الابتلاء وحكمة وجود الشر

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/تنزيه الله عن كل سوء، والتسليم له في كل ما قضى 2/ليس في أفعال الله شر مطلقًا 3/حِكم وجود الشر 4/أمور تنبغي علينا نحو الابتلاء

اقتباس

إن هذه الدنيا دار عبور، لا محل حبور، ومنزلُ مَمَر، لا مكان مقر، جديدُها يَبلى، وحيُّها يفنى، ولذاتها منغصّة، وكمالاتُ شؤونها منتقصة، وإن دار الحياة والبقاء، والاستمرارِ وعدمِ الفناء إنما هي دار الآخرة...

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)[الأحزاب:70-71]، أما بعد:

 

أيها الناس: إن هذه الدنيا دار عبور، لا محل حبور، ومنزل مَمَر، لا مكان مقر، جديدُها يَبلى، وحيُّها يفنى، ولذاتها منغصّة، وكمالاتُ شؤونها منتقصة، وإن دار الحياة والبقاء، والاستمرارِ وعدمِ الفناء إنما هي دار الآخرة، يقول الله -تعالى- في كتابه الكريم: (وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)[العنكبوت:64]، "يقول -تعالى- مخبراً عن حقارة الدنيا وزوالها وانقضائها، وأنها لا دوام لها وغاية ما فيها لهو ولعب: (وَإِنّ الدّارَ الآخرة لَهِيَ الْحَيَوَانُ)؛ أي: الحياة الدائمة الحق الذي لا زوال لها ولا انقضاء، بل هي مستمرة أبد الآباد. وقوله -تعالى-: (لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ)؛ أي: لآثروا ما يبقى على ما يفنى".

 

ومن أراد حياة ناعمة بلا فناء، وعيشة سالمة من كل عناء، ولذات كاملة بلا منغصات، وخيراتٍ تامة بلا مضرات، والسلامةَ من كل كدر وهم وغم وحزن فلن يجد ذلك إلا في الجنة، أما في الدنيا فلا يمني نفسه بذلك؛ ففي صحيح مسلم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من يدخل الجنة يَنعم ولا يبأس، لا تبلى ثيابه ولا يفنى شبابه"، وقال -عليه الصلاة والسلام-: "ينادي مناد: إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدا، وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدا، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدا، وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدا".

 

وقال الشاعر عن الدنيا مبينًا حقيقتها:

طُبعتْ على كدرٍ وأنت تريدُها *** صفواً من الأقذاء والأكدارِ

ومكلِّفُ الأيَّامِ ضدَّ طباعها *** متطلّبٌ في الماءِ جذوةَ نار

وإذا رجوتَ المستحيل فإنما *** تبني الرَّجاء على شفيرٍ هار

فالعيشُ نوم والمنيّة يقظة *** والمرءُ بينهما خيالٌ سار

والنفسُ إن رضيتْ بذلك أو أبتْ *** منقادةٌ بأزمّة المقدار

فاقضُوا مآربكم عجالاً إنما *** أعماركُم سفرٌ من الأسفار

 

أيها المسلمون: إن الله -تعالى- له الكمال المطلق في ذاته وصفاته؛ فلا نقص فيه، ولا عيب يعتريه، -سبحانه- الكامل في عظمته وجلاله، وجماله وحسن فعاله. فهو المنزّه عن كل سوء، المبرّأ من كل شين، قال -تعالى-: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ)[الشورى:11]، وقال: (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)[الصافات:180-182]؛ "فسبح نفسه عما يصفه المفترون المشركون، وسلّم على المرسلين لسلامة ما قالوه من الإفك والشرك، وحمد نفسه؛ إذ هو -سبحانه- المستحق للحمد بما له من الأسماء والصفات وبديع المخلوقات".

فمن كان مؤمنًا بالله حقًا فلا يعتري إيمانَه، ولا يتسلل إلى قلبه شكٌ في قوة الله وقدرته، وعلمه وحِكمته، ورأفته ورحمته، وغناه وفضله، وسلطانه وملكه، وعدله في حُكمه.

 

فلا أحد من الخلق يفوت قدرةَ الله، أو يتصرف في ملكه -تعالى- بدون إرادته، أو يسعه الخروج عن حُكمه، أو يخفى عليه ما يفعل في جميع شؤونه، أو لا يصل إليه سمعه وبصره وعلمه، تبارك وتعالى. قال -سبحانه-: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)[الأنعام:59]، وقال: (وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ)[الشورى:31].

 

فلهذا وجب على الإنسان أن يعلم أن كل ما في هذا الوجود لا يخرج عن سلطان الله وإرادته، وعلمه وحكمته، وأن أفعال الله كلها خير، وليس في فعل الله شر مطلقًا، قال -تعالى-: (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)[آل عمران:26]، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "والشر ليس إليك"(رواه مسلم). قال ابن القيم: "وهو -سبحانه- خالق الخير والشر؛ فالشر في بعض مخلوقاته لا في خلقه وفعله، وخلقُه وفعله وقضاؤه وقدره خير كله؛ ولهذا تنزه -سبحانه- عن الظلم الذي حقيقته وضع الشيء في غير موضعه".

 

وقال أيضًا: "الرب -تعالى- الذي لا يأتي أبداً إلا بالخير، ويستحيل خلاف ذلك في حقه؛ كما يستحيل عليه خلاف كماله، وقد أفصح أعرف الخلق بربه عن هذا بقوله: "والشر ليس إليك"؛ أي: لا يضاف إليك ولا ينسب إليك ولا يصدر منك؛ فإن أسماءه كلها حسنى وصفاته كلها كمال، وأفعاله كلها فضل وعدل وحكمة ورحمة ومصلحة؛ فبأي وجه ينسب الشر إليه -سبحانه وتعالى-؟ فكل ما يأتي منه فله عليه الحمد والشكر، وله فيه النعمة والفضل".

 

وعلى الإنسان أن يعلم أيضًا أن للمكاره التي يراها العاقل حكمًا وغايات حميدة قد يدرك بعضها ويفوته سواها، وأن لها أسبابًا أوصلت إليها لو علمها لما أَسَرته العاطفة الجيّاشة التي لا تقوم على تأمل وحسن ظن بالله رب العالمين.

 

نسأل الله أن يجعلنا من أهل الإيمان به، وحسنِ الظن بأفعاله.

 

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه، أما بعد:

 

أيها المسلمون: قد يقول قائل: لماذا خلق الله الشر؟

والجواب عن هذا: أن ذلك كان لحكم كثيرة، منها:

الحكمة الأولى: من المعلوم أن الله أعطى الإنسان الحرية أن يفعل ويترك ما يريد؛ فلا يكون مجبوراً على الخير فقط، ولو كان كذلك لكان مقيداً محبوسًا؛ فإطلاق تصرف الإنسان دليل على كمال قدرة الله -تعالى-.

 

الحكمة الثانية: أن من كمال الربوبية أن يخلق الرب الشيء وضده؛ حتى يظهر لخلقه كمالُ قدرته على خلق الأشياء وأضدادها.

 

الحكمة الثالثة: تحقق معاني أسمائه وصفاته؛ فقد قدّر -تعالى- الذنوب لحكم منها: أن تتحقق في عباده معاني أسمائه: الغفور والرحيم والتواب وغيرها من الأسماء الرحمية؛ فبها وُجد التائبون والمستغفرون والمسترحمون، وبذلك يظهر رق العبد وتضرعه، وهذا مقصد من مقاصد العبودية.

 

الحكمة الرابعة: أن الخير لا يُعرف إلا بضده؛ فلو لم يكن هناك شر لما عرف فضل الخير، ولو يكن هناك مرض لما عرف فضل الصحة، ولو لم يكن هناك مبتلَون لما عرف فضل العافية، ولو لم يكن هناك خوف لما عرف فضل الأمن، ولو لم يكن هناك تعب لما عرف فضل الراحة، ولو لم يكن هناك فقر وحاجة لما عرف فضل الغنى والكفاية، ولو لم يكن هناك نار لما عرف فضل الجنة، وهكذا الأمور الأخرى.

 

الحكمة الخامسة: تحقيق كمال العبودية؛ فإن الله -تعالى- لا يُعبد في السراء فقط، بل يعبد في السراء والضراء؛ فلو لم يكن هناك شر لكانت العبودية ناقصة، ومقصورة على السراء فحسب.

 

لكن وجود الشر والضراء يستخرج من العبد عبوديات كثيرة يتقرب بها إلى الله -تعالى-، منها: عبادات: الصبر والرضا، وحسن الظن به، واليقين بحسن فعله، والتوبة والاستغفار والندم، والدعاء والتضرع بين يدي الله -تعالى-.

 

الحكمة السادسة: أن ترك النفس في أحضان السراء بلا شر يورثها البطر والأشر، والإعراض عن ربها، وقلة الشوق إلى لقائه ودخول جنته، بل قد يصل بعض الناس في حال سرائه إلى الظلم والطغيان، والاعتداء على الناس، ولكن حينما تلم به الأضرار وينزل به الشر ينكسر كبرياء نفسه، وتؤوب إلى ربها خاضعة ذليلة، ويكف عن الجور والعدوان، ويجعل فيها التواضع والرحمة والمحبة والبعد عن الانتقام؛ فبعض النفوس لا ينفع معها الخير فتحتاج إلى مؤدب الشر حتى تعتدل.

 

الحكمة السابعة: حصول تكفير الذنوب وكثرة الأجور ورفع الدرجات، وهذه غايات لا تتحقق إلا بوجود الشر والأشرار، والأضرار والأكدار، ولو لم يكن من الحِكم إلا هذه لكانت تلك الشرور خيراً عظيمًا للإنسان.

 

فعلينا بعد هذا-عباد الله- أن نوقن بأن الله يعلم ونحن لا نعلم، وأن الله حكيم لا يحصل في خلقه إلا ما هو مقتضى حكمته.

 

كما علينا -ونحن ننظر إلى الشر- ألا ننظر إليه من جانب واحد، بل من جميع الجوانب؛ فالشر قد يكون خيراً في جهة دون أخرى؛ فمثلاً بعض الحيوانات المؤذية كالعقارب والحيات هي شر بالنسبة لنا؛ لكنها خير بالنسبة لها وبعض الحيوانات التي تنتفع بوجودها، بل هناك منافع كثيرة للبشر في وجودها كشف بعضها العلمُ الحديث.

 

وكذلك الحياة الدنيا ليست نهاية الحياة، بل هي أول الحياة فقط؛ فالحياة الدائمة إنما هي في الآخرة، والحكم العادل يكون بالنظر إلى الكل لا إلى الجزء فقط.

 

وعلينا أن نعلم أيضًا أن الأصل الغالب هو الخير، والشر طارئ فقط؛ فالصحة هي الأصل الدائم والمرض هو الطارئ.

 

أخيراً نقول: إن العقول البشرية، قاصرة ولها حدود معلومة إذا جاوزتها اضطربت وتحيرت؛ فإجالة العقول في خضم الأقدار، وخوض متاهاتِ ما فيها من الحكم والأسرار قد يضل الأفهام، ويوقع فيما لا تحمد عقباه من الحيرة وسوء الظن، والاعتراضِ على الله في قدره الذي قد يفضي بصاحبه إلى الكفر.

 

فلنسمع نصيحة الإمام الطحاوي -وما أحسنها من نصيحة- يوم قال: "وأصل القدر سرُّ الله -تعالى- في خلقه، لم يطّلِع على ذلك ملكٌ مقرب ولا نبي مرسل، والتعمق والنظر في ذلك ذريعة الخذلان، وسلّم الحرمان، ودرجة الطغيان؛ فالحذر كل الحذر من ذلك نظراً وفكراً ووسوسة؛ فإن الله -تعالى- طوى علم القدر عن أنامه، ونهاهم عن مرامه؛ كما قال الله -تعالى- في كتابه: (لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ)[الأنبياء:23]".

 

اللهم يا ولي الإسلام وأهله، ثبّتنا على الإسلام حتى نلقاك به.

 

هذا وصلوا وسلموا على خير البشر؛ (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب:56].

 

المرفقات

الابتلاء وحكمة وجود الشر

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات