كيد الأعداء ومكرهم (1) تاريخ المكر والكيد

الشيخ د إبراهيم بن محمد الحقيل

2022-10-10 - 1444/03/14
عناصر الخطبة
1/ دلالة المكر والكيد 2/ ابتداء المكر والكيد والتخلق بهما من صفات أعداء الله 3/ صور من مكر وكيد أعداء الله 4/ واجبنا تجاه المكر والكيد 5/ مكر وكيد أعداء الله لن يضر المؤمنين إلا أذى

اقتباس

وَإِذَا عَلِمَ المُؤْمِنُ أَنَّ كَيْدَهُمْ وَمَكْرَهُمْ لَنْ يَضُرَّهُ إِلَّا أَذًى، وَلَنْ يُزِيلَ المُسْلِمِينَ مِنَ الْأَرْضِ، وَلَنْ يَمْحُوَ دِينَهُمْ؛ هَانَ عَلَيْهِ كُلُّ مَا يَلْقَى فِي سَبِيلِ بَقَاءِ دِينِهِ، وَثَبَاتِهِ هُوَ عَلَيْهِ، فَازْدَادَ تَمَسُّكًا بِهِ؛ لِعِلْمِهِ أَنَّ كُلَّ هَذَا المَكْرِ وَالْكَيْدِ مِنْ أُمَمِ الْأَرْضِ عَلَى الْإِسْلَامِ لَيْسَ إِلَّا لِأَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى، وَأَنَّ مُحَارِبِيهِ هُمْ أَهْلُ الْبَاطِلِ، تَعَدَّدَتْ مِلَلُهُمْ ..

 

 

 

 

الْحَمْدُ لِلهِ الْعَلِيمِ الْحَفِيظِ، الْقَوِيِّ المَتِينِ؛ (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ) [يونس:3] نَحْمَدُهُ فَهُوَ الْمَحْمُودُ فِي الْأَرْضِ وَفِي السَّمَاءِ، المَذْكُورُ فِي كُلِّ الأَزْمَانِ وَالْأَحْوَالِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ لَهُ فِي خَلْقِهِ شُؤُونٌ يَقْضِيهَا، وَلَهُ فِي عِبَادِهِ أَقْدَارٌ يُمْضِيهَا، وَلَهُ فِي شَرَائِعِهِ أَحْكَامٌ يَفْرِضُهَا وَيُبَيِّنُهَا، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ بَشَّرَ المُؤْمِنَ بِأَنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ يَؤُولُ إِلَى خَيْرٍ ".. إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ" فَلَا يَجْزَعُ مُؤْمِنٌ مِنْ بَلَاءٍ أَحَاطَ بِهِ، وَلَا يَبْطَرُ بِنِعْمَةٍ تَجَدَّدَتْ لَهُ، وَهُوَ مُتَقَلِّبٌ بَيْنَ الصَّبْرِ وَالشُّكْرِ، وَنَائِلٌ بِذَلِكَ عَظِيمَ الْأَجْرِ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

 

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَتَوَكَّلُوا عَلَيْهِ فَمَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ كَفَاهُ، وَلُوذُوا بِهِ فَلَا حِمًى إِلَّا حِمَاهُ، وَثِقُوا بِوَعْدِهِ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يُخْلِفُ المِيعَادَ، وَأَنِيبُوا إِلَيْهِ فَإِنَّكُمْ فِي حَاجَةٍ إِلَيْهِ، وَعَلِّقُوا بِهِ قُلُوبَكُمْ فَلَا حَوْلَ لِلْعَبْدِ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِهِ (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا) [الطلاق: 2-3].

 

أَيُّهَا النَّاسُ: الْكَيْدُ وَالمَكْرُ لَفْظَانِ يَدُلَّانِ عَلَى خَطَرٍ يُحِيطُ بِمَنْ قُصِدَ بِهِمَا، كَمَا يَدُلَّانِ عَلَى جُبْنِ وَعَجْزِ مَنْ يَتَخَلَّقُ بِهِمَا؛ لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ الْعَلَاقَاتِ بَيْنَ الْبَشَرِ أَنْ تَكُونَ وَاضِحَةً، وَلَا تَلْجَأُ إِلَى المَكْرِ وَالْكَيْدِ. وَلِذَا لَمْ يُذْكَرْ هَذَانِ اللَّفْظَانِ فِي حَقِّ اللهِ تَعَالَى إِلَّا عَلَى وَجْهِ المُقَابَلَةِ (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ) [آل عمران:54]، (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا) [الطًّارق: 16] أَيْ أَنَّ اللهَ تَعَالَى يَمْكُرُ بِمَنْ يَمْكُرُ بِهِ وَبِأَوْلِيَائِهِ، وَيَكِيدُ بِمَنْ يَكِيدُ بِهِ أَوْ بِهِمْ. وَمُقَابَلَةُ المَاكِرِ أَوِ الْكَائِدِ بِمَكْرِهِ وَكَيْدِهِ، وَقَلْبُهُ عَلَيْهِ يُمْدَحُ وَلَا يُذَمُّ، وَإِنَّمَا الذَّمُّ فِي الِاسْتِسْلَامِ لِكَيْدِ الْعَدُوِّ وَمَكْرِهِ؛ وَلِذَا قَالَ سُبْحَانَهُ: (وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) [الأنفال:30]، وَقَالَ سُبْحَانَهُ: (وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ) [يوسف:52].

 

وَالتَّخَلُّقُ بِالْكَيْدِ وَالمَكْرِ، وَالِابْتِدَاءُ بِهِمَا؛ كَانَ صِفَةَ أَعْدَاءِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ؛ فَمَا مِنْ نَبِيٍّ وَلَا أَتْبَاعِ نَبِيٍّ إِلَّا كَادَ بِهِمْ أَعْدَاؤُهُمْ وَمَكَرُوا بِهِمْ، وَتِلْكَ سُنَّةٌ مَاضِيَةٌ فِي الْقُرُونِ يَلْقَاهَا أَتْبَاعُ الرُّسُلِ مِنْ أَعْدَائِهِمْ، وَفِي هَذَا يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) [الأنعام:123] فَفِي كُلِّ زَمَانٍ وَفِي كُلِّ مَكَانٍ وَفِي كُلِّ مَدِينَةٍ وَفِي كُلِّ قَرْيَةٍ مُجْرِمُونَ يَكِيدُونَ بِأَهْلِ الْإِيمَانِ وَيَمْكُرُونَ بِهِمْ، وَيَسْعَوْنَ لِاجْتِثَاثِهِمْ، وَيُؤْذُونَهُمْ فِي دِينِهِمْ.

 

فَقَوْمُ أَوَّلِ الرُّسُلِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَكَرُوا بِهِ مَكْرًا عَظِيمًا، وَصَفَهُ اللهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: (وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا) [نوح:22] وَكُبَّاراً: مُبَالَغَةٌ فِي وَصْفِ المَكْرِ، أَيْ: كَبِيرًا جِدًّا، وَقَدْ كَانُوا يُدَبِّرُونَ الْحِيلَةَ لِقَتْلِ نُوحٍ وَتَحْرِيضِ النَّاسِ عَلَى أَذَاهُ وَأَذَى أَتْبَاعِهِ.

 

وَفِي مَكْرِ قَوْمِ صَالِحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِهِ قَالَ اللهُ تَعَالَى: (وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ) [النمل:51].

 

وَكَانَ هُودٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَعْلَمُ مَا يُدَبِّرُهُ أَعْدَاؤُهُ لَهُ مِنَ الْكَيْدِ الْعَظِيمِ بِسَبَبِ دَعْوَتِهِ إِلَى التَّوْحِيدِ، وَبَرَاءَتِهِ مِنْ شِرْكِهِمْ؛ وَلِذَا تَحَصَّنَ فِي مُوَاجَهَةِ كَيْدِهِمْ بِالتَّوَكُّلِ عَلَى اللهِ تَعَالَى: (قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [هود:54-56].

 

وَالْخَلِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- كَادَ بِهِ قَوْمُهُ كَيْدًا عَظِيمًا بِسَبَبِ تَحْطِيمِهِ لِأَصْنَامِهِمْ، وَدَعْوَتِهِمْ إِلَى تَوْحِيدِ اللهِ تَعَالَى، وَبَلَغَ مِنْ كَيْدِهِمْ أَنْ أَصْدَرُوا حُكْمًا بِحَرْقِهِ وَهُوَ حَيٌّ أَمَامَ النَّاسِ، فَرَدَّ اللهُ تَعَالَى كَيْدَهُمْ عَلَيْهِ، وَحَفِظَ سُبْحَانَهُ نَبِيَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ شَرِّهِمْ (قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ) [الأنبياء:68-70]، وَفِي آيَةٍ أُخْرَى: (فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَسْفَلِينَ) [الصَّفات:98].

 

وَالْكَلِيمُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ نَالَهُ مِنْ فِرْعَوْنَ أَعْظَمُ الْكَيْدِ، فَجَمَعَ لَهُ السَّحَرَةَ وَخَاطَبَهُمْ يَأْمُرُهُمْ أَنْ يَكِيدُوا بِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَمَامَ المَلإِ، وَيُسْقِطُوا دَعْوَتَهُ فِي قُلُوبِ النَّاسِ، قَالَ فِرْعَوْنُ كَمَا حَكَى اللهُ تَعَالَى عَنْهُ: (فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ اليَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى) [طه:64]، وَفِي آيَةٍ أُخْرَى: (فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى) [طه:60] وَلَكِنَّ الْعَاقِبَةَ كَانَتْ وَبَالًا عَلَى فِرْعَوْنَ وَجُنْدِهِ، وَقَلَبَ اللهُ تَعَالَى كَيْدَهُمْ عَلَيْهِمْ، وَرَدَّ مَكْرَهُمْ إِلَيْهِمْ، فَآمَنَ سَحَرَتُهُمْ، وَخَرُّوا للهِ تَعَالَى سُجَّدًا، وَكَسَرَ كَيْدَ فِرْعَوْنَ أَمَامَ مَلَئِهِ وَمَمْلَكَتِهِ، وَصَدَقَ اللهُ تَعَالَى حِينَ قَالَ: (وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ) [غافر: 37] أَيْ: خُسْرَانٍ وَهَلَاكٍ.

 

أَحَاطَ بِهِ كَيْدُهُ، وَرُدَّ عَلَيْهِ مَكْرُهُ، فَخَسِرَ دُنْيَاهُ وَآخِرَتَهُ، خَسِرَ سُلْطَانَهُ وَهَيْبَتَهُ، وَمَاتَ غَرِيقًا حَقِيرًا ذَلِيلًا، وَخَسَارَتُهُ فِي الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَعْظَمُ.

 

وَالمَسِيحُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَكَرَ بِهِ كُفَّارُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَأَجْمَعُوا عَلَى صَلْبِهِ أَمَامَ النَّاسِ، فَنَجَّاهُ اللهُ تَعَالَى مِنْ كَيْدِهِمْ، وَرَدَّ مَكْرَهُمْ عَلَيْهِمْ، وَأَلْقَى شَبَهَهُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَرَفَعَهُ إِلَيْهِ عَزِيزًا كَرِيمًا، وَفِي مَكْرِهِمْ بِعِيسَى قَالَ اللهُ تَعَالَى: (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ * إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) [آل عمران:54-55].

 

وَأَمَّا نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ مَكَرَ بِهِ المُشْرِكُونَ وَالْيَهُودُ وَالمُنَافِقُونَ، وَأَجْمَعُوا كَيْدَهُمْ ضِدَّهُ، فَحَاوَلُوا قَتْلَهُ أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ، وَسَمُّوهُ وَسَحَرُوهُ وَأَخْرَجُوهُ، وَعَذَّبُوا أَتْبَاعَهُ، وَصَدُّوا عَنْ دَعْوَتِهِ، وَمَا تَرَكُوا مَكْرًا إِلَّا مَكَرُوهُ، وَلَا كَيْدًا إِلَّا فَعَلُوهُ، وَفِي هَذَا يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ) [الأنفال:30] وَأَمَرَهُ اللهُ تَعَالَى أَنْ يَتَحَدَّاهُمْ وَمَكْرَهُمْ، وَأَنْ يُعْلِنَ تَوَكُّلَهُ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: (قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ * إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ) [الأعراف:195-196].  

 

وَكَانَ عَاقِبَةُ أُولَئِكَ المُتَآمِرِينَ مِنْ صَنَادِيدِ مَكَّةَ الَّذِينَ مَكَرُوا بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَقْتُلُوهُ أَوْ لِيَحْبِسُوهُ أَوْ لِيُخْرِجُوهُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى مَكَرَ بِهِمْ، وَرَدَّ عَلَيْهِمْ كَيْدَهُمْ، فَجَرَّهُمْ إِلَى بَدْرٍ لِيُصْرَعُوا فِيهَا (أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ المَكِيدُونَ) [الطُّور:42] قَالَ الْبَغَوِيُّ فِي مَعْنَاهَا: (أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا) أي: مَكْرًا بِكَ لِيُهْلِكُوكَ، (فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ)، أَيْ: هُمُ الْمَجْزِيُّونَ بِكَيْدِهِمْ، يُرِيدُ أَنَّ ضَرَرَ ذَلِكَ يَعُودُ عَلَيْهِمْ، وَيَحِيقُ مَكْرُهُمْ بِهِمْ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ مَكَرُوا بِهِ فِي دَارِ النَّدْوَةِ فَقُتِلُوا بِبَدْرٍ.

 

وَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ جَمِيعَ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ قَدْ مَكَرَ بِهِمْ أَقْوَامُهُمْ، وَكَادُوا بِهِمْ، وَنَالَ أُولُو الْعَزْمِ مِنْهُمْ أَشَدَّ الْكَيْدِ وَالمَكْرِ؛ عُلِمَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْكُفَّارِ وَالمُنَافِقِينَ أَنَّهُمْ يَكِيدُونَ بِالمُؤْمِنِينَ، وَيَمْكُرُونَ ضِدَّهُمْ، فَإِذَا وُجِدَ ذَلِكَ الْكَيْدُ وَالمَكْرُ عُلِمَ أَنَّ الدَّعْوَةَ دَعْوَةُ حَقٍّ؛ لِأَنَّ الْأَعْدَاءَ لَمْ يَرْضَوْا عَنْهَا، وَيُرِيدُونَ اجْتِثَاثَهَا. وَإِذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْكَيْدُ وَالمَكْرُ فَلْيَعْلَمْ صَاحِبُ الدَّعْوَةِ أَنَّ دَعْوَتَهُ بِهَا خَلَلٌ مَنَعَ عَنْهَا كَيْدَ الْأَعْدَاءِ وَمَكْرَهُمْ.

 

وَإِذَا عُلِمَ أَنَّ مَكْرَ الْكُفَّارِ وَالمُنَافِقِينَ بِالمُؤْمِنِينَ سُنَّةٌ مَاضِيَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَعَلَى المُؤْمِنِينَ أَنْ لَا يَجْزَعُوا مِنْهُ وَلَا يَخَافُوا (وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) [النحل:127] وَلَا يَتَنَازَلُوا عَنْ شَيْءٍ مِنْ دِينِهِمْ لِاتِّقَائِهِ، بَلْ يُوَاجِهُونَهُ بِالتَّوَكُّلِ عَلَى اللهِ تَعَالَى، وَالِاعْتِصَامِ بِهِ، وَاجْتِمَاعِهِمْ عَلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ؛ فَإِنَّ كَيْدَ الْكُفَّارِ وَمَكْرَهُمْ لَا يَمْضِي فِي المُؤْمِنِينَ إِلَّا فِي حَالِ اخْتِلَافِهِمْ وَفُرْقَتِهِمْ وَتَمَزُّقِهِمْ (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا) [آل عمران:103].

 

وَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ فِي كَيْدِ الْكُفَّارِ: (وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ) [غافر:25]، وَفِي آيَةٍ أُخْرَى: (ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الكَافِرِينَ) [الأنفال:18]، وَقَالَ فِي أَصْحَابِ الْفِيلِ: (أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ) [الفيل:2]، وَقَالَ سُبْحَانَهُ فِي كَيْدِ المُنَافِقِينَ: (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) [آل عمران:120].

 

نَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى أَنْ يَحْفَظَ المُسْلِمِينَ مِنْ كَيْدِ الْكُفَّارِ وَالمُنَافِقِينَ، وَأَنْ يَرُدَّهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ خَاسِرِينَ، وَأَنْ يَجْمَعَ كَلِمَةَ المُسْلِمِينَ عَلَى الْحَقِّ وَالدِّينِ، إِنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ.

 

وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ...

 

 

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

 

الْحَمْدُ لِلهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

 

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ (فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) [الأعراف:35].

 

أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: مَكْرُ الْكُفَّارِ وَالمُنَافِقِينَ وَكَيْدُهُمْ بِالْإِسْلَامِ وَالمُسْلِمِينَ فِي هَذَا الْعَصْرِ بَاتَ مَكْشُوفًا لِلنَّاسِ، وَهُوَ مَكْرٌ عَظِيمٌ لَا يَكَادُ يَتَصَوَّرُهُ أَحَدٌ، يَسْتَحِلُّ كُلَّ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ الْقَضَاءِ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالمُسْلِمِينَ. وَبَلَغَ مَكْرُهُمْ حَدًّا سَلَّطُوا المُسْلِمِينَ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ بِالْفُرْقَةِ وَالتَّنَاحُرِ، وَتَجَاوَزُوا ذَلِكَ إِلَى افْتِعَالِ الِاضْطِرَابَاتِ فِي بِلَادِ المُسْلِمِينَ، وَتَحْرِيكِ رُؤُوسِ الْفِتْنَةِ بِالِانْقِلَابَاتِ كَالدُّمَى الَّتِي تُؤَدِّي دَوْرَهَا، فَإِنْ نَجَحَتْ فِي مَسْعَاهَا رَكَنَتْ إِلَى الْأَعْدَاءِ، وَسَلَّمَتْهُمْ مُقَدَّرَاتِ الْبِلَادِ وَمَفَاصِلَهَا؛ لِأَنَّهُمْ سَبَبُ تَمَكُّنِ هَذِهِ الدُّمَى وَصُعُودِهَا، وَإِنْ أَخْفَقَتْ تَخَلَّوْا عَنْهَا وَتَرَكُوهَا لِمَصِيرِهَا المُظْلِمِ، وَبَحَثُوا عَنْ دُمًى جَدِيدَةٍ يُحَرِّكُونَهَا لِلْإِفْسَادِ فِي بِلَادِ المُسْلِمِينَ، وَإِحْلَالِ الْفَوْضَى وَالِاضْطِرَابَاتِ فِيهَا.

 

وَمَهْمَا بَلَغَ مَكْرُهُمْ وَكَيْدُهُمْ بِالْإِسْلَامِ وَالمُسْلِمِينَ فَهُوَ مَرْدُودٌ عَلَيْهِمْ بِبِشَارَةِ اللهِ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ (وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجِبَالُ) [إبراهيم:46] أَيْ: لَيْسَ مَكْرُهُمْ بِمُتَجَاوِزِ مَكْرِ أَمْثَالِهِمْ، وَمَا هُوَ بِالَّذِي تَزُولُ مِنْهُ الْجِبَالُ. وَالْإِسْلَامُ ثَابِتٌ ثُبُوتَ الْجِبَالِ.

 

وَإِذَا عَلِمَ المُؤْمِنُ أَنَّ كَيْدَهُمْ وَمَكْرَهُمْ لَنْ يَضُرَّهُ إِلَّا أَذًى، وَلَنْ يُزِيلَ المُسْلِمِينَ مِنَ الْأَرْضِ، وَلَنْ يَمْحُوَ دِينَهُمْ؛ هَانَ عَلَيْهِ كُلُّ مَا يَلْقَى فِي سَبِيلِ بَقَاءِ دِينِهِ، وَثَبَاتِهِ هُوَ عَلَيْهِ، فَازْدَادَ تَمَسُّكًا بِهِ؛ لِعِلْمِهِ أَنَّ كُلَّ هَذَا المَكْرِ وَالْكَيْدِ مِنْ أُمَمِ الْأَرْضِ عَلَى الْإِسْلَامِ لَيْسَ إِلَّا لِأَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى، وَأَنَّ مُحَارِبِيهِ هُمْ أَهْلُ الْبَاطِلِ، تَعَدَّدَتْ مِلَلُهُمْ وَنِحَلُهُمْ وَمَذَاهِبُهُمْ وَأَفْكَارُهُمْ، وَلَمْ يَجْمَعْهُمْ إِلَّا الْعَدَاءُ لِلْحَقِّ وَأَهْلِهِ، وَشَرَفٌ لِلْعَبْدِ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْحَقِّ، وَأَنْ يُضَحِّيَ فِي سَبِيلِهِ، وَسَيْرَتَدُّ عَلَى المَاكِرِينَ مَكْرُهُمْ وَكَيْدُهُمْ (وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَللهِ المَكْرُ جَمِيعًا) [الرعد:42]، (قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ القَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ العَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ) [النحل:26] (اسْتِكْبَارًا فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ المَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَحْوِيلًا) [فاطر: 43].

 

فَلْنَثِقْ بِاللهِ الْعَلِيمِ الْعَظِيمِ، وَلْنَتَمَسَّكْ بِأَهْدَابِ الدِّينِ الْقَوِيمِ، وَلْنَحْذَرِ الْكُفَّارَ وَالمُنَافِقِينَ؛ فَإِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ.

 

وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ ...

 

 

 

المرفقات

الأعداء ومكرهم (1) تاريخ المكر والكيد

الأعداء ومكرهم (1) تاريخ المكر والكيد - مشكولة

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات
عضو نشط
زائر
15-12-2021

جزاكم الله خيرا