عناصر الخطبة
1/ عبقرية خالد بن الوليد العسكرية 2/ تأملات في معارك الشام وأهميتها 3/ معركة اليرموك ودروس في القيادة الحربية الناجحة 4/ لماذا عزل عمر خالد بن الوليد عن القيادة؟ 5/ دروس وعبر من وفاة خالد بن الوليد.اقتباس
رجل عظيم لا يريد منصباً سياسياً، ولا صخباً إعلامياً إنما يريد رضا رب البرية أينما يكون موقعه قائداً أو جندياً فهو في سبيل الله، وهكذا استمر خالد جندياً في صفوف المسلمين إلى آخر حياته. بهذه القلوب نصر الله الأمة, قلوب لا يهمها حب الزعامات وحب المسؤولية، لا يهتم أحدهم أن يكون جندياً أو قائداً، المهم أن يجاهد في سبيل الله في أيِّ موقع أكان قائداً أم جندياً. وصدق خالد؛ فقد كانت معركة اليرموك آخر معركة خاضها الروم ضد المسلمين وزالت دولتهم بعدها ولم تقم لهم قائمة أبداً.
الخطبة الأولى:
الحمد لله منزل الكتاب ومجري السحاب، وهازم الأحزاب العزيز الوهاب، والصلاة والسلام على رسوله والآل والأصحاب ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين والحساب..
عباد الله: نواصل حديثنا عن سيف الله خالد بن الوليد ورحلته من ظلمات الشرك إلى نور التوحيد، وانتصاراته وصولاته وجولاته وبطولاته على أرض العراق، وما حقق الله على يديه من عزٍ ونصر للإسلام وفتح للمسلمين.
وبينما خالدٌ في العراق كان الخليفة أبو بكر قد أعدَّ جيوشاً أخرى تتجه إلى بلاد الشام فوجَّه أربعة جيوش دفعة واحدة بقيادة أبي عبيدة عامر بن الجراح، ويزيد بن أبي سفيان وشرحبيل بن حسنة، وعمرو بن العاص، وقد حقَّقت هذه الجيوش انتصارات متتالية على الروم، لذا قرروا خوض معركة فاصلة لوقف المد الإسلامي في أراضي الشام، وجمعوا حشودًا هائلة من الجند أتوا من جميع مملكة الروم، وتجمعوا في وادي اليرموك وكان عدد الرومِ كبيراً جدّاً, يزيد على مائتين وأربعين ألفاً, قرابة ربع مليون مقاتل وقد توعد إمبراطور الروم المسلمين قائلاً: "لأُشغلنَّ أبا بكر عن أن يورد بعد ذلك خيلَه إلى أرضنا".
وأمام هذا الحشد الهائل استغاث المسلمون في الشام بالخليفة ليرسل لهم مدداً, وبلغ أبا بكر ما قال زعيم الروم وما أعده لقتال المسلمين فرد أبو بكر بقوله: "والله لأشغلن النصارى عن وساوس الشيطان بخالد بن الوليد".
وأصدر الخليفة إلى أبي سليمان بأن يستخلف المثنى بن حارثة على العراق في نصف الجند، ويسير مسرعاً بالنصف الآخر إلى الشام ليمدَّ جيوش المسلمين ويتولى قيادة جيش أبي عبيدة كما صدرت الأوامر بأن تجتمع الجيوش الإسلامية في بلاد الشام لهذه المعركة الكبرى الفاصلة.
كان أمام خالد طريقان للوصول إلى المسلمين في الشام، الطريق الأول وهو الطريق المعتاد الذي تسلكه القوافل ويمر عبر دومة الجندل لكنه طريق طويل والثاني يمر بصحراء السماوة وهو طريق قصير، لكنه خطير ومهلك لا يسلكه أحد.
وقرر خالد أن يسلك هذا الطريق الصحراوي ليصل بسرعة إلى المسلمين ويفاجئ الروم, لكن أكثر من في الجيش عارضه خشية أن يهلكوا عطشاً فقام فيهم قائلاً: "لا يضعُفن يقينكم، واعلموا أنَّ المعونة تأتي على قدر النية، وإن المسلم لا ينبغي له أن يكترث بشيء يقع فيه مع معونة الله له". فحينذاك تشجعوا واتخذ خالد من رافع بن عميرة دليلاً له حيث نصحهم بالاستكثار من الماء؛ لأنهم سيسيرون لخمس ليال دون أن يردوا بئرًا أو ماء.
فأمر خالد بأن تُعطَّش الإبل المسنة ثم يسقوها ماءً كثيراً حتى تروى، وأمر جنده أن يحملوا ماء شربهم لخمسة أيام بحيث يكون للرجل الواحد جرعة ماء واحدة فقط خلال اليوم، أما الخيل ففي كل يوم تذبح هذه الإبل التي ارتوت بالماء ويستخرج ماؤها ويخلط بلبن الإبل، وتشرب الخيل منها، لقد استخدم خالد بطون الإبل لتخزين الماء لشرب الجياد، وبذلك نجح في اجتياز بادية الشام في أقصر وقت، ووصل وقد اجتمعت الجيوش لقتال الروم في معركة اليرموك.
كانت رسالة أبي بكر لأبي عبيدة أن يكون جندياً بعد أن كان قائداً قائلاً: "فإني قد وليت خالد بن الوليد القيادة في بلاد الشام فلا تخالفه، واسمع له وأطع، والله ما وليت خالدًا القيادة؛ إلا لأني ظننت أن له فطنة في الحرب ليست لك, وأنت عندي يا أبا عبيدة خير منه، أراد الله بنا وبك خيراً، والسلام".
المسألة هنا ليست بالفضل والعبادة، وإنما بالخبرة والتجربة، وخبرة خالد العسكرية أكبر من خبرة أبي عبيدة، وليس المهم من يرفع الراية، ويحقق النصر، المهم أن تُرفَع راية لا إله إلا الله ويفتح الله على المسلمين.
ولما اجتمع خالد بقادة الجيوش الإسلامية حمد الله وأثنى عليه ثم قال: "أيها القادة هذا يوم من أيام الله، فأخلصوا جهادكم لله؛ فإن هذا اليوم له ما بعده، فإن رددناهم اليوم وهزمناهم لم نزل نردّهم ونهزمهم بقية الأيام بإذن الله. وإن هزمونا اليوم لن نفلح بعدها أبداً، فتعالوا بنا لنتبادل الإمارة فليكن أحدنا اليوم أميراً، وليكن أحدنا في الغد، وليكن أحدنا بعد الغد، حتى يتأمر الجميع إن شاء الله"، فأذنوا له في القيادة.
بهذه القلوب نصر الله الأمة, قلوب لا يهمها حب الزعامات وحب المسؤولية، لا يهتم أحدهم أن يكون جندياً أو قائداً، المهم أن يجاهد في سبيل الله في أيِّ موقع أكان قائداً أم جندياً. وصدق خالد؛ فقد كانت معركة اليرموك آخر معركة خاضها الروم ضد المسلمين وزالت دولتهم بعدها ولم تقم لهم قائمة أبداً.
وقام القائد العبقري ينظِّم الجيوش والمسلمون ستة وثلاثين ألفاً وبدأ القتال وأبلى المسلمون بلاءً عظيماً، فهاهم شباب الإسلام يسطرون الأعاجيب، فحين خرج مقاتل من الروم يطلب المبارزة، خرج له غلامٌ لا يعرفه أحد وهو دون العشرين، وعندما همَّ بالخروج التفت إلى أبى عبيدة، وقال له كلمة بكى منها أبو عبيدة: يا أبا عبيدة هل لك إلى رسول الله من حاجة؟ فقال أبو عبيدة: أَقْرِأ رسول الله مني السلام وأخبره أنَّا وجدنا ما وعدنا ربنا حقًّا. فانطلق الغلام وقاتل الرومي حتى قتله، وأخذ فرسه وسلاحه وسلمهما إلى المسلمين، ثم بارز أربعة من الروم فقتلهم وخرج له خامس فحقق له أمنيته، بالشهادة في سبيل الله، وطارت روحه إلى السماء تبلغ رسولَ الله سلامَ أبي عبيدة.
ثم قام أبو عبيدة؛ فقال: أليس لهذا الرجل من رجل؟ فتقدم له عبد الرحمن بن معاذ بن جبل، وكان غلامًا صغيرًا عمره 14 سنة، وقال له أبوه: وفَّقني الله وإياك يا بُني، فقال: يا أبتِ أليست لك حاجة عند رسول الله؟ فقال له أبوه معاذ بن جبل: يا بني أقرأه منِّي السلام، وقل له: جزاك الله عن أمتك خيرًا. فخرج عبد الرحمن واقتتل مع الرومي فضربه الرومي، على رأسه فسقط شهيدًا، وكان ثاني شهداء المسلمين.
وهذا عكرمة بن أبى جهل؟ يصرخ في أرض المعركة: يا أصحاب رسول الله مَن يبايع على الموت؟! فيبايعه أربعمائة من أبطال المسلمين على الشهادة في سبيل الله، وانطلقوا بقيادة عكرمة وما بقي رجل منهم إلا شهيدٌ أو جريح.
لقد بهرت عبقرية خالد العسكرية قوّاد الروم، مما حمل أحد قادتهم، لطلب المبارزة مع خالد لكن دار حوار بين القائد الرومي وخالد بن الوليد, قال الرومي: يا خالد اصدقني ولا تكذبني فإن الحر لا يكذب، ولا تخادعني فإن الكريم لا يخادع، هل أنزل الله على نبيكم سيفاً من السماء فأعطاكه فلا تسلّه على قوم إلا هزمتهم؟ قال خالد -رضي الله عنه-: لا. قال: فبِمَ سُمِّيت سيف الله؟ قال خالد -رضي الله عنه-: "إن الله -عز وجل- بعث فينا نبيه فدعانا فنفرنا عنه، ثم إن بعضنا صدقه وتابعه وبعضنا باعده وكذبه، فكنت فيمن كذبه وباعده وقاتله، ثم إن الله أخذ بقلوبنا ونواصينا فهدانا به فتابعناه، فقال صلى الله عليه وسلم: "أنت سيف من سيوف الله سلَّه الله على المشركين"، ودعا لي بالنصر فسميت سيف الله بذلك، فأنا من أشد المسلمين على المشركين.
قال: يا خالد أخبرني إلامَ تدعوني؟ قال خالد -رضي الله عنه-: إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، قال: فما منزلة الذي يدخل فيكم ويجيبكم إلى هذا الأمر اليوم؟ قال خالد: منزلتنا واحدة فيما افترض الله علينا، قال: فهل لمن دخل فيكم اليوم يا خالد مثل مالكم من الأجر والذخر؟ قال خالد: نعم وأفضل. قال: وكيف يساويكم وقد سبقتموه؟ قال خالد: إنا دخلنا في هذا الأمر، وبايعنا نبينا وهو حي بين أظهرنا، تأتيه أخبار السماء ويخبرنا بالكتب، ويرينا الآيات، وحق لمن رأى ما رأينا وسمع ما سمعنا أن يسلم ويبايع، وإنكم أنتم لم تروا ما رأينا، ولم تسمعوا ما سمعنا من العجائب والحجج، فمن دخل في هذا الأمر منكم بحقيقة ونية كان أفضل منا.
فقال القائد الرومي: صدقتني، ومال مع خالد وقال: علِّمني الإسلام. فمالَ به خالد إلى خيمته فتوضأ ثم صلى ركعتين، وخرج يقاتل مع المسلمين طلباً للشهادة فقتل رحمه الله وصدق الله فصدقه.
وأظهر خالد في هذه المعركة تكتيكات جديدة، فقسم جيشه فرقًا أو كتائب كل كتيبة ألف رجل يقودها بطل من أبطال المسلمين وفي أول المعركة أخذ بخطة الدفاع والقتال بالمشاة وحدهم حتى تنهك قوى الجيش الرومي، ثم يقتحم بعد ذلك ويهجم عليهم بالفرسان، وفي الجزء الثاني من المعركة فاجأ جيش الروم بضربة أحدثت خسارة أثرت على معنوياتهم حيث قُتل قائدهم وانهارت قواهم وانتهت المعركة باستشهاد ثلاثة آلاف من المسلمين وقتل ما يقارب مائة ألف من الروم وبانتهاء المعركة تسقط الإمبراطورية الرومانية إلى غير رجعة، ويهرب هرقل ملك الروم ويقول وهو يودع الشام توديعاً نهائياً: "عليك السلام يا سوريا، سلام مودِّع لا يرى أنه يرجع إليك أبدًا، لا يعود روميٌّ إليكِ أبدًا إلا خائفًا"، وقد وقعت معركة اليرموك في شهر رجب سنة 15هـ.
(مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا) [الأحزاب: 22].
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله..
الخطبة الثانية:
الحمد لله صدق وعده ونصر عبده، وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده ..
عباد الله: ومما حدث في أثناء هذه المعركة موت خليفة المسلمين أبي بكر، وجاءت رسالة من الخليفة الجديد عمر بن الخطاب إلى أبى عبيدة ليخبره فيها بموت أبي بكر، ويأمره فيها بأن يتولى القيادة من جديد.
قدم البريد من المدينة، فأخذ خالد الكتاب وخبَّأه وحرص على عدم إشاعة خبر وفاة أمير المؤمنين أبي بكر الصديق؛ مخافةَ أن تتزعزع معنويات الجيش الإسلامي ويتقهقروا أثناء القتال.
ولما انتهت المعركة جاء خالد ليعلن مضمون الكتاب على الملأ، ويضع نفسه جندياً مطيعاً للقائد الجديد وكانت رؤية عمر بن الخطاب في تغيير القيادة بسبب تَعلُّق المسلمين بشخصية خالد بن الوليد -رضي الله عنه-، فخشي افتتانهم به، فخالد لم يدخل معركة إلا وانتصر فيها، لذلك فقد قال عمر -رضي الله عنه-: "إني لم أعزل خالداً عن سُخطة ولا خيانة، ولكن الناس فُتنوا به، فأحببت أن يعلموا أن الله هو الصانع".
رجل عظيم لا يريد منصباً سياسياً، ولا صخباً إعلامياً إنما يريد رضا رب البرية أينما يكون موقعه قائداً أو جندياً فهو في سبيل الله، وهكذا استمر خالد جندياً في صفوف المسلمين إلى آخر حياته.
وفي الثامن عشر من رمضان سنة 21هـ في مدينة حمص بسوريا يترجل الفارس عن فرسه وينتقل سيف الله المسلول إلى جوار ربه في شوقٍ للقاء الأحبة محمدٍ وصحبه، وها هو على فراش الموت بعيداً عن ساحات الوغى وميادين البطولة, يقول متألماً وقد كان يرجو الشهادة في المعركة: "لقد شهدت مائة زحف أو نحوها، وما في بدني موضع شبرٍ إلا وفيه ضربة أو طعنة أو رمية، وها أنا أموت على فراشي، فلا نامت أعين الجبناء".
لم يقدِّر رب الأرض والسماء لخالد أن يموت في الميدان؛ لكي يعلم الجبناء الذين يحرصون على الحياة أن الأجل بيد الله. ويموت بطل الإسلام وقد جعل فرسه وسلاحه في سبيل الله.
فَلِسِيرتك المجد يا أبا سليمان, ولذكراك الخلد يا خالد, ولله در عمر بن الخطاب الذي قال حينما سمع بموت خالد: "رحم الله أبا سليمان، ما عند الله خيرٌ له مما كان فيه، لقد مات سعيدًا، وعاش حميدًا"، وحينما قِيلَ لَعمر: هَذِهِ نِسْوَةُ بَنِي الْمُغِيرَةِ يَبْكِينَ عَلَى خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، قَالَ عُمَرُ: "وَمَا عَلَى نِسَاءِ قُرَيْشٍ أَنْ يُهْرِقْنَ مِنْ دُمُوعِ أَعْيُنِهِنَّ فعلى مثل أبي سليمان تبكي البواكي".
فرضي الله عن القائد الفذّ, والمحارب البطل, وفارس الإسلام وسيف الله المسلول خالد بن الوليد، ورضي الله عن أصحاب محمد أجمعين وجمعنا الله بهم (فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ)، (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [الحشر: 9- 10].
وصلوا على رسول الله...
مقتطفات من سيرة خالد بن الوليد - 1
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم