التثبت، فيعجل ويتسرع في إصدار القرارات أو يحاكي المتعجلين، ذلك أن للتثبت العديد من الوسائل والطرق؛ منها:
1- رد الأمر إلى الله ورسوله وإلى أولي العلم وأهل الذكر كما قال تعالى: (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) [النساء: 83].
2- سؤال صاحب الشأن عن صحة الخبر وبواعثه وأسبابه، ولنا فيما فعله الرسول -صلى الله عليه وسلم- مع حاطب بن أبي بلتعة يوم فتح مكة الأسوة الحسنة في ذلك، حيث لم يبادر بعقوبته رغم جسامة ما اقترافه، إنما أحضره وقرره بما فعل، فأقر حاطب، ثم سأله -صلى الله عليه وسلم- عن دوافعه عن الفعل ومبرراته، ورغم أن المبررات لم تكن مقنعة، إلا أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد عذره، ووهب فعلته الرديئة لسالف إحسانه وتاريخه النضالي الكبير في خدمة الإسلام.
3- حسن الإصغاء والاستماع الجيد؛ وذلك بالمراجعة والاستفهام لفحوى الكلام وحقيقة الخبر، فقد يتردد كلام وأخبار لا يراد ظاهرها، ولا تدل على معناها الحقيقي، فعندها يحتاج الكلام للإيضاح، حتى لا ينتج عنه آثار ضارة وربما تكون قاتلة، مثلما حدث في قتال المرتدين عندما أمر خالد بن الوليد -رضي الله عنه- جنوده بتدفئة الأسرى من قوم مالك بن نويرة في ليلة باردة، فقال لهم: "دفئوا أسراكم"، وكان الحرس من بني كنانة، وتدفئة الأسرى في لغة كنانة معناها القتل، فقتلوهم جميعًا، فلما سمع خالد الصراخ خرج من خيمته، ولكن بعد فوات الأمر، فعنف أبو بكر الصديق الخليفة خالدًا بسبب ذلك تعنيفًا شديدًا، ودفع دية من قتل من الأسرى لأنهم قد تابوا وعادوا من الردة بعد الأسر.
4- التجربة والخبرة والمشاهدة والمقارنة، فمعايشة الأحداث، ومعرفة الأشخاص، تعطي الداعية رصيدًا كبيرًا للتجربة من الفهم والبصيرة بمرامي الكلام وطبائع الأشخاص، والمنافسة بين الأقران، وتمكنه من الحكم ببصيرة على الأخبار والآراء بحق الأشخاص والهيئات.
خامسًا: الانبهار والاغترار بشخصية المتكلم، والالتفات لسمته ودله الظاهر، وترك تقييم الكلام وزنته وفحصه، فالناس من طبائعها تصديق ذوي الهيئات التي تدل على الصلاح، والثقة فيما يقولون، وقد لا يدركون أن النفوس محتقنة، والثارات قديمة بين المتكلم والمتكلم فيه، وأيضًا قد يدرون طبيعة كلام الأقران في بعضهم البعض، لذلك قال أهل العلم: إن القاضي لا يحكم بعلمه حتى يسمع الدليل ويفحص القضية، وقالوا أيضًا: إن الكلام في الناس لابد أن يكون بإنصاف وعدل وعلم.
سادسًا: الولاء والبراء للمشايخ والرؤساء والكبراء زعماء الجماعات وقادة التيارات الدعوية، بحيث لا يمكن مراجعة قراراتهم وتصنيفاتهم الدعوية، لهذا الداعية أو هذا الخطيب، فيكون الدليل والحجة عند كثير من شباب اليوم "هذا ما قاله الشيخ فلان" أو "هذا ما ذهب إليه الداعية المشهور علان"، وهذا الأمر تحديدًا من أكثر أسباب شيوع حالة التنافر والتجاذب بين الجماعات والتيارات العاملة في حقل الدعوة الإسلامية، فكم من داعية أو خطيب قد وأدته الشائعات، وقتلته التصنيفات، وقُضي على علمه وخيره، بسبب الوشايات والشائعات والتسرع في الحكم عليه.
سابعًا: الحماس والعاطفة غير الراشدة، فقد تؤدي الحماسة والغيرة الفطيرة إلى عدم التثبت من الخبر والمسارعة باتخاذ القرارات، والحماسة إذا لم تكن موزونة بميزان الشرع تحولت لوابل على صاحبها؛ لأنها تسلبه الحكمة والإدراك، وتجعله أهوج كثير الخطأ، مثلما حدث يوم الجسر سنة 13هـ في القتال بين المسلمين والفرس عندما قرر القائد أبو عبيد الثقفي أن يعبر النهر إلى الفرس، وبحجة أن لا يكون الفرس أجرأ على الموت من المسلمين، ورفض أن يستمع لصوت العقل من مساعديه الذين قالوا له: إن هذا القرار خاطئ من الناحية التكتيكية الحربية، ويضع المسلمين في مأزق، فأصر القائد المتحمس على قراره، والنتيجة هزيمة قاسية للمسلمين، يقتل فيها ستة آلاف مسلم وهو عدد ضخم لم يقع من المسلمين مثله في معركة واحدة في مقدمتهم القائد أبو عبيدة نفسه، فانظر إلى عاقبة الحماسة والعاطفة الطائشة.
ثامنًا: الحقد والحسد؛ فقد يكون من أهم أسباب عدم التثبت الحقد والمنافسة وتصفية ثارات قديمة، أو الغلو في حب شيء، فإن حب الشيء يعمي ويصم، ويحول بين الإنسان وبين استطلاع الموقف وتبين الحقيقة، كما وقع في حادثة مقتل عامر بن الضبط على يد ملجم بن جثامة والتي أنزل الله -عز وجل- فيها قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمْ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) [النساء: 94].
وخطورة هذا المرض أنه يؤدي إلى آثار مدمرة على الدعوة والداعية، فهو يؤدي إلى اتهام الأبرياء من الناس زورًا وبهتانًا، مثلما حدث مع أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-، في حادثة الإفك التي تعتبر مثالاً سائرًا في عاقبة عدم التثبت والمشاركة في الشائعات وترديد الأكاذيب، وقد يؤدي لسفك الدماء وسلب الأموال، كما حدث من أسامة بن زيد مع الرجل الجهني الذي قتله بعد أن نطق بالشهادة، التعرض للعقاب في الدنيا والعذاب في الآخرة، كما حدث مع من خاض في حادثة الإفك من الصحابة مثل مسطح بن أثاثة، وحمنة بنت جحش، وحسان بن ثابت، الذين أقيم عليهم الحد، ومنها اضطراب الصف الإسلامي وكثرة الانشقاقات فيه، وتعثر سير الدعوة بسبب هذه الخلافات، وهدر الكثير من الطاقات والإمكانات في معالجة آثار هذه الانشقاقات، ومنها التراخي والفتور في همم الدعاة الذين وجدوا أنفسهم في مرمى نيران اتهامات كثيرة بسبب عدم التثبت من جانب غيرهم من الدعاة والشيوخ، ومنها فتح المجال أمام ذوي النفوس المريضة والدخلاء لارتقاء منابر الدعاة ومناصبهم، ومنها شيوع حالة التدابر والتباغض بين أنصار الشيوخ والدعاة.
وإن تقوية ملكة التقوى والمراقبة لله -عز وجل- هي حجر الزاوية في القضاء على هذا المرض الخطير، والتحلي بأخلاق الإنصاف والتجرد والتروي وضبط اللسان وتقديم حسن الظن، ومطالعة سيرة الرسول الكريم وأصحابه وسلف هذه الأمة، كلها عوامل رئيسة في مقاومة هذا المرض المستشري بين صفوف كثير من دعاة هذا الزمان.
سلسلة ‘أمراض على طريق الدعوة‘ (1) التصدر وطلب الرئاسة
سلسلة أمراض على طريق الدعوة (3) اليأس والقنوط
سلسلة أمراض على طريق الدعوة (4) رد النصيحة ورفض النقد
سلسلة أمراض على طريق الدعوة (5) المراء والجدل
سلسلة أمراض على طريق الدعوة (6) سوء الظن
سلسلة أمراض على طريق الدعوة (7) التنطع والغلو
سلسلة أمراض على طريق الدعوة (8) إتباع الهوى
سلسلة أمراض على طريق الدعوة (9) العجب بالنفس
أمراض على طريق الدعوة (10) تنافس الدنيا
أمراض على طريق الدعوة (11) الفتـور
أمراض على طريق الدعوة (12) الغضب
التعليقات