خلق الإيثار

عدنان حسن باحارث

2022-10-10 - 1444/03/14
عناصر الخطبة
1/ الإيثار قليل أهله 2/ صور من إيثار السلف الصالح 3/ \"إنكم سترون بعدي أثرة\"

اقتباس

على الرغم من أهمية الإيثار، وعلو مقامه، فإنه من أول الأخلاق التي ضعفت بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يكد ينقرض جيل الصحابة رضي الله عنهم حتى عانوا من الأثرة والظلم الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، وكان الأنصار من أكثر الناس ..

 

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله...

 

 أما بعد:

أيها الإخوة: خُلُق كريم وجليل، يحبه الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، وحثَّ عليه الإسلام، ورغَّب فيه، إنه خلق الإيثار.

 

وهو أن تقدِّم الناس على نفسك في أمر الدنيا، بما لا يضرك في دينك، وهو أعلى درجات السخاء.

 

إن البذل من الكثير أمر سهل، ولكن العسيرَ الصعب هو البذل من القليل، ومما تميل إليه النفس وتحرص عليه.

 

لقد جُبِل الإنسان على حبِّ الذات، والحرص على الدنيا، والاستكثار من الممتلكات. وقليل هم الذين يقدِّمون مصالح الآخرين على مصالحهم، حتى إنهم من قلَّتهم لا يكادون يُعرفون في المجتمع، وأما أصحاب الأثرة والحرص، والتكالب على الدنيا، فهم أكثر بكثير من أن يعدُّوا أو يُحصروا.

 

ومن المعلوم عند العقلاء: أن الأشياء إذا كثرت رخُصت، وإذا قلَّت غَلَت؛ فما أغلى أهلَ الإيثار، في عصر قلَّ فيه أمثالهم، وندر أشباههم، كأنهم نجوم النهار، لا يُبصرها أحد.

 

ولقد ضرب لنا سلف هذه الأمة الأمثلة الرائعة في الإيثار، مما لا يكاد يصدَّق؛ فقد عجب الله لصنيع بيت من الأنصار، آثروا ضيفاً بطعامهم، وباتوا جائعين، يبتغون بذلك وجه الله.

 

وكان الأشعريون زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا فقدوا الطعام: جمعوا ما بقي منه، وجعلوه في ثوب واحد، ثم اقتسموه فيما بينهم بالسوية. وكان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يقول في مدحهم حين بلغه شأنهم هَذَا: "هم مني وأنا منهم".

 

وكان كثيراً ما يقول -صلى الله عليه وسلم- -: "طعام الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين يكفي الأربعة، وطعام الأربعة يكفي الثمانية".

 

ولما قدم المهاجرون المدينة، وقد صادرت قريش أموالهم: ناصَفَهم الأنصار أموالهم وآثروهم على أنفسهم.

 

حتى إن سعد بن الربيع الأنصاري -رضي الله عنه- عرض نصف ماله وإحدى زوجتيه على عبدالرحمن بن عوف -رضي الله عنه- ليختار منهما أعجبهما إليه، فيطلِّقها ليتزوجها.

 

وكان أبو طلحة الأنصاري -رضي الله عنه- من أكثر الأنصار مالاً، فتبرَّع لأبناء عمومته بأحبِّ أمواله إليه، وهو بستان عظيم بالمدينة.

 

وكان قيس بن سعد بن عبادة -رضي الله عنهما- من أغنى الناس وأجودهم، وكان كثيراً ما يداين الناس؛ فمرض مرة، فلم يزره أصحابه، ولم يعودوه في مرضه، فتعجَّب وسأل عنهم، فقالوا: "نستحي أن نزورك ولك علينا ديون"، فقال: "أخزى الله مالاً يمنع الإخوان من الزيارة"، ثم أمر منادياً ينادي: "من كان لقيس عليه مالٌ فهو في حل، فما أمسى حتى كُسرت عتبة بابه من كثرة مَن عاده".

 

ولما طُعن عمر -رضي الله عنه-، وشعر بالموت: أحبَّ أن يُدفن مع صاحبيه في حجرة عائشة -رضي الله عنها-، فقالت: "كنت أريده لنفسي، فلأوثرنَّه اليوم على نفسي"، فدُفن مع صاحبيه، ودفنت هي بالبقيع مع باقي زوجات النبي -صلى الله عليه وسلم-. 

 

وربما مرَّ المسكين بحجرة عائشة -رضي الله عنها- فيسأل فتعطيه إفطارها.

 

اشتهى مرةً عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- عنباً، فلما أُحْضِرَ عنده، فإذا بسائل يسأل، فأعطاه العنب، ولم يأكل منه شيئاً.

 

وقد حكى الحسن البصري -رحمه الله- أنه أدرك أقواماً يتصدَّقون بنصف أقواتهم الضرورية على مَنْ هم أقلُّ حاجة منهم.

 

عن حذيفة العدوي قال: "انطلقت يوم اليرموك أطلب ابنَ عمٍّ لي، ومعي شيء من ماء، فإذا أنا به، فقلت: أسقيك؟ فأشار إليَّ: أن نعم، فإذا رجلٌ يقول: آه، فأشار ابن عمي إليَّ أن انطلق به إليه، فجئته، فإذا هو هشام بنُ العاص، فقلت: أسقيك؟ فسمع به آخر، فقال: آه، فأشار هشام: انطلق به إليه، فجئته، فإذا هو قد مات، فرجعت إلى هشام فإذا هو قد مات، فرجعت إلى ابن عمي فإذا هو قد مات".

 

إنَّ من ألطف ما ينقل من مواقف الإيثار: أن بعض الفضلاء اجتمعوا، وليس عندهم إلا اليسير من الطعام لا يشبعهم جميعاً، فجعلوه في ثوب واحد، ثم أطفأوا السراج حتى لا يُحرجَ بعضهم بعضاً، وجلسوا للأكل، فلما أشعل الضوء، ورُفع الطعام، فإذا به على حاله، لم يتقدم منهم أحد إلى الطعام، يُؤثر بعضهم بعضاً.

 

وإن من أعجب وأغرب ما يُنقل في أمر الإيثار، أن الحجاج بن يوسف -الظالم المعروف- طلب إبراهيم النخعي ليؤذيه، فأحضروا له إبراهيم التيمي خطأً، فلم يشأ التيمي أن يفصح عن شخصيته إيثاراً للنخعي، حتى أُخِذَ وعُذِّبَ ومات في السجن.

 

إنها عجائب الخلْق والخُلُق -أيها الإخوة-، فإذا لم يكن هذا هو العجب فأين العجب؟! إنهم أناس أرادوا الله واليوم الآخر، فصدر منهم ذلك العجب.

 

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الحشر:9].

 

 

 

الخطبة الثانية:

 

أيها المسلمون: إن أصدق الحديث كتابُ الله، وأحسنَ الهَدْيِ، هَدْيُ محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- -، وشرَّ الأمور محدثاتُها، وكلَّ محدثةٍ بدعة، وكلَّ بدعةٍ ضلالة، وكلَّ ضلالة في النار.

 

أيها الإخوة: على الرغم من أهمية الإيثار، وعلو مقامه، فإنه من أول الأخلاق التي ضعفت بعد وفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

                  

فلم يكد ينقرض جيل الصحابة -رضي الله عنهم- حتى عانوا من الأثرة والظلم الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، وكان الأنصار من أكثر الناس معاناة من ذلك.

 

فقد أخبرهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- بذلك فقال: "إنكم سترون بعدي أثرة، فاصبروا حتى تلقوني".

 

فإذا كان هذا حال الأنصار ممن تبوَّأوا الدار والإيمان، فكيف بغيرهم من عامة الناس؟

 

فليس للمؤمن إلا الصبر والاحتساب، في زمن عَمَّ فيه الشُّحُّ، وقل فيه الإيثار، والله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

 

 

 

 

 

المرفقات

الإيثار

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات