اقتباس
ومن أخطر أنواع الفساد كذلك: الفساد الفكري، وإنما ذكرناه هنا لأن فساد الفكر هو البيئة الصالحة الملائمة والمرتع الخصب لنمو جراثيم الفساد السلوكي والأخلاقي، ويتمثل ذلك في عصرنا في ذلك الوابل الرديء من النفايات الفكرية التي تبث على الفضائيات وفي المواقع النتنة على الشبكة العنكبوتية وعلى أوراق الصحف بل وتؤلف لها المؤلفات التي تحوي التأصيل الساقط لخزعبلات وانحرافات فكرية!...
تختلف العقول فهم قول الله -عز وجل-: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ)[الروم: 41]، فتجد أحد المفسرين يقول: الفساد هو "انقطاع المطر عن البر يعقبه القحط، وعن البحر تعمى دوابه"، وقال غيره: "فساد البر: قتل ابن آدم، وفساد البحر: أخذ السفينة غصبًا"، وقال ثالث: الفساد "النقص في الثمار والزروع بسبب المعاصي"، وفسر بعضهم الفساد بأنه: الشرك، وهو أعظم الفساد، وفسره آخرون بأنه: ذهاب البركة... (ينظر: تفاسير الخازن وابن كثير والبيضاوي والنسفي). وأنت تلاحظ أن أغلب المفسرين قد قصر الفساد الظاهر على أنواع معينة ونماذج محددة منه، والذي أراه حقًا أن الفساد المقصود في الآية هو أعم من ذلك كله؛ فهو يشمل كل ما مال وجنح عن صورته الطبيعية الصحيحة السليمة إلى صورة فاسدة خاطئة، فيشمل الفساد المادي كما يشمل الفساد المعنوي، يشمل فساد الجو والهواء بالتلوث البيئي كما يشمل فساد النفوس التي تلطخت بالمعاصي والذنوب، يشمل فساد التربة الزراعية كما يشمل فساد الأرواح بالتأثر بالشبهات والشهوات، يشمل فساد المياه بما يلقى فيها من مخلفات كما يشمل تدني الأخلاق وانهيار المثل والقيم... فما أكثر ألوان وأشكال وأنواع وأصناف الفساد، ألف صنف وصنف وألف شكل وشكل، ولعل من أخطرها وأشدها تمنعًا على التقويم ورفضًا للعلاج والإصلاح: الفساد الأخلاقي والسلوكي؛ فإننا ما رأينا الشرع يتوعد أو يعاقب على نوع من أنواع الفساد مثلما يفعل مع الفساد الأخلاقي والسلوكي، وتعالوا نضرب بعض نماذج لهذا: فهذه خمس جرائم أخلاقية وسلوكية تسببت في خمسة أنواع من الدمار والعقوبات، نقلها إلينا عبد الله بن عمر قائلًا: أقبل علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "يا معشر المهاجرين خمس إذا ابتليتم بهن، وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المئونة وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوًا من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم"(ابن ماجه) ولا يقتصر عقاب الجرائم الأخلاقية على فاعليها فقط، بل يشمل الجميع؛ البر مع الفاجر والطائع مع العاصي، وإن سألت: كيف يهلك البَر والطائع والصالح؟ أجبتك: لأنه صمت عن المنكرات وسكت عن الأمر بالمعروف فكانت النتيجة ظهور المنكرات وكثرتها، ولولا صمته لما ظهر ولا كثر! فعن زينب بنت جحش، -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دخل عليها فزعًا يقول: "لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب؛ فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه" وحلق بإصبعه الإبهام والتي تليها، قالت زينب بنت جحش: فقلت يا رسول الله: أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: "نعم إذا كثر الخبث"(متفق عليه)، وفي حديث لعائشة حدد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ألوانًا بعينها من العقوبات قائلًا: "يكون في آخر هذه الأمة خسف ومسخ وقذف"، قالت: قلت: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: "نعم إذا ظهر الخبث"(الترمذي). وكلمة: "الخبث" قد تطلق على النجاسات الحسية لكن الغالب في هذين الحديثين أن المراد بها الانحرافات السلوكية والأخلاقية من فجور وزنا... يقول النووي: "وفسره الجمهور بالفسوق والفجور، وقيل: المراد الزنى خاصة، وقيل: أولاد الزنى، والظاهر أنه المعاصي مطلقًا"(شرح النووي على صحيح مسلم). واستغلال حاجة المحتاج بفرض الربا عليه جريمة أخلاقية أخرى عقوبتها عذاب الله -والعياذ بالله-، فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا ظهر الزنا والربا في قرية، فقد أحلوا بأنفسهم عذاب الله"(الحاكم). ولا ننسى أن الإسلام قد عاقب امرأة بالنار لجريمة أخلاقية ارتكبتها؛ وهي أن نزعت الرحمة من قلبها فحبست قطة بلا طعام ولا شراب! وغفر لبغي من بغايا بني إسرائيل ما اقترفت لأنها رحمت كلبًا فسقته ماءً! ووبخ رسول الله -صلى الله عليه وسـلم- من مسخت فطرتهم فلم يقبِّلوا صبيانهم!... وكذا كل جريمة أخلاقية أو سلوكية هي في الإسلام سبب عقوبة ودمار. *** ومن أخطر أنواع الفساد كذلك: الفساد الفكري، وإنما ذكرناه هنا لأن فساد الفكر هو البيئة الصالحة الملائمة والمرتع الخصب لنمو جراثيم الفساد السلوكي والأخلاقي، ويتمثل ذلك في عصرنا في ذلك الوابل الرديء من النفايات الفكرية التي تبث على الفضائيات وفي المواقع النتنة على الشبكة العنكبوتية وعلى أوراق الصحف بل وتؤلف لها المؤلفات التي تحوي التأصيل الساقط لخزعبلات وانحرافات فكرية! فمن الفساد الفكري: نسبة نِعم الله إلى سواه -عز وجل-: فأي جحود وأي ضياع عقل وأي حماقة! وقد روى الطبراني في مسند الشاميين -بسند ضعيف- عن أبي الدرداء، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "قال الله -عز وجل-: إني والجن والإنس في نبأ عظيم، أخلق ويعبد غيري، وأرزق ويشكر غيري"! ومن الفساد الفكري سب الزمان والدهر: وإنما الزمن محل للأحداث والوقائع التي يقوم بها البشر، وكل بلاء أو مصيبة تنزل عليهم فيه إنما هم المتسببون فيها: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ)[الشورى: 30]، فكيف يلومون الزمان بعد ذلك؟! وفي الحديث القدسي: "قال الله -تعالى-: يؤذيني ابن آدم؛ يسب الدهر، وأنا الدهر بيدي الأمر أقلب الليل والنهار"(متفق عليه). ومن الفساد الفكري: ادعاء أنه لا حاجة لنا إلى السنة النبوية والدعوة إلى الاكتفاء بالقرآن وحده! فهؤلاء الذين يسمون أنفسهم بالقرآنيين يريدون هدم القرآن من أساسهم بهذه الدعوة الخبيثة الماكرة، هذا إن كانوا يدركون ما يقولون، أما إن كانوا جهلة ببغاوات يكررون ما يسمعون بلا تفكير ولا إعمال عقل، فإنهم يعجزون ويحاورن إذا ما سألتهم أين في القرآن أن الصلوات المفروضة خمسًا؟ وأين أوقاتها وهيئاتها وأركانها وسننها؟ وأين مقادير الزكاة في القرآن وأنصبتها والأصناف التي تجب فيها الزكاة؟ وأين في القرآن مناسك الحج وأركانه وشروطه؟ وأين وأين وأين، فما أضيع عقولهم؟! ومن الفساد الفكري: ادعاء أن الغرب أهدى سبيلًا من المسلمين، وطلب التقدم بالارتماء تحت أقدامهم... (أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا)[النساء: 139]، فها هم أذناب العرب يقلدونهم في كل صغيرة وكبيرة ظانين أن هذا هو طريق المجد، وما رفعة المسلمين وعزتهم إلا في القرآن: (لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ)[الأنبياء: 10]، ونجيب: بلى، إنهم لا يعقلون؛ فقد تركوا مجدهم وعزهم واستعاضوا عن قمم الجبال بالسفوح! ويأتي على رأس قائمة المفسدين فكريًا من ينكر وجود الخالق -سبحانه- ويدعي أن الكون قد نشأ صدفة، وأن الكون يدير شئون نفسه بنفسه...! وما في الدنيا أسخف ولا أخف عقلًا من أولئك الملحدين البلهاء: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ)[الطور: 35]، لقد أدركها أعرابي يحيا في البيداء لا يملك ثقافة ولا تكنولوجيا لكنه يمتلك فطرة سليمة فقال: "البعرة تدل على البعير، وأثر الأقدام يدل على المسير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، ألا تدلان على اللطيف الخبير"! *** ومن أشكال الفساد: فساد ذات البين؛ الضغائن والأحقاد والكراهية والبغضاء التي تسكن وتعشش داخل قلوب بعض المسلمين على بعضهم البعض، فتكون النتيجة أن تتنافر القلوب وتتعارض المصالح وتتقطع الأواصر، فتصير الأمة متشرذمة متناحرة متنافرة شيعًا مع أن الله -تعالى- أرادها أمة واحدة: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً)[الأنبياء: 92]، وكذا رسوله -صلى الله عليه وسـلم- تمناها أمة واحدة متعاضدة: "ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم، كمثل الجسد، إذا اشتكى عضوا تداعى له سائر جسده بالسهر والحمى"(متفق عليه). ولخطورة الأمر، ولأنه إن تفرقت الأمة لم تصمد في وجه أعدائها بل لم تستطع إقامة الدولة الإسلامية وتطبيق شرعها... فقد عدَّ الدين إصلاح ذات البين أفضل من الصلاة والصيام والصدقة، فعن أبي الدرداء، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة"، قالوا: بلى، قال: "صلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة"، وفي زيادة: "هي الحالقة لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين"(الترمذي). ويتقطع القلب ألمًا ونحن نقول: إن كثيرًا من قلوب المسلمين اليوم -حتى المصلين منهم في المساجد- لا تخلو من بغضاء وغل وحسد لمسلم موحد، وقد ينطق القلب معسول الكلام والقلب معبأٌ بالعتاب والغل والملام! يعطيك من طرف اللسان حلاوة *** ويروغ منك كما يروغ الثعلب يذكرنا حاله بحال المنافقين الذين قال الله فيهم: (يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ)[التوبة: 8]، فاللهم أصلح أحوال المسلمين فإن هذا من الفساد العظيم. *** ومن أشكال الفساد: المغالاة في المهور وتعسير أمر الزواج: فيعسر أمر الحلال في حين يتيسر الحرام! فصدق من سماها: "فتنة في الأرض وفساد عريض"، فعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا أتاكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض"(ابن ماجه). وكيف يصنع المسلمون ذلك مع أن نبيهم -صلى الله عليه وسـلم- قد أمرهم بالتيسير في أمر المهور، فعن عائشة، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أعظم النساء بركة أيسرهن مئونة"(النسائي في الكبرى)، وفي لفظ: "خيرهن أيسرهن صداقًا"(ابن حبان). *** وبقيت ألوان وصور كثيرة من الفسادات لم نتطرق إليها في حديثنا، لذا فقد جمعنا ها هنا عددًا من الخطب لخطبائنا الواعين المدركين لخطورة الأمر، جمعناها ورتبناها لتكون عونًا على فهم الأمر وتأصيلًا له وجمعًا لأطرافه... فإليك:
التعليقات