خطبة عيد الأضحى 1434هـ (حقوق الإنسان بين خطبة حجة الوداع وانتهاكات الغرب)

إبراهيم بن صالح العجلان

2022-10-06 - 1444/03/10
التصنيفات: الأضحى
عناصر الخطبة
1/ حجة الوداع صفحة مضيئة من تاريخ الأمة 2/ خطاب نبي إلى البشرية جمعاء 3/ مبادئ تقررها خطبة الوداع 4/ قضية المرأة في خطبة الوداع 5/ سبق الإسلام لمواثيق حقوق الإنسان العالمية 6/ من الآداب في العيد
اهداف الخطبة

اقتباس

مشهد الخطبة العظيمة الجامعة الماتعة الفذة التي خطبها حبيبكم -صلى الله عليه وسلم- في صعيد عرفات، في جمع لم يجتمع حول النبي -صلى الله عليه وسلم- مثله فكان لقاءً مشهودًا بين أمة ورسولها. كانت الكلمات تخرج من فم النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يستشعر معها دنو أجله بعد هذه المناسك، فكان يقول: "خذوا عني مناسككم، فلعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا".

 

 

 

 

مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ:

 

مَا لَاحَ هِلَالُ ذِي الْحِجَّةِ إِلَّا لَاحَتْ لِلْأَذْهَانِ مَنَاسِكُ الْحَجِّ، وَأَصْبَحَتْ حَجَّةُ نَبِيِّنَا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَاحَةً تَتَلَأْلَأُ، يَرْتَوِي مِنْ مَعِينِهَا كُلُّ حَاجٍّ وَغَيْرُ حَاجٍّ.

 

احْتَوَتِ الْحَجَّةُ النَّبَوِيَّةُ عَلَى مَبَادِئَ سَامِقَةٍ، وَمَشَاهِدَ إِيمَانِيَّةٍ، يَضِيقُ الْمَقَامُ عَنْ تَحَسُّسِهَا وَاسْتِقْصَائِهَا.

 

لَعَلَّنَا نَقِفُ وَإِيَّاكُمْ مَعَ مَشْهَدٍ مِنْ مَشَاهِدِ تِلْكَ الْحَجَّةِ الْعَظِيمَةِ الْخَالِدَةِ.

 

مَشْهَدُ الْخُطْبَةِ الْعَظِيمَةِ، الْجَامِعَةِ الْمَاتِعَةِ الَّتِي خَطَبَهَا حَبِيبُكُمْ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي صَعِيدِ عَرَفَاتٍ، وَفِي مِنًى، فِي جَمْعٍ لَمْ يَجْتَمِعْ حَوْلَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِثْلُهُ، فَكَانَ لِقَاءً مَشْهُودًا بَيْنَ أُمَّةٍ وَرَسُولِهَا.

 

كَانَتِ الْكَلِمَاتُ تَخْرُجُ مِنْ فَمِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ يَسْتَشْعِرُ مَعَهَا دُنُوَّ أَجَلِهِ بَعْدَ هَذِهِ الْمَنَاسِكِ: "خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ لَعَلِّي لَا أَرَاكُمْ بَعْدَ عَامِي هَذَا".

 

إِنَّهَا رِسَالَةُ نَبِيٍّ لَيْسَ إِلَى صَحَابَتِهِ فَقَطْ، وَلَا إِلَى مَنِ اسْتَجَابَ لَهُ وَآمَنَ، بَلْ هِيَ خِطَابٌ لِلْبَشَرِيَّةِ جَمْعَاءَ، تُوَضِّحُ قِيمَةَ الْإِنْسَانِ، وَحَقَّ الْإِنْسَانِ، وَطَرِيقَ السَّعَادَةِ لِهَذَا الْإِنْسَانِ .. مِمَّنْ؟! مِمَّنْ أَرْسَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى رَحْمَةً لِهَذَا الْإِنْسَانِ.

 

فَأَوَّلُ مَبْدَأٍ قَرَّرَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي خِطَابِهِ التَّوْدِيعِيِّ هُوَ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، هَذَا الْمَبْدَأُ هُوَ الْقَضِيَّةُ الَّتِي عَاشَ لَهَا نَبِيُّنَا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَحَارَبَ مِنْ أَجْلِهَا، وَوَالَى وَعَادَى عَلَيْهَا؛ لِذَا كَانَتْ حَالُهُ وَكَلِمَاتُهُ هُنَاكَ تَنْضَحُ بِالتَّوْحِيدِ الْخَالِصِ لِلَّهِ، وَنَبْذِ أُمُورِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَمِنْ أَبْرَزِ أُمُورِهَا الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، فَلَا صَلَاحَ لِلْبَشَرِيَّةِ وَلَا فَلَاحَ إِلَّا بِتَوْحِيدِ رَبِّ الْعَالَمِينَ: (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا) (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا).

 

كُلُّ حَضَارَةٍ وَأُمَّةٍ لَا تَهْنَأُ بِعَيْشِهَا، وَلَا تَطْمَئِنُّ فِي حَيَاتِهَا إِلَّا إِذَا أَمِنَتْ لَهَا أَرْوَاحُهَا وَأَمْوَالُهَا، وَهَذَا مَا أَكَّدَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِعِبَارَاتٍ بَلِيغَةٍ مُخْتَصَرَةٍ فَقَالَ: "أَلَا إِنَّ دِمَاءَكُمْ، وَأَمْوَالَكُمْ، عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، إِلَى يَوْمِ تَلْقَوْنَهُ".

 

هَذِهِ الْحُقُوقُ وَالتَّكْرِيمُ لِلْإِنْسَانِ فِي شَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمْ تَكُنْ مُجَرَّدَ كَلِمَاتٍ وَتَوْصِيَّاتٍ نَظَرِيَّةٍ، بَلْ إِنَّ الْإِسْلَامَ قَدْ سَنَّ الْحُدُودَ لِصِيَانَتِهَا، وَالذَّوْدِ عَنْهَا.

 

كَانَتِ الدِّمَاءُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ رَخِيصَةً، تَقُومُ الْحُرُوبُ بَيْنَهُمْ وَالثَّارَاتُ لِأَتْفَهِ الْأَسْبَابِ، فَعَالَجَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هَذِهِ الْقَضِيَّةَ فِي خُطْبَتِهِ عِلَاجًا حَاسِمًا فَقَالَ: "أَلَا إِنَّ كُلَّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَىَّ مَوْضُوعٌ، وَدِمَاءُ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ، وَأَوَّلُ دَمٍ أَضَعُهُ دِمَاؤُنَا، دَمُ ابْنِ رَبِيعَةَ بنِ الْحَارِثِ".

 

وَقَرَّرَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي خُطْبَتِهِ مَبْدَأَ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْبَشَرِ، وَنَبْذِ الْعُنْصُرِيَّةِ، وَالْمُفَاخَرَاتِ الْعِرْقِيَّةِ، فَسَمِعَ صَوْتَهُ هُنَاكَ الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ، وَالْأَبْيَضُ وَالْأَسْوَدُ، وَالشَّرِيفُ وَمَنْ دُونَهُ أَنَّهُ قَالَ: "كُلُّكُمْ بَنُو آدَمَ، وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ، لَيْسَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ فَضْلٌ، وَلَا لِأَعْجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ فَضْلٌ، وَلَا لِأَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ فَضْلٌ، وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ فَضْلٌ إِلَّا بِالتَّقْوَى".

 

ثُمَّ أَكَّدَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى مَبْدَأِ حِفْظِ الْأَمَانَاتِ، فَقَالَ: "وَإِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ فَيَسْأَلُكُمْ عَنْ أَمْوَالِكُمْ، وَقَدْ بَلَّغْتُ، فَمَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ أَمَانَةٌ فَلْيُؤَدِّهَا إِلَى مَنِ ائْتَمَنَهُ عَلَيْهَا".

 

وَلَمْ يَنْسَ الرَّؤُوفُ الرَّحِيمُ فِي مَوْقِفِهِ الْمَشْهُودِ أَنْ يُؤَكِّدَ لِلْبَشَرِيَّةِ أَنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَأَنَّ الشَّرِيعَةَ مَبْنَاهَا عَلَى التَّيْسِيرِ، لَا عَلَى الْحَرَجِ، فَقَالَ لِلنَّاسِ: "مَنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسِ الْخُفَّيْنِ، وَمَنْ لَمْ يَجِدْ إِزَارًا فَلْيَلْبَسِ السَّرَاوِيلَ".

 

وَفِي مَجَالِ الْأَحْوَالِ الشَّخْصِيَّةِ قَرَّرَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَوَاعِدَهَا، فَقَالَ: "إِنَّ اللَّهَ أَعْطَى لِكُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، وَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ، وَالْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ، وَمَنِ ادَّعَى إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ، أَوِ انْتَمَى إِلَى غَيْرِ مَوَالِيهِ، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلَا عَدْلٌ".

 

وَفِي جَانِبِ الِاقْتِصَادِ مَحَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نِظَامَ الرِّبَا وَأَسْقَطَهُ؛ لِأَنَّهُ ظُلْمٌ فِي حَقِّ الْإِنْسَانِيَّةِ، يُورِثُ الطَّبَقِيَّةَ، وَيُدَمِّرُ الِاقْتِصَادَ، وَيَزْرَعُ فِي الْقُلُوبِ الضَّغَائِنَ وَالْأَحْقَادَ، وَلِذَا أَخَذَتْ قَضِيَّةُ الرِّبَا جَانِبًا مِنْ خُطْبَتِهِ لِلنَّاسِ فَقَالَ: "وَرِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ -أَيْ: مَتْرُوكٌ- وَأَوَلُّ رِبًا أَضَعُ مِنْ رِبَانَا رِبَا الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ".

 

وَمِنَ الْجَوَانِبِ الْبَارِزَةِ فِي خُطْبَةِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ ُلَمْ يَكُنْ يُحَابِي أَحَدًا، وَلَمْ يُجَامِلْ بَشَرًا فِي التَّشْرِيعَاتِ، فَوَجَّهَ نِدَاءَهُ لِعَشِيرَتِهِ فَقَالَ: "يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ: لَا تَجِيئُوا بِالدُّنْيَا تَحْمِلُونَهَا عَلَى رِقَابِكُمْ، وَتَجِيءُ النَّاسُ بِالْآخِرَةِ، فَإِنِّي لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا. أَيُّهَا النَّاسُ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ، وَتَعَاظُمَهَا بِآبَائِهَا، فَالنَّاسُ رَجُلَانِ: رَجُلٌ تَقِيٌّ كَرِيمٌ عَلَى اللَّهِ، وَرَجُلٌ شَقِيٌّ هَيِّنٌ عَلَى اللَّهِ".

 

اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.

 

وَمِنَ الْقَضَايَا الْمُثَارَةِ فِي الْخِطَابِ النَّبَوِيِّ فِي صَعِيدِ عَرَفَاتٍ: قَضِيَّةُ الْمَرْأَةِ، تِلْكَ الْقَضِيَّةُ الَّتِي ضَاعَتْ فِيهَا الْمَرْأَةُ بَيْنَ عَادَاتِ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَازْدِرَائِهَا، وَبَيْنَ عَادَاتِ الْجَاهِلِيَّةِ الْغَرْبِيَّةِ الَّتِي تَاجَرَتْ بِجَسَدِهَا وَإِنْسَانِيَّتِهَا، وَجَعَلَتْهَا مَصْيَدَةً لِلْآثَامِ، وَمَطِيَّةً لِلنَّزَوَاتِ وَالْحَرَامِ.

 

تَأَمَّلْ مَعِي بَلَاغَةَ الْمُصْطَفَى -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي وَصِيَّتِهِ بِالْمَرْأَةِ حِينَ قَالَ: "اتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ، وَاسْتَوْصُوا بِهِنَّ خَيْرًا، فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ اللَّهِ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ".

 

لَقَدْ رَبَطَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَقَّ الْمَرْأَةِ بِتَقْوَى اللَّهِ فِيهَا، كُلُّ ذَلِكَ حَتَّى تَكُونَ قَضِيَّةُ الْمَرْأَةِ مُرْتَبِطَةً بِمَخَافَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَيُؤَدِّي الْمُسْلِمُ حَقَّ الْمَرْأَةِ خَشْيَةً لِلَّهِ، سَوَاءٌ وُجِدَ نِظَامٌ يَأْخُذُ لِلْمَرْأَةِ حَقَّهَا أَمْ لَمْ يُوجَدْ، يُرَاعِي الْعَبْدُ رَبَّهُ فِي أَدَاءِ حَقِّ الزَّوْجَةِ كَمَا يُرَاعِي رَبَّهُ فِي طَهَارَتِهِ، وَصَلَاتِهِ، وَسَائِرِ عِبَادَتِهِ.

 

ثُمَّ تَأَمَّلْ قَوْلَهُ: "وَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا" عِبَارَةٌ بَلِيغَةٌ، مُوجَزَةٌ مُعَبِّرَةٌ، تَحْمِلُ فِي طَيَّاتِهَا الِاهْتِمَامَ الْكَبِيرَ، وَالرِّعَايَةَ التَّامَّةَ.

 

ثُمَّ إِنَّ قَوْلَهُ: "خَيْرًا" جَاءَتْ نَكِرَةً، فَتُفِيدُ الْعُمُومَ، فَيَشْمَلُ كُلَّ خَيْرٍ لِلْمَرْأَةِ فِي أَمْرِ دِينِهَا وَدُنْيَاهَا.

 

إِخْوَةَ الْإِيمَانِ: وَأَمَامَ هَذَا الْمَحْفِلِ الْمَشْهُودِ، وَالْمُؤْتَمَرِ الْعَالَمِيِّ يُؤَكِّدُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى قَضِيَّةٍ مُهِمَّةٍ، هِيَ صِمَامُ أَمَانٍ لِلْأُمَّةِ مِنَ الضَّلَالِ، وَمِنَ التَّفَرُّقِ وَالتَّحَزُّبِ وَالْهَوَانِ، هِيَ قَضِيَّةُ التَّمَسُّكِ بِهَذَا الْقُرْآنِ، فَقَالَ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: "وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ، كِتَابَ اللَّهِ".

 

ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَخْتِمُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَصَايَاهُ الْجَامِعَةَ النَّافِعَةَ بِقَوْلِهِ: "وَأَنْتُمْ تُسْأَلُونَ عَنِّي فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ؟" قَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ، وَأَدَّيْتَ وَنَصَحْتَ، فَأَشَارَ بِأُصْبُعِهِ السَّبَّابَةِ إِلَى السَّمَاءِ وَجَعَلَ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ اشْهَدِ، اللَّهُمَّ اشْهَدِ، اللَّهُمَّ اشْهَدْ".

 

تِلْكَ بَعْضُ الْمَبَادِئِ الْإِسْلَامِيَّةِ الْإِنْسَانِيَّةِ الَّتِي قَرَّرَهَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، إِنَّهَا بِحَقٍّ مَبَادِئُ ثَابِتَةٌ، وَثَوَابِتُ خَالِدَةٌ، لَا يَبْلُغُهَا مَنْهَجٌ وَضْعِيٌّ، وَلَا قَانُونٌ بَشَرِيٌّ.

 

اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.

 

بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ...

 

 

الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

 

 أَمَّا بَعْدُ: فَيَا إِخْوَةَ الْإِيمَانِ: حُقَّ لَنَا أَنْ نَفْخَرَ بِهَذِهِ الْمَبَادِئِ، وَأَنْ نَرْفَعَ بِهَا صَوْتَنَا وَلَا نُخَافِتَ، بِأَنَّنَا الْأُمَّةُ الَّتِي كَرَّمَتِ الْإِنْسَانَ، وَحَفِظَتْ لَهُ حُقُوقَهُ مُصَانَةً، وَأَعْلَتْ مَنْزِلَتَهُ مِنْ أَيِّ إِهَانَةٍ.

 

هَذِهِ الْمَبَادِئُ الَّتِي طَالَمَا عِشْنَاهَا وَصَدَّرْنَاهَا، يُعَادُ تَصْدِيرُهَا إِلَيْنَا، عَلَى أَنَّهُ كَشْفٌ إِنْسَانِيٌّ، مَا عَرَفْنَاهُ يَوْمًا، وَلَا عِشْنَا بِهِ دَهْرًا.

 

 لَقَدْ أَعْلَنَ مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هَذِهِ الْمَبَادِئَ قَبْلَ إِعْلَانِ مِيثَاقِ أُمَمِهِمْ لِحُقُوقِ الْإِنْسَانِ بِأَلْفٍ وَثَلَاثِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً، بَلْ إِنَّ الْحُقُوقَ الَّتِي مَنَحَهَا دِينُ مُحَمَّدٍ لِلْإِنْسَانِ قَدْ تَجَاوَزَتْ وَصَايَا وَقَرَارَاتِ مُنَظَّمَاتِ حُقُوقِ الْإِنْسَانِ الْعَالَمِيَّةِ.

 

فَأَيْنَ هُوَ حَدِيثُهُمْ عَنْ حَقِّ الْوَالِدَيْنِ؟! وَحَقِّ الْجَارِ؟! وَحَقِّ الْمُطَلَّقَةِ وَالْأَرْمَلَةِ؟! وَغَيْرُهَا كَثِيرٌ، الَّتِي أَكَّدَ عَلَيْهَا الْإِسْلَامُ، بَلْ وَأَثَابَ عَلَى الْقِيَامِ بِهَا.

 

فَحُقُوقُ الْإِنْسَانِ فِي شَرِيعَتِنَا قَائِمَةٌ فِي أَسَاسِهَا عَلَى حَقِّ التَّكْرِيمِ الْإِلَهِيِّ لِجِنْسِ الْإِنْسَانِ (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ) فَهِيَ حُقُوقٌ يُثَابُ عَلَيْهَا حِينَ تُحْفَظُ؛ لِأَنَّهَا طَاعَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى فِيمَا أَمَرَ.

 

أَمَّا حُقُوقُ الْإِنْسَانِ عِنْدَ الْغَرْبِ فَهِيَ قَائِمَةٌ عَلَى النَّظْرَةِ الْمَادِّيَّةِ الْإِلْحَادِيَّةِ، وَهِيَ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْحَةً مِنْ أَحَدٍ وَلَا تَكْرِيمًا، وَإِنَّمَا هِيَ حُقُوقٌ مُسْتَمَدَّةٌ مِنَ الْحَقِّ الطَّبِيعِيِّ كَمَا يُعَبِّرُونَ.

 

حُقُوقُ الْإِنْسَانِ فِي شَرِيعَتِنَا لَا تُصَادِمُ الْمُقَدَّسَاتِ، وَلَا تُعَاكِسُ الدِّينَ، وَلَا تَهْدِمُ الْأَخْلَاقَ. وَفِي حُقُوقِ الْإِنْسَانِ الْغَرْبِيَّةِ الْمَادِّيَّةِ لِيَقُلِ الْإِنْسَانُ مَا شَاءَ، وَلْيَفْعَلْ مَا يَشَاءُ مَا لَمْ يَصِلْ لِحَدِّ الِاعْتِدَاءِ، فَازْدِرَاءُ الرُّسُلِ وَالْأَدْيَانِ حَقٌّ مَكْفُولٌ، وَالْفَوَاحِشُ حِينَ تَكُونُ بِالتَّرَاضِي يَحْمِيهَا الْقَانُونُ.

 

حُقُوقُ الْإِنْسَانِ فِي شَرِيعَتِنَا قَائِمَةٌ عَلَى الْعَدْلِ، فَلَا انْتِهَازِيَّةَ فِيهَا وَلَا مَصْلَحِيَّةَ، أَمَّا حُقُوقُ الْإِنْسَانِ عِنْدَهُمْ فَقَدْ صَاغُوهَا نَظَرِيًّا، ثُمَّ جَعَلُوهَا شَمَّاعَةً لِلتَّدَخُّلَاتِ السِّيَاسِيَّةِ، وَوَرَقَةً انْتِهَازِيَّةً يَسْتَخْدِمُهَا الْغَرْبُ وَفْقَ مَصَالِحِهِ وَفَرْضِ رُؤْيَتِهِ عَلَى الْغَيْرِ، فَبِاسْمِ حُقُوقِ الْإِنْسَانِ تَسْتَنْكِرُ تِلْكَ الْمُنَظَّمَاتُ إِقَامَةَ الْحُدُودِ الشَّرْعِيَّةِ؛ زَعْمًا أَنَّهَا تَخَلُّفٌ وَوَحْشِيَّةٌ.

 

أَمَّا مَنْعُ الْخُمُورِ، وَحَظْرُ السُّفُورِ، وَاتِّخَاذُ التَّدَابِيرِ ضِدَّ الِانْحِرَافِ وَالْفُجُورِ، فَهُوَ فِي مَنْطِقِهِمُ اعْتِدَاءٌ عَلَى الْحُرِّيَّاتِ الشَّخْصِيَّةِ.

 

لَمْ يَتَحَدَّثُوا عَنْ حَقِّ الْإِنْسَانِ فِي بِنَاءِ أَخْلَاقِهِ، وَلَا كَيْفَ يَصُونُ جَوَارِحَهُ وَلِسَانَهُ، وَإِنَّمَا تَحَدَّثُوا عَنْ حَقِّ الْإِنْسَانِ فِي أَنْ يَكْفُرَ، أَوْ أَنْ يَفْجُرَ، حَقِّهِ فِي أَنْ يَكُونَ شَاذًّا أَوْ مُلْحِدًا، حَقِّ إِنَاثِهِ فِي أَنْ يَتَسَاوَيْنَ بِالرِّجَالِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، حَتَّى وَلَوْ تَصَادَمَ هَذَا الشَّيْءُ مَعَ طَبِيعَتِهَا وَفِطْرَتِهَا.

 

حُقُوقُ الْإِنْسَانِ فِي شَرِيعَتِنَا هِيَ مِنْحَةٌ رَبَّانِيَّةٌ، جَاءَتْ بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى الْبَشَرِيَّةِ، وَلَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْحُقُوقُ رَدَّةَ فِعْلٍ لِحَادِثَةٍ أَوْ قَضِيَّةٍ، بَيْنَمَا الْغَرْبُ مَا نَادَى بِهَذِهِ الْحُقُوقِ إِلَّا بَعْدَ أَنْ أَجْرَمَ، وَأَنْهَكَ الْإِنْسَانَ بِعَشَرَاتٍ مِنَ الْحُرُوبِ، وَالتَّصْفِيَّاتِ الْعِرْقِيَّةِ الَّتِي رَاحَ ضَحِيَّتَهَا مَلَايِينُ الْبَشَرِ.

 

سَلُوا التَّارِيخَ كَمْ ذَهَبَ بَعْدَ الْحَرْبَيْنِ الْعَالَمِيَّتَيْنِ مِنَ الْمَلَايِينِ وَالْأَبْرِيَاءِ، مَا جَعَلَ الْغَرْبَ يُنَادِي بَعْدَهَا بِحُقُوقِ هَذَا الْإِنْسَانِ الْمَظْلُومِ.

 

وَحَتَّى بَعْدَ أَنْ كَتَبَ هَذِهِ الْحُقُوقَ نَظَرِيًّا لَا زَالَ الْغَرْبُ هُوَ الَّذِي يَهْتِكُ حَقَّ هَذَا الْإِنْسَانِ. فَمَنِ الَّذِي أَرْعَبَ الْبَشَرِيَّةَ بِأَسْلِحَةِ الدَّمَارِ الشَّامِلِ، وَالصَّوَارِيخِ الْعَابِرَةِ لِلْقَارَّاتِ؟!

 

مَاذَا فَعَلَ الْغَرْبُ الْمُتَحَضِّرُ مَعَ الشَّعْبِ الْيَابَانِيِّ وَالْفِيتْنَامِيِّ؟!

 

مَاذَا عَنْ مَذَابِحِ صِرْبِيَا وَالْبُوسْنَةِ، وَأَفْغَانِسْتَانَ وَالْعِرَاقِ. وَغَيْرُهَا كَثِيرٌ؟!

 

وَيَبْقَى السُّؤَالُ الْأَهَمُّ: هَلِ الْغَرْبُ صَادِقٌ فِي مُنَادَاتِهِ بِحُقُوقِ الْإِنْسَانِ؟!

 

وَالْجَوَابُ: الْوَاقِعُ يَشْهَدُ وَيَنْطِقُ أَنَّهُ صَادِقٌ!!

 

وَلَكِنْ ... إِذَا كَانَ ذَلِكَ الْإِنْسَانُ هُوَ الْإِنْسَانَ الْغَرْبِيَّ، فَحُقُوقُهُ مُصَانَةٌ، وَكَرَامَتُهُ مَحْفُوظَةٌ.

 

أَمَّا حُقُوقُ الشُّعُوبِ الْإِسْلَامِيَّةِ الْمَظْلُومَةِ الْمَقْهُورَةِ، فَنَعَمْ .. يُلْتَفَتُ إِلَيْهَا وَلَكِنْ بِإِدَانَاتٍ بَارِدَةٍ تَتَبَخَّرُ مَعَ الْأَيَّامِ، إِلَّا إِذَا كَانَ لِلْغَرْبِ مَصْلَحَةٌ فِي التَّدَخُّلِ، فَمَصْلَحَتُهُ وَانْتِهَازِيَّتُهُ هِيَ الَّتِي تُحَرِّكُهُ لَيْسَ إِلَّا.

 

وَلَنَا فِي مَجَازِرِ سُورِيَّا، وَفَظَائِعِ بُورْمَا مِثَالٌ حَيٌّ يُصَدِّقُ هَذَا.

 

هَذَا فِي حَالِ الْمُسَالَمَةِ مَعَهُمْ، وَأَمَّا إِذَا بَلَغَ الْحَالُ إِلَى الْمُصَادَمَةِ فَيَكْفِي أَنْ يُسْقِطَ عَلَيْكَ الْغَرْبُ مُفْرَدَةَ (الْإِرْهَابِ) أَوِ (التَّطَرُّفِ) لِتَسْقُطَ عَنْكَ بَعْدَهَا جَمِيعُ الْحُقُوقِ، فَلَا تَسْتَحِقُّ إِلَّا السَّحْقَ وَالْفَنَاءَ.

 

اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ...

 

إِخْوَةَ الْإِيمَانِ: أَيَّامُكُمْ هَذِهِ أَيَّامٌ فَاضِلَاتٌ، أَيَّامُ شُكْرٍ، وَأَوْقَاتُ ذِكْرٍ، فَزِيدُوا الْعِيدَ جَمَالًا بِالصِّلَةِ وَالتَّلَاحُمِ، وَالْعَطْفِ وَالتَّرَاحُمِ.

 

افْتَحُوا أَبْوَابَ التَّفَاؤُلِ وَالْأَمَلِ فِي حَيَاتِكُمْ، وَالْزَمُوا حُدُودَ رَبِّكُمْ، وَصُومُوا عَنِ الْمَحَارِمِ دَهْرَكُمْ، تَدُمْ لَكُمُ الْأَيَّامُ عِيدًا، وَتَبْتَسِمْ لَكُمُ الْحَيَاةُ سُرُورًا.

 

صَلُّوا بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى الرَّحْمَةِ الْمُهْدَاةِ وَالنِّعْمَةِ الْمُسْدَاةِ...

 

 

 

المرفقات
خطبة عيد الأضحى 1434هـ ( حقوق الإنسان بين خطبة حجة الوداع وانتهاكات الغرب)3.doc
خطبة عيد الأضحى 1434هـ ( حقوق الإنسان بين خطبة حجة الوداع وانتهاكات الغرب) مشكولة.doc
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life