اقتباس
ليس بالضرورة أن يكون الزلزال أو الإعصار -أو غيرهما- عقابًا من الله -تعالى- لنا بسبب ذنوبنا، بل قد يكون لقوم عقوبة، ولقوم تخويفًا وإنذارًا، ولقوم رحمة ورفعة في الدرجات، ولقوم عبرة وعظة، ولقوم إيقاظًا وتنبيهًا، ولقوم شهادة وحسن ختام...
أهكذا في ساعة واحدة من الليل ينمحي من دولة المغرب الحبيب جزء كامل من مدينة مراكش؛ فيتهدم أكثر من خمسين ألف منزل على رءوس أصحابها، ويسقط أكثر من ثلاثة آلاف قتيل يموتون هدمًا، ويقع أكثر من خمسة آلاف ونصف من الجرحى، وتتشرد آلاف مؤلفة أخرى لا يعلم عددها إلا الله، وتتفاقم الخسائر المادية التي قد تصل إلى عشرة مليارات من الدولارات!
إن الزلزال لم يستمر أكثر من دقيقة واحدة، لكنها كانت كافية جدًا أن تُدمر كل شيء على سطح الأرض؛ أن تهدم المباني العتيقة التاريخية، وأن تهدم المأوى الآمن الذي يخلد إليه الناس، وأن تدمر أيضًا الغفلة السائدة والطمأنينة الزائفة التي تسكن النفوس والأرواح فتركن معها إلى دنياها، صارخة في البشر: أفيقوا من غفلاتكم فإن دنياكم لا أمان لها ولا سكن فيها، فلابد لابد لابد أن تزولوا عنها أنتم، أو تزول هي عنكم!
ومذكِّرة إياهم بزلزلة يوم القيامة: (إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا)[الزلزلة: 1-5]
***
إنها لمصيبة كبيرة أصابت جزءًا من جسد أمتنا الحبيبة، فتألمنا جميعًا لألمه، لكنها ليست المصيبة الوحيدة؛ بل تبعتها بعدها بأيام مصيبة جديدة قد تكون أكبر وأعظم؛ إنه إعصار ليبيا، حيث تقول الإحصائيات: أن نحو 25% من مدينة درنة الليبية تم محوها بالكامل، وأن أعداد القتلى والجرحى والمفقودين والمشردين تتجاوز الآلاف.
ونتعجب -والله- أليس الماء في الأصل هو سبب الحياة؟! ألم يقل الله -عز وجل-: (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ)[الأنبياء: 30]، إذًا فكيف يصير الماء هو سبب الدمار والهلاك والبوار؟!
والجواب: أن الله -تعالى- بيده الأمر وحده وله التدبير وحده، يقول للشيء: "كن" فيكون، يأمر السحاب فيحمل الماء ثم يسير به في الفضاء فينزل خيرًا ونماء حيث شاء: (وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا)[فاطر: 9]، ويأمره حينًا آخر فيتحد مع الحرارة والرياح والبرق حتى يصير إعصارًا جبارًا عاتيًا يبيد الأخضر واليابس، ويكتسح المدن والقرى والدول بأكملها!
وهكذا الأرض والسماء والهواء... كلها جنود من جنود الله -عز وجل-، تأتمر بأمره وتدين له بالطاعة والامتثال: (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ)[المدثر: 31]، فتبارك الله: (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)[الفتح: 4].
وما من نعمة يفرح الإنسان بها إلا وقد تصير سببًا في هلاك صاحبها؛ فما السبب في غرور قارون وكفره واستغنائه؟ ألم يكن "نعمة المال"؟! (وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ)[القصص: 76]... وما سبب استطالة فرعون وطغيانه وادعائه الألوهية؟ أليس "نعمة الملك والسلطان"... بل أوما قال الله -عز وجل-: (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ)[التغابن: 15]، ألم يقل الله -سبحانه-: (إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ)[التغابن: 14]...
***
والآن، أما تتخيل معي ما حدث في هاتين البلدتين الحبيبتين؛ مراكش بالمغرب ودرنة بليبيا، لقد نام الناس في عافية، فقاموا على داهية، ناموا مطمئنين وقاموا فزعين موتورين...
فيا أيها المسلمون في كل شتى بقاع الأرض ويا كل بلاد المسلمين: اعلموا أنه "ما نحن عن هذا ببعيد"، فكم نام قوم في أمان ثم صحوا في طوفان أو بركان... وهل كان أهل المغرب وليبيا، ومن قبلهم أهل سوريا وتركيا، يتوقعون أن يقع عندهم ما وقع؟! فلقد وقع مع أنه كان عن أذهانهم بعيدًا جد بعيد، ولقد قيل: "السعيد من اتعظ بغيره، والشقي من اتعظ بنفسه".
والأخطر والأدهى والأمَرّ أن أغلب هذه البشرية من لدن آدم إلى نهاية الذرية سترقد مُددًا -طالت أو قصرت- في قبورها، ثم تستيقظ فزعة وجلة يوم القيامة، عارية إلا من أعمالها، لا تلوي على شيء إلا على مصيرها: (وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَاوَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ)[الأنبياء: 97]، فهذه تذكِّرنا بتلك.
والمؤمن هو من ذكَّره كل ما يقع في دنياه بأمر أخراه، وقد كان هذا هو حال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: ما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مستجمعًا ضاحكًا، حتى أرى منه لهواته، إنما كان يتبسم، قالت: وكان إذا رأى غيمًا أو ريحًا، عرف ذلك في وجهه، فقالت: يا رسول الله أرى الناس، إذا رأوا الغيم فرحوا، رجاء أن يكون فيه المطر، وأراك إذا رأيته عرفت في وجهك الكراهية؟ قالت: فقال: "يا عائشة ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب، قد عذب قوم بالريح، وقد رأى قوم العذاب، فقالوا: (هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا)[الأحقاف: 24](متفق عليه).
***
وأخيرًا نقول: ليس بالضرورة أن يكون الزلزال أو الإعصار -أو غيرهما- عقابًا من الله -تعالى- لنا بسبب ذنوبنا، بل قد يكون لقوم عقوبة، ولقوم تخويفًا وإنذارًا، ولقوم رحمة ورفعة في الدرجات، ولقوم عبرة وعظة، ولقوم إيقاظًا وتنبيهًا، ولقوم شهادة وحسن ختام...
فيا عباد الله: إننا جميعًا نحيا تحت رحمة الله وبرحمة الله، فالموت والهلاك والدمار والقواطع والمصائب والبلايا والكوارث تحيط بنا من كل جانب؛ فلو أمر الله السماء لانطبقت علينا، أو أمر النجوم لتساقطت علينا كسفًا، أو أمر البحار لأغرقتنا، أو أمر الأرض لانشقت وابتلعتنا، أو أمر الهواء فلفظ ما فيه من أكسجين فاختنقنا... بل قل: لو أراد الله -تعالى- لأمر "فيروسًا" أو "ميكروبًا" ضئيلًا من تلك المليارات السابحة في الفضاء فاخترقت أجسادنا فاهلكتنا، وما جائحة كورونا عنا ببعيد... بل -والله- لو أراد الله -عز وجل- لأمر خلايانا التي داخل أجسادنا فسارعت من انقساماتها فكانت السرطانات التي تفتك ولا تذر...
إننا ما نحيا إلا برحمة الله -تعالى-، فلو أطعناه لأحيانا حياة طيبة هنيئة رغيدة سعيدة: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ)[الأعراف: 96]، (وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا)[الجن: 16]، وكيف لا، وهو وعد الله -عز وجل-: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[النحل: 97].
وعلى هذه المعاني اتفقت كلمة العلماء والوعاظ، وكذا كلمة الخطباء الذين قد جمعنا ها هنا شيئًا من خطبهم.
التعليقات
محمد بن احمد الخماري
30-09-2023لطفك يا الله
زائر
12-03-2024شكرالكم عل هذا الجهد النفيس اطلب من سيادتكم خطب على معانات اخواننا فى غزة