العظة والاعتبار بانقضاء الأزمان والأعمار

عبد الله بن عبد الرحمن البعيجان

2022-10-11 - 1444/03/15
التصنيفات: الخلق والآفاق
عناصر الخطبة
1/في تقلب الأيام والليالي عبرة لأولي الأبصار 2/من حكمة الله تقدير المقادير والآجال 3/على المسلم اغتنام عمره 4/تعظيم شهر الله المحرم لفضائله 5/السنة في صيام عاشوراء

اقتباس

خيرُكم من طال عمُرُه وحَسُن عمَلُه، وشرُّكم مَنْ طال عمرُه وساء عملُه، وسيُسأل كلُّ واحد منكم عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، فيا حسرتا على ضياع أنفَسِ اللحظات، ويا أسفا على التفريط في أعظم الأوقات...

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله، الحمد لله الذي خلَق كلَّ شيء فقدَّره تقديرا، وجعَل الليلَ والنهارَ خلفةً لمن أراد أن يذَّكَّر أو أراد شكورا، أشهد ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ الواحدُ الأحدُ، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الأمين، بلَّغ الرسالةَ وأدَّى الأمانةَ ونصَح الأمةَ، وجاهَد في الله حقَّ الجهاد حتى أتاه اليقينُ، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه واستنَّ بسُنَّته إلى يوم الدين.

 

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأوثق العُرَى كلمة التقوى، وخير الملل ملة إبراهيم، وأحسن القصص القرآن، وأفضل الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة.

 

عباد الله: اتقوا الله فيما أمرَ، وانتَهُوا عمَّا نهى عنه وزجَر، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102].

 

معاشرَ المسلمينَ: إنَّ تقلُّب الأيام والليالي، وسرعة الزمان وتغيُّر الأحوال وتجدُّد الأعوام وملاحقة الآجال لَدليلٌ على الزوال والمآل، وعبرةٌ لمن تعلَّق بالآمال، (يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ)[النُّورِ: 44].

 

تَأَمَّلْ في الوجودِ بعينِ فِكْر *** تَرَ الدنيا الدنيئةَ كالخيالِ

وَمَنْ فيها جميعًا سوف يفنى *** ويبقى وجهُ ربِّكَ ذو الجلال

 

(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)[الْبَقَرَةِ: 164].

 

معاشر المسلمين: كلُّ عام يقدَّر بحساب، فتفرَّق فيه المقاديرُ وآجالُ الصغار والشيوخ والشباب، (وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ)[فَاطِرٍ: 11]، تفنى الأجيال، وتنتهي الآمال، وتنقضي الآجال، وكلُّ مَنْ عليها فانٍ، ويبقى وجهُ ربك ذو الجلال، فاغتَنِموا فرصةَ العمر والحياة، وقدِّموا لأنفسكم من العمل أزكاه، ولا تُسَوِّفوا فإن في التسويف حِرْمانًا، فبادِروا الحياةَ قبل الموت، والفراغ قبل الشغل، والغنى قبل الفقر، والشباب قبل الهَرَم، والصحة قبل السَّقَم، (وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِين * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)[الزُّمَرِ: 54-58].

 

أيها المسلمون: عامٌ انقضى، خُتمت أعمالُه وطُويت صحائِفُه، فهنيئًا لمن اغتنم فرصتَه، ورَبِحَ وقتَه، وأصلح عمله، ألا وإنا قد دخلنا في غُرَّة عامٍ جديدٍ، يزُفُّنا إلى القبور، ويحدو بنا إلى يوم البعث والنشور، فجديرٌ بنا أن نبذل فرصةَ العمر في طاعة الله، (وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ)[الْمُزَّمِّلِ: 20].

 

خيرُكم من طال عمُرُه وحَسُن عمَلُه، وشرُّكم مَنْ طال عمرُه وساء عملُه، وسيُسأل كلُّ واحد منكم عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، فيا حسرتا على ضياع أنفَسِ اللحظات، ويا أسفا على التفريط في أعظم الأوقات.

 

وَهَبِ الشَّبِيبةَ تُبدي عذرَ صَاحِبِها *** ما عذرُ أشيبَ يستهويه شيطانُ

 

معاشرَ المسلمينَ: لحظات العمر فرصة للعمل، ونعمة تستوجب الشكرَ، (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا)[إِبْرَاهِيمَ: 34]، والعمر يمضي، والزمن يسير، ولحظات الحياة مدى قصير، والواجبات متراكمة، والحقوق مزدحمة، فلا مجال لِلَّهو والعبث، ولا مجال للفراغ والسرف، واسمعوا -عبادَ اللهِ- لهذا التقريع المفزِع، والحوار المقرِع، يسأل اللهُ -تعالى- عبادَه، (قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ * قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ)[الْمُؤْمِنَونَ: 112-116].

 

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.

 

أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لشانه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا.

 

أيها المسلمون: اتقوا الله -تعالى- وبادِروا أعمارَكم بأعمالكم، وحقِّقوا أقوالكم بأفعالكم؛ فإن حقيقة عمر الإنسان ما أمضاه في طاعة الله، والكيِّس مَنْ دان نفسَه وعَمِلَ لِمَا بعدَ الموت، والعاجز مَنْ أتبَع نفسه هواها وتمنَّى على الله الأمانيَّ.

 

عبادَ اللهِ: في انصرام الأزمان أعظم معتَبَر، وفي تقلُّب الأيام أكبر مزدَجَر، (إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ)[يُونُسَ: 6]، ثم اعلموا أن الله اصطفي صفايا من خلقه، فاصطفى من الملائكة رُسُلًا ومن الناس رُسُلًا، واصطفى من الكلام ذِكْرَه، واصطفى من الأرض المساجد، واصطفى من الشهور رمضان والأشهر الحرم، واصطفى من الأيام يوم الجمعة، واصطفى من الليالي ليلة القَدْر، فعظِّموا ما عظَّم اللهُ، ألَا وإنكم في غرة شهر محرم، مستهل السنة الهجرية، وهو من الأشهر الحُرُم التي عظَّمَها اللهُ، قال تعالى: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ)[التَّوْبَةِ: 36].

 

إن الظلم -معاشرَ المسلمينَ- محرَّم في كل الشهور، ولكنَّ الله عظَّم حرمةَ الأشهر الحرم، وجعَل الذنبَ فيهن أعظمَ، والعمل الصالح والأجر فيهن أعظمَ، عن أبي بكرة -رضي الله عنه-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنَّ الزمانَ قد استدار كهيئته يوم خلَق اللهُ السمواتِ والأرضَ، السنة اثنا عشر شهرا، منها أربعة حُرُم، ثلاث متواليات: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب مُضَر الذي بين جمادى وشعبان" (متفق عليه).

 

ولقد اعتمد المسلمون منذ خلافة عمر -رضي الله عنه- على هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- من مكة إلى المدينة فأرَّخُوا بها؛ لأن الله فرَّق بالهجرة بين الحق والباطل، وابتدؤوا السنةَ بشهر الله المحرَّم، واستقرَّ الأمرُ على ذلك وتلقته الأمةُ بالقَبول.

 

وبعدُ معاشرَ المسلمينَ: إنَّ من هدي نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- ومن مكفِّرات السيئات ومن شكر الله وتعظيمه صيام يوم عاشوراء، وهو العاشر من شهر محرم، فعن ابن عباس -رضي الله عنه- قال: "لَمَّا قَدِمَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- المدينة وجَد اليهودَ يصومون عاشوراء، فسُئلوا عن ذلك فقالوا: هذا اليوم الذي أظفَر اللهُ فيه موسى وبني إسرائيل على فرعون، ونحن نصومه تعظيمًا له، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "نحن أولى بموسى منكم"، ثم أمر بصومه، وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "ما رأيتُ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- يتحرَّى يومًا فضَّلَه على غيره إلَّا هذا اليوم؛ يوم عاشوراء، وهذا الشهر؛ يعني شهر رمضان" (رواهما البخاري)، وفي (صحيح مسلم) أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "صيامُ يومِ عرفةَ أحتسبُ على الله أن يكفِّر السنةَ التي قبلَه والسنة التي بعده، وصيام يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يكفِّر السنةَ التي قبلَه"، ولَمَّا بلَغ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- في آخر عمره أن اليهود يتخذون عاشوراء عيدًا فَهَمَّ أن يصوم التاسعَ والعاشرَ من العام المقبِل، فحالت دونَه المنيةُ، فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "حين صام رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- يوم عاشوراء، وأمَر بصيامه، قالوا: يا رسولَ اللهِ، إنه يوم تعظِّمه اليهودُ والنصارى؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: فإذا كان العام المقبِل -إن شاء الله- صُمْنا اليومَ التاسعَ" يعني والعاشرَ، قال: فلم يأتِ العامُ المقبلُ حتى توفي رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-، (رواه مسلم).

 

فالأفضل -عبادَ اللهِ- أن يُصام قبلَه يومٌ خلافًا لليهود، ومن غُلِبَ فلا يُغلَبَنَّ على صيام العاشر.

 

اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشركَ والمشركين، وانصر عبادَكَ الموحِّدين، واجعل اللهم هذا البلدَ آمنًا مطمئنًا وسائرَ بلاد المسلمين.

 

اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم وفِّق وليَّ أمرنا خادمَ الحرمين الشريفين بتوفيقك، وأيِّده بتأييدك، اللهم وفِّقه لما تحب وترضى وخذ بناصيته للبر والتقوى، اللهم وفِّقه ووليَّ عهده لما تحب وترضى، وخذ بناصيتهما للبر والتقوى، يا سميعَ الدعاء.

 

اللهم احفظ حدودنا، اللهم احفظ حدودنا، وانصر جنودنا يا رب العالمين، اللهم انصر جنودنا المرابطين على الثغور، اللهم احفظهم بحفظك واكلأهم برعايتك، اللهم اشف مريضهم، واجبر كسيرهم، وتقبَّل موتاهم في الشهداء، يا سميع الدعاء.

 

اللهم أنتَ اللهُ لا إلهَ إلا أنتَ، اللهم أنتَ اللهُ لا إلهَ إلا أنتَ، أنتَ الغنيُّ ونحن الفقراء، أنتَ الغنيُّ ونحن الفقراءُ، أَنْزِلْ علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانطينَ، اللهم أنزل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانطينَ، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا غيثا هنيئا مريئا سحا غدقا، نافعا مجللا غير ضار، اللهم تحيي به البلاد وتجعله بلاغا للحاضر والباد، برحمتك يا أرحم الراحمين.

 

اللهم اسق عبادك وبهائمك، وانشر رحمتك، وأحي بلدك الميت، اللهم إنَّا نستغفرك إنك كنتَ غفَّارا، اللهم إنَّا نستغفرك إنك كنتَ غفَّارا، فأرسِلِ السماءَ علينا مدرارًا، برحمتك يا أرحم الراحمين.

 

وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

المرفقات

العظة والاعتبار بانقضاء الأزمان والأعمار

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات