يا عباد الله فاثبتوا

عبداللطيف بن عبدالله التويجري

2022-10-12 - 1444/03/16
التصنيفات: أحوال القلوب
عناصر الخطبة
1/حديث يا عباد الله فاثبتوا 2/أهمية الثبات على الدين 3/استحضار هذا الحديث في واقعنا 4/الثبات على الدين كالقابض على الجمر

اقتباس

وإذا كان دعاءُ الأنبياءِ غدا على الصراط اللهم سلم سلم فإن لورثتهم اليومَ من الدعاة والعلماء أن يكونَ هجيراهم "يا عباد الله فاثبتوا". وإن مسلما يلهجُ في اليوم أكثر من سبعة عشرَ مرةً بدعاء (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)[الفاتحة:6] لحقيقٌ أن يجعلَ "يا عباد الله فاثبتوا" نُصْبَ عينِه وهو يرى أركانَ الدين وعُمَدَه تهدمُ وعُرَاه تُنقَض...

الخطبة الأولى:

 

عبادَ الله: روى مسلمٌ في صحيحه عن النواسِ بن سمعانَ قال: ذكرَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- الدجالَ ذاتَ غداة، فخفضَ فيه ورفع، حتى ظنناه في طائفةِ النخل، فلما رُحْنا إليه عرف ذلك فينا، فقال: "ما شأنُكمْ؟" قلنا: يا رسولَ الله ذكرتَ الدجالَ غداة، فخفضت فيه ورفعت، حتى ظنناه في طائفة النخل، فقال: "غيرُ الدجالِ أخوفني عليكمْ، إن يخرج وأنا فيكم، فأنا حجيجُه دونَكم، وإن يخرج ولست فيكم، فامرؤٌ حجيج نفسِه، والله خليفتي على كل مسلم، إنه شاب قطَط، عينُه طافِئَة، كأني أشبهه بعبد العزى بن قَطَن؛ فمن أدركَه منكمْ فليقرأْ عليه فواتح سورة الكهف، إنه خارجٌ خَلَّةً بين الشام والعراق، فعاث يمينا وعاث شمالا، يا عبادَ الله فاثبتوا".

 

هكذا قالها -صلى الله عليه وسلم-، وهو الذي أُوتيَ جوامعَ الكلم، وإن دونَ فتنةِ الدجالِ فِتناً يموج الناس فيها، فَحُقَّ لمنابرنا اليوم أن تكون صدىً لهذه النصيحة النبوية "يا عباد الله فاثبتوا" ولحناجرِ الوعاظِ ألا تسأمَ من تِرْدادِ "يا عباد الله فاثبتوا".

 

ولما كان العبورُ على الصراطِ المنصوبِ على متنِ جهنمَ في الآخرةِ وفقَ سيرِ العبدِ على الصراطِ المستقيمِ في الدنيا - كان الثباتُ على الصراط في الدنيا هو النورُ الذي يضيءُ لك عند العبورِ يومَ الآخرةِ على ذلك الصراط.

 

وإذا كان دعاءُ الأنبياءِ غدا على الصراط اللهم سلم سلم فإن لورثتهم اليومَ من الدعاة والعلماء أن يكونَ هجيراهم "يا عباد الله فاثبتوا".

 

وإن مسلما يلهجُ في اليوم أكثر من سبعة عشرَ مرةً بدعاء (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)[الفاتحة:6] لحقيقٌ أن يجعلَ "يا عباد الله فاثبتوا" نُصْبَ عينِه وهو يرى أركانَ الدين وعُمَدَه تهدمُ وعُرَاه تُنقَض، ويرى في صفوف المسلمين من يرددُ قولَ المشركين الأول للرسل (وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ)[إبراهيم:9].

 

يرى الشك في الله يسري في بعض أبناء المسلمين، ويرى الطعنَ في صحيح البخاري غدا موضوعيةً علمية، ويتألمُ لمسلّماتِ الدين صارت حمى مستباحا، وأضحت لحوم العلماء لحما طريا، ورُوّج للأقوال الشاذة وبعثت بين العوام، وأصبح استحلال الخمر والمعازف والربا تحضرا وتمدنا.

 

يقلّبُ ناظريه فيُدْمي قلبه انتكاساتٍ في رفاقِ دربِ الاستقامة، ويلتفتُ فيرى فتنا كقطعِ الليلِ المظلمِ كأنها الكلابيبُ على جسر جهنم، فيصيحُ بأخيه المسلم الثابت "يا عباد الله فاثبتوا".

 

وعندما يرتفعُ صوتُ النفاق (مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا)[الأحزاب:12]؛ فإن للربانيين أن يَبُحَّ أصواتَهم بـ "يا عباد الله فاثبتوا".

 

وإذا كان الناسُ يُمتحَنون في عصر النبوة مرة أو مرتين فإنهم اليومَ يُمتحَنون في العام ألفا أو يزيد.

 

"يا عباد الله فاثبتوا" طوقُ النجاةِ من طوفانِ الفتنِ الجارف، وركنُ المؤمنِ في دُولَةِ الباطلِ على الحقِ تماماً كما جعله اللهُ لأم ذلك الرضيعِ رابعِ أربعةٍ تكلموا في المهد، لما تقاعستْ أمُه كما ورد في بعض روايات الحديث فصاح الرضيعُ قائلا : "يا أمَّه اصبري فإنك على الحق"(رواه مسلم) إن أمراً يخرمُ الله لأجله نواميسَ الكون فينطقُ صبيا في المهد لهو أمرٌ ذو بال، بل هو الأمر كلُّه.

 

"يا عباد الله فاثبتوا": هي كعبةُ دعواتِ الصالحين؛ فالراسخون في العلم تضرعوا إلى الله فسألوه، (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) [آلعمران:8]، وقد كان إمامُهم صلواتُ ربي وسلامُه عليه يكثرُ من دعاءِ الله بالثبات؛ فعن أنسَ قال: كان رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- يكثرُ أن يقولَ: "يا مقلبَ القلوبِ ثبتْ قلبي على دينك"، فقلتُ: يا رسولَ الله، آمنا بك وبما جئت به فهل تخافُ علينا؟ قال: "نعمْ، إن القلوبَ بين أصبعين من أصابع الله يقلبُها كيف يشاء"(رواه الترمذي).

 

وعند عبدالرزاق عن أبي عبد الله الصَنَابَحِيّ أنه صلى وراءَ أبي بكرِ الصديقِ المغرب، فقرأ أبو بكر في الركعتين الأوليين بأم القرآن وسورتين من قصار المفصل، وقرأ في الركعة الثالثة، قال: فدنوتُ منه حتى إن ثيابي لتكادُ تمسُّ ثيابَه، فسمعته يقرأ بأم القرآن وهذه الآية: (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ)[آلعمران:8]، فلما أُخْبِرَ عمرَ بن عبدَالعزيزِ بخبر الصديقِ هذا قال: فما تركناها منذ سمعناها منه، وإن كنتُ قبلَ ذلك لعلى غيرِ ذلك. وكان مما علّم صلى اللهُ عليه وسلم زوجَه أمُ سلمةَ عندما سألتْه دعاءً تدعو به أن تقول: "اللهم ربَّ النبي محمدٍ، اغفر لي ذنبي، وأذْهب غيظَ قلبي، وأجِرْني من مضلات الفتن"(أخرجه أحمد).

 

"يا عباد الله فاثبتوا" أقضّتْ مضاجعَ الصالحين، فحبروا وَجَلَهم في تواليفهم أبوابا عن الفتن، ودونوا مصنفاتٍ في التحذير منها، وقلَّ أن تجد أصلا من أصول الإسلام خلا من الفتن، فالحديث عن الفتن هو للوصية بالثبات والتخويفِ من الانجراف مع الفتن، وإنما يكون الفلاحُ عند الامتحان والثبات عند الفتن.

 

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيمْ: (آلم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الكَاذِبِينَ)[العنكبوت:1-3].

 

 

الخطبة الثانية:

 

أخبرَ الصادقُ المصدوقُ -صلى الله عليه وسلم- : "يأتي على الناسِ زمانٌ الصابرُ فيهم على دينه كالقابضِ على الجمر" والحديث عند الترمذيّ، وقد تأوله الإمام الشاطبي أنه زمانُه، فقال في لاميته:

وَهَذَا زَمَانُ الصَّبْرِ مَنْ لَك بِاَلَّتِي *** كَقَبْضٍ عَلَى جَمْرٍ فَتنجو من الْبَلَاء

 

وقد توفي -رحمه الله- في سنة 590 هـ فإن يكنْ زمانُه كذلك؛ فماذا سيكونُ زمانُنا؟ فاللهم ثبتنا.

 

وإن امرءاً ملكَ ناصيةَ البلاغة لن يجدَ للثبات معنى سوى ما في هذا الحديث: "الصبرُ على الدين كقبضٍ على الجمر".

 

إن الثباتَ ليس قولا فيُزخرَف، ولا كلمات فتُحلّى، ولكنه وَجَلٌ في قلوب الأولياء تترجمه فعالُهم، فيتواصون بالصبر والمرحمة، ويركنون إلى العلم فرارا من الفتن، ويملكون زادا من أعمال القلوب فيثبون حين يزيغُ الناس (يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ)[إبراهيم:27].

 

الثباتُ -يا عبدَالله- منحةٌ ربانية يمنحُها لمن يستحقّ، لا يُنال بالتمني ولا بالتسخط على الواقع، وإنما ينالُ ببذل أسبابه: صدقا مع الله، وإلحاحا له في السؤال، وثنيا للرُكَبِ عند أهل العلم، وصبرا على ما تلقاه في سبيل دينك.

 

الثباتُ ينالُه من كان الدينُ همَّه، والهمُّ بالدنيا أكبرُ الروافدِ إلى مستنقع التنازلات، قال الله -تعالى عن عالم السوء- (وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ)[الأعراف:176].

 

ومركبُ السائرِ إلى الله في الثبات هو الصبر، وما أدراك ما الصبر؟ قد أمرَ الله به في كتابه أربى من تسعين موضعا

 

لَوْلَا المَشَقّةُ سادَ الناسُ كلُّهُم * الْجُودُ يُفقِرُ وَالإقْدَامُ قَتّالُ

 

ولولا الصبر لمَا فازَ من فازَ (إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ) [المؤمنون:111]، (وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا)[الإنسان:12] (أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاماً)[الفرقان:75].

 

قد قلتُ ما قلت، فإن كان صوابا فمن الله، وإن كان غيرَ ذلك فمن نفسي والشيطان، وجعلني الله وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.

 

اللهم ربَ النبي محمدٍ اغفرْ لنا ذنوبَنا، وأذهبْ غيظَ قلوبِنا، وأجرْنا من مُضِلاّتِ الفتن.

 

اللهم يا مقلب القلوب ثبتْ قلوبَنا على دينك، واصرفْ قلوبَنا إلى طاعتك.

 

اللهم إنا نسألُك خشيتَك في السر والعلن، والقصدَ في الفقر والغنى، وكلمةَ الحق في الرضا والغضب.

 

ونسألُك اللهم نعيما لا ينفد، وقرةَ عين لا تنقطع، ونسألُك لذة النظر إلى وجهك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلةْ.

 

اللهم نسألُك فعلَ الخيرات، وتركَ المنكرات، وحب المساكين، وإذا أردت بعبادك فتنةً فاقبضْنا إليك غير مفتونين.

 

(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)[الصَّافَّاتِ:180-182].

المرفقات

يا عباد الله فاثبتوا

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات