عناصر الخطبة
1/ فضل القرآن على سائر الكلام 2/ ضرورة العودة إلى أخلاق القرآن وآدابه 3/ مقصد عظيم من أعظم مقاصِد الشريعة الغرَّاء 4/ وجوب الأدب مع النبي - صلى الله عليه وسلم - 5/ من أعظم الآداب التي جاءَت بها سُورةُ الحُجرات 6/ ضرورة الابتعاد عن سيئ الأخلاق 7/ إدانة التفجيرات والأحداث الأخيرة.اقتباس
وفي عصرِنا غدَا فِئامٌ من الناس - وخصوصًا مع زمجَرة الإعلام الحديث - أصبَحوا لا يسكُنُ لهم قرار، أو هدأَةٌ واصطِبار إلا بتمزيق الأعراض بصواعِق الألفاظ، وهمَزات الألحاظ، واستِهامها كالأغراض، وبِئسَت الغايات والأغراض! يكتبون الزُّور وبه تجري أقلامُهم، ويكتُمون الحقَّ وبه تأمرُهم أحلامُهم، يلمِزون الشرفاءَ الأطهار، ويسخَرون من الصالِحين الأبرار، في تفتيتٍ لوحدة الأمة الإسلامية، والأُخوَّة الإيمانيَّة، واللُّحمة الوطنية.
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، نزَّل الفُرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرًا، نحمدُه - سبحانه - جعلَ الحمدَ فاتحةَ أسراره، وخاتمةَ تصاريفِه وأقدارِه، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له جعلَ القرآنَ تبيانًا لكل شيءٍ وهُدًى ورحمةً وبُشرى للمُسلمين، وأشهدُ أن نبيَّنا وسيِّدنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه أيَّده ربُّه بكتابِه المُبين الذي ظهرَت مُعجِزاتُه، وبهرَت الخلقَ آياتُه، وقهرَت ذوي العنادِ بيِّناتُه، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبِه الذين نُصِرَت بهم ألويةُ الحق وراياتُه.
صلاةً تندَى طيوبًا ومِسكًا سُحبُها دِيَمًا *** تُمنَى بها للمُنَى غاياتُها شُكرًا
تُضاحِكُ الزهرَ مسرورًا أسِرَّتُها *** مُعرَّفًا عرْفُها الآصالَ والبُكَرَا
أما بعد:
فاتقوا الله - عباد الله -؛ فالتقوى خيرُ نِبراس، وأعظمُ مِعيارٍ ومِقياس، (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) [الحجرات: 13].
واعلَموا أن خيرَ الحديث كتابُ الله، فهو الهُدى والنور، (قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [المائدة: 15، 16].
معاشر المسلمين:
إن أولَى ما أُعمِلَت فيه القرائِح، وعلِقَت به الأفكارُ اللواقِح: الكشفُ عن حقائق التنزيل، وسَبرُ أغوار التأويل، وتبيُّن أسرار الكتاب الجليل. فيه تقومُ المعالِم، وتثبُت الدعائِم، وهو العصمةُ الواقِية، والنعمةُ الباقِية، والحُجَّةُ البالِغة، والدلالةُ الدامِغة. وهو شفاءُ الصدور، والحكَمُ العدلُ عند مُشتبِهات الأمور.
فسبحانَ من سلَكَه ينابيعَ في القلوب، وصرَّفه بأبدعِ معنًى وأعذَب أسلوب، لا يستقصِي معانِيَه فهمُ الخلق، ولا يُحيطُ بوصفِه على الإطلاق ذو اللسان الطَّلْق. فالسعيدُ من صرفَ همَّتَه إليه، ووقفَ فِكرَه وعزمَه عليه، والمُوفَّقُ من وفَّقه الله لتدبُّره، واصطفاهُ للتذكير به وتذكُّره، فهو يرتَعُ منه في رِياض، وينهَلُ منه في حِياض.
أندَى على الأكبادِ من قَطر النَّدى *** وألذُّ في الأجفانِ من سِنَةِ الكرَى
يملأُ القلوبَ بِشرًا، ويبعثُ القرائِح شذًى ونشرًا، يُحيِي القلوبَ بأوراده، ولهذا سمَّاه الله روحًا، فقال: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا) [الشورى: 52].
أمة القرآن:
إن فضلَ القرآن على سائر الكلام كفضلِ الله على خلقِه.
يقول الإمام الشاطبيُّ - رحمه الله -: "والقرآنُ الكريمُ هو كليةُ الشريعة، وعُمدةُ الملَّة، وينبُوع الحكمة، وآيةُ الرسالة، ونورُ الأبصار والبصائِر، فلا طريقَ إلى الله سِواه، ولا نجاةَ بغيره. فمن رامَ الاطلاعَ على كليات الشريعة، وطمِع في إدراك مقاصِدها، واللَّحاق بأهلها، لزِمَه ضرورةً أن يتَّخِذَه سميرَه وأنيسَه، وأن يجعلَه قعيدَه وجليسَه، على مرِّ الأيام والليالي نظرًا وعملاً".
الله أكبر.
الله أكبر إن دينَ محمدٍ *** وكتابَه أقوَى وأقومُ قِيلا
طلعَت به شمسُ الهداية للورَى *** وأبالَها وصفُ الكمال أُفولا
لا تذكروا الكُتْبَ السوالِفَ عنده *** طلعَ الصباحُ فأطفِؤُوا القِنديلا
أمة الإسلام:
وفي هذا العصر الزاخِر بالصراعات المادية والاجتماعية، والظواهِر السلوكية والأخلاقية، والمفاهِيم المُنتكِسة حِيالَ الشريعة الربانيَّة، لا بُدَّ من الفَيئَة إلى أخلاق القرآن وآدابه؛ ففيه حقائِقُ التربية الفاضِلة، وأُسس المدنية الخالِدة. ولذلك كانت سُنَّةُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - كثرةَ موعِظة الناس بالقرآن، بل كان كثيرًا ما يخطُبُ الناسَ به، (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ) [ق: 45]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) [يونس: 57].
وإن كتابَ الله أوثَقُ شافِعٍ *** وأغنَى غناءً واهبًا مُتفضِّلاً
وخيرُ جليسٍ لا يُملُّ حديثُه *** وتردادُه يزدادُ فيه تجمُّلا
فما أجملَ أن نعيشَ أفضلَ لحظاتٍ في عصر التحديات، في رِحابِ آياتٍ بيِّنات، نستلهِمُ النفحَات والعِظات، ونجنِي أطايِبَ الثمرات، من سُورة الآداب والأخلاق "سورة الحجرات"، التي تُؤسِّسُ للأدب مع الله تعالى، ومع رسولِه - صلى الله عليه وسلم -، بإدراك العبد حدوده، فيلزمُها ولا يتجاوزُها.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [الحجرات: 1]، وهذا مقصِدٌ من أعظم مقاصِد الشريعة الغرَّاء: إخراجُ العبد من داعِي الهوَى المُطاع إلى تحقيق العبودية وتمام الاتباع؛ إذ المقصِد الشرعيُّ من وضع الشريعة: إخراجُ المُكلَّف عن داعِية هواه، حتى يكون عبدًا لله اختيارًا كما هو عبدٌ لله اضطرارًا.
وما الحضارةُ الإسلاميةُ القَعساء التي وطَّدَتها شريعتُنا الغرَّاء، وسعِدَت بها الدنيا عبر التأريخ، إلا صُوَّةٌ وقَّادةٌ من التِزام أوامر الله تعالى وهديِ نبيِّه - صلى الله عليه وسلم -.
وإذا كانت المآسِي تلفَحُ وجهَ الأمة في كل شِبرٍ وواد، وفي مُختلِف الأصقاع والوِهاد، فليس أرجَى ولا أنجَى من تلمُّس العقيدة والمقاصِد الشرعية، واتِّباع السُّنَّة المُحمديَّة، فهما مناطُ العزِّ والنصر، وأجلَى لُغات العصر؛ حيث يُؤصِّلان للأمة العلوَّ والتمكين، واستِرداد سابِق عزِّها وتليدِ مجدِها.
أمة الفُرقان:
وإذا كانت سُورةُ الحُجرات قد بدأَت بتأصيل هذا الأساس المَكين من العبوديَّة، فإنها توَّجَت هذا الأصلَ بأدبٍ رفيعٍ، وخُلُقٍ سامٍ مع نبيِّ الإنسانية - عليه الصلاة والسلام -، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ) [الحجرات: 2].
وقد أجمعَ أهلُ العلم على أن الأدبَ مع النبي - صلى الله عليه وسلم - حالَ موته كالأدب معه في حياته.
يقول الإمام ابن مُفلحٍ - رحمه الله -: "ولا تُرفعُ الأصواتُ عند حُجرته - عليه الصلاة والسلام -، كما لا تُرفعُ فوق صوتِه؛ لأنه في التوقير والحُرمة كحياته".
وقال الإمام مالكٌ - رحمه الله - لمن رفعَ صوتَه في مسجد رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا هذا! لا ترفَع صوتَك في مسجِد رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فإن الله - عز وجل - أدَّب قومًا فقال: (لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ)، ومدحَ قومًا فقال: (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) [الحجرات: 3]، وذمَّ قومًا فقال: (إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ) [الحجرات: 4]، وإن حُرمتَه ميتًا كحُرمته حيًّا".
إخوة الإيمان:
وإن من أعظم الآداب التي جاءَت بها سُورةُ الحُجرات، والتي هي بحقٍّ منهجٌ لاستِقامة الأفراد والمُجتمعات: التثبُّت وحُسن الظنِّ بالمُسلمين، في قولِ الحقِّ - سبحانه -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) [الحجرات: 6].
وقد قال نبيُّنا - صلى الله عليه وسلم -: «إياكم والظنّ؛ فإن الظنَّ أكذبُ الحديث» (متفق عليه).
وإن في غَمرة الأحداث المُتسارِعة الدامِية، والأوقات المُستعِرة الحامِية، تُحاولُ بعضُ النفوس الضعيفة شرخَ تلاحُم الأمة، وثَلْم وحدتها، وتُلبِّسُ على النُّزهاء البُرآء زعومًا ودعاوَى، بشائِعاتٍ باطِلة، وأكاذِيبَ مُلفَّقة، يفتَرون على الناس الكذِب، ويُقبِّحون كل رائِقٍ عذِب، وتناسَوا قولَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: «المُسلمُ من سلِمَ المُسلمون من لسانِه ويدِه» (متفق عليه).
وكلما اتَّسعت رُقعةُ الشائِعات الباطِلات، والأراجِيف الذائِعات التي يُروِّجُها ذو قِحةٍ وغِلالةٍ صفيقة، مُستغلِّين تِقانات العصر فيما هو أطَمُّ، فكان إثمُه عند الله أعظَم.
فعلى المُسلم العَفِّ أمام هذه الإفرازات النفسية الداكِنة، أن يتمثَّل قولَ الحقِّ - جل جلالُه -: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) [الحجرات: 10]. تحقيقًا للأُخوَّة الإسلامية، وسعيًا في دُروب الصُّلح والإصلاح بين المُسلمين، لاسيَّما عند الأزمَات، للبُعد عن الصراعات، ومُجافاة التحديات.
كما يتمثَّلُوا قولَه - سبحانه -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا) [الحجرات: 12]، وقولَه - جل وعلا -: (وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ) [النور: 16].
عن حمَّاد بن زيدٍ - رحمه الله - قال: "بلغَني أن محمدَ بن واسِع كان في مجلسٍ فتكلَّم رجلٌ فأكثرَ الكلام، فقال محمد: ما على أحدِكم لو سكَت، فتنقَّى وتوقَّى".
وقال الإمام أحمد - رحمه الله -: "ما رأيتُ أحدًا تكلَّم في الناس إلا سقَط".
وقال شيخُ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "والكلامُ في الناس يجبُ أن يكون بعلمٍ وعدلٍ، لا بجهلٍ وظُلم، والوقيعةُ في أعراض الناس أشدُّ من سرِقة أموالهم".
أمة الإيمان:
وفي عصر الفضائيات، وشبكات المعلومات، ووسائل التواصُل الاجتماعيِّ، يجبُ أن نكون أكثرَ ثقة، فلا نُعطِي آذانًا للمهازيل الأغرار، وخفافِيش الظلام الذين ينشرُون الإفكَ والبُهتان، والأقاويل المُفسِدة بين المُسلمين، بالتدابُر والهُجران والغِيبة والنَّميمة، وقد شبَّه المولَى المُغتابَ والنمَّام بوصفٍ تقشعرُّ منه الأبدان، فقال - سبحانه -: (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ) [الحجرات: 12].
كما يجبُ ألا نُجارِيَهم في سُخريتهم من أهل الفضل والإيمان: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ) [الحجرات: 11].
وفي عصرِنا غدَا فِئامٌ من الناس - وخصوصًا مع زمجَرة الإعلام الحديث - أصبَحوا لا يسكُنُ لهم قرار، أو هدأَةٌ واصطِبار إلا بتمزيق الأعراض بصواعِق الألفاظ، وهمَزات الألحاظ، واستِهامها كالأغراض، وبِئسَت الغايات والأغراض!
يكتبون الزُّور وبه تجري أقلامُهم، ويكتُمون الحقَّ وبه تأمرُهم أحلامُهم، يلمِزون الشرفاءَ الأطهار، ويسخَرون من الصالِحين الأبرار، في تفتيتٍ لوحدة الأمة الإسلامية، والأُخوَّة الإيمانيَّة، واللُّحمة الوطنية.
فاحفَظ لسانَك من طعنٍ على أحدٍ *** من العبادِ ومن نقلٍ ومن كذِبِ
وانصِف ولا تنتصِف منهم وناصِحهم *** وقُم عليهم بحقِّ الله وانتدِبِ
نسألُ اللهَ الهُدى والتوفيقَ والرشاد، وأن يعصِم من غُلوائِهم البلاد، ويحفظَ العباد. هذا الرجاء وذاك الأمل، واللهَ نرجُو التوفيقَ لصادق القول وخالِص العمل.
باركَ الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفَعنا بما فيهما من الآيات والذكرِ والحكمة، أقولُ قولي هذا، وأستغفرُ الله العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولكافة المُسلمين والمُسلمات من جميع الذنوب والخطيئات، فاستغفِرُوه وتوبُوا إليه، إن ربي لغفورٌ رحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله وليِّ المتقين، أحمدُه تعالى حمدًا لا يتناهَى ولا يَبين، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُ الله ورسولُه أُسوةُ المُتزكِّين، وقُدوةُ الطاهِرين، وعلى آله الأصفياء الميَامين، وصحبِه البرَرة السابقين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتَّقوا الله - عباد الله -، واحذَروا اقتِراف الشُّرور والأكدار، واسعَوا لكل صلاحٍ وإعمار، تُدرِكوا - بإذن الله - أسمَى المنازِل والأقدار.
إخوة الإيمان:
وقد ختمَ الله - سبحانه - آيةَ التحذير من السخرية بقوله: (وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [الحجرات: 11].
فإذا كان هذا في مُجرد السخرية .. فكيف بسفك الدم الحرام، والعتوِّ في الأرض والإجرام، والتطاوُل على بيوت الله، والإضرار بالمساجِد ودُور العبادة وانتِهاك حُرماتها، وترويع الساجِدين الآمِنين؟! (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [البقرة: 114].
إنها أضاليلُ أناسٍ تهصِرُ مِساكَ المُجتمعات، وتصهرُ مِلاكَ القِيم الرضيَّات، بمسالِك نافُوقاء مُعوَجَّة، ورعونات سَحماء فجَّة، يُخالِفون صريحَ قولِ ربِّ العزَّة: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا) [الحجرات: 13].
أي: ليعرِف بعضُكم بعضًا، لا لتتنافَروا وتتناحَروا وتتباغَضُوا وتتشاحَنوا وتتقاتَلوا وتتصارَعوا.
وهنا يُؤكَّدُ على أنه لا علاقةَ للإسلام بالإرهاب بكل صُوره وأنماطِه المُعاصِرة؛ إذ الإرهابُ لا دينَ ولا وطنَ ولا جنسيَّةَ له، والإسلامُ دينُ الرِّفق والرحمة واليُسر والحوار، والتعايُش والتسامُح والسلام.
وإن التفجيرات والاعتِداءات والهجَمات والأعمال الإرهابية الدموية لا يُقرُّها دينٌ ولا عقلٌ ولا نظرٌ سديد، وهي تتنافَى مع كل الشرائع والأعراف والمواثِيق، والإسلامُ بريءٌ من هذه التصرُّفات الشائِنة التي لا تتماشَى مع أصوله العادِلة، وقِيمِه الإنسانيَّة السامِية التي جاءَت رحمةً للعالمين.
والدعوةُ مُوجَّهةٌ لتكثيف الجهود في مُحاربة الإرهاب بكل صُوره وأشكاله، ومُكافحَته بحزمٍ وعزمٍ وقُوَّة، فِكرًا وتمويلاً ومُمارسة، وتجفيف منابِعِه، واستِئصالِ شأَفَته، لإحلال الأمن والسِّلم العالميَّيْن.
وهنا يُحذَّرُ من إلصاق تُهمة الإرهاب بالإسلام وأبنائِه المُتَّصفين بالاعتِدال والوسطيَّة، ولا عِبرةَ بالتصرُّفات الشاذَّة، والمُمارسة الخاطِئة.
وأخطرُ من ذلك: الإرهابُ الصهيونيُّ ضدَّ المسجد الأقصَى، وإرهابُ إلقاء براميل التفجير والتدمير من طاغية الشام ضدَّ إخواننا في سُوريا.
فالإسلامُ بتعاليمه إنما يُتمِّمُ نُبلَ الأخلاق والمكارِم تتميمًا، ويعضِدُ الأخُوَّة والتآلُف أغرَّ وسيمًا، ونشرُ التسامُح بين أبناء المُجتمع جاء مُؤكَّدًا فيه لَزيمًا، والحبُّ الربانيُّ على صفحات القلوب بين تعاليمه أضحَى مُدبَّجًا رقيمًا.
أمة القُرآن:
وتُختتمُ السورة بذكر صفات المُؤمنين، ثم النهي عن منِّ المنَّانين، فالمنُّ لله وحده، كما قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - للأنصار يوم حُنين: «ألم أجِدكم ضُلاَّلاً فهداكم الله بي؟! وكنتم مُتفرِّقين فألَّفكم الله بي؟! وعالةً فأغناكُم الله بي؟!»، كلما قال شيئًا قالوا: "الله ورسولُه أمنُّ" (رواه البخاري ومسلم).
(بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحجرات: 17، 18].
ألا فاتقوا الله - عباد الله -، وتدبَّروا آيات كتابِه، وطبِّقوها في حياتكم واقِعًا ملمُوسًا، مُشاهَدًا محسُوسًا؛ تُحقِّقوا خيرَي الدنيا والآخرة.
ثم صلُّوا وسلِّموا على النبي المُصطفى الكريم، ذي القدر الجليل العظيم، كما أمرَكم المولى الرحيم في التنزيل الحكيم، فقال - جل جلالُه -: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
اللهم
فاجعَل صلاتَك والسلامَ مُضاعفًا *** لنبيِّك المُختار خيرِ مُشفَّعِ
المُصطفَى الهادِي إليك مُحمدٍ *** والآلِ والأصحابِ ثم التابِعِ
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشركَ والمُشركين، ودمِّر أعداءَ الدين، واجعل هذا البلد آمنًا مُطمئنًّا، وسائر بلاد المسلمين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا ووُلاةَ أمورنا، وأيِّد بالحقِّ إمامَنا ووليَ أمرنا، اللهم وفِّقه لهُداك، واجعَل عملَه في رِضاك، وهيِّئ له البِطانةَ الصالِحة التي تدُلُّه على الخير وتُعينُه عليه، اللهم وفِّقه ونائبَيه وأعوانَه إلى ما فيه عزُّ الإسلام وصلاحُ المسلمين، وإلى ما فيه الخيرُ للبلاد والعباد.
اللهم وفِّق جميعَ وُلاة المسلمين لاتباع كتابِك وسُنَّة نبيِّك - صلى الله عليه وسلم -، اللهم اجعَلهم رحمةً على عبادِك المُؤمنين.
اللهم ادفَع عنَّا الغلا والوبَا، والرِّبا والزِّنا، والزلازِل والمِحَن، وسُوءَ الفتن ما ظهر منها وما بطَن.
اللهم كُن لإخواننا المُسلمين والمُستضعَفين في دينهم في كل مكان.
اللهم أنقِذ المسجدَ الأقصَى، اللهم أنقِذ المسجدَ الأقصَى من عُدوان الصهايِنة المُعتَدين يا قويُّ يا عزيز، اللهم اجعَله شامِخًا عزيزًا إلى يوم الدين.
اللهم كُن لإخواننا في فلسطين، وفي سوريا، اللهم فرِّج عنهم يا ذا الجلال والإكرام، اللهم فرِّج عنهم عاجلاً غير آجِل يا ذا الجلال والإكرام، اللهم أصلِح أحوال إخواننا في اليمن، وفي بُورما، وفي أفريقيا الوسطى، وفي كل مكانٍ يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغنيُّ ونحن الفُقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعَلنا من القانِطين، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا غيثًا هنيئًا مريئًا مريعًا غدقًا سحًّا طبقًا عاجلاً غيرَ آجل، عاجلاً غيرَ رائِث يا غفورُ يا رحيم.
اللهم اسقِنا سُقيا رحمة، لا سُقيا عذابٍ ولا بلاءٍ ولا هدمٍ ولا غرق.
اللهم إنا خلقٌ من خلقِك، فلا تمنَع عنَّا ذنوبِنا فضلَك، اللهم إنا نستغفرُك إنك كنتَ غفَّارًا، فأرسِل السماءَ علينا مِدرارًا. (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [البقرة: 201].
ربَّنا تقبَّل منا إنك أنت السميعُ العليم، وتُب علينا إنك أنت التوابُ الرحيم، واغفِر لنا ولوالدِينا ووالدِيهم وجميع المُسلمين والمُسلِمات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميعٌ قريبٌ مُجيبُ الدعوات.
وآخرُ دعوانا أن الحمدُ لله رب العالمين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم