دروس وعبر من حادثة الهجرة النبوية

يوسف بن جمعة سلامة

2022-10-11 - 1444/03/15
التصنيفات: السيرة النبوية
عناصر الخطبة
1/بعض الدروس والعبر من الهجرة النبوية 2/المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار 3/التكافل الاجتماعي في الإسلام 4/وجوب إخراج الزكاة ومساعدة الفقراء والمحتاجين 5/أهمية التفاؤل في الأوقات الحرجة 6/حب الأوطان من الإيمان 7/محاولات تهويد مدينة القدس وتغيير معالمها التاريخية والأثرية 8/واجبنا الأمة الإسلامية نحو الشعب الفلسطيني

اقتباس

أيها المسلمون: لقد كانت الهجرة من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة تمحيصاً للمؤمنين، واختباراً صعباً اجتازوه بنجاح كبير، حيث فارقوا أرضهم وديارهم وأهليهم استجابة لأمر الله، وإعلاء كلمته. كما كانت الهجرة إلى المدينة المنورة إيذاناً بفجر جديد في تاريخ الدعوة، حيث أصبح للإسلام دولة عزيزة الجانب. فقد كانوا في مكة أفراداً، فصاروا في المدينة دولة، وكانوا في مكة مضطهدين، فصاروا في المدينة مكرمين. وكانوا في...

 

الخطبة الأولى:

 

أيها المسلمون: يقول الله -تعالى- في كتابه الكريم: (إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [التوبة: 40].

 

في مستهل كل عام هجري تطالعنا ذكرى هجرة الرسول محمد -صلى الله عليه وسلم-، فتشرق في نفوس الملايين المسلمة شمس الإيمان من جديد، وتتراءى لهم صور الكفاح الأغرّ في سبيل الحق والعقيدة.

 

وكل خير أصابه المسلمون، وكل رشاد ظفرت به البشرية؛ منذ هاجرت رسالة التوحيد إلى يثرب، إنما كانت ثمرة طيبة من ثمار هذه الهجرة المباركة، فبعد أن كان المسلمون يعيشون في المجتمع المكي تحت صور شتى من الإرهاب والتعذيب صار له وطن ودولة وكيان.

 

أيها المسلمون: لقد كانت الهجرة من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة تمحيصاً للمؤمنين، واختباراً صعباً

اجتازوه بنجاح كبير، حيث فارقوا أرضهم وديارهم وأهليهم استجابة لأمر الله، وإعلاء كلمته.

 

كما كانت الهجرة إلى المدينة المنورة إيذاناً بفجر جديد في تاريخ الدعوة، حيث أصبح للإسلام دولة عزيزة الجانب.

 

فقد كانوا في مكة أفراداً، فصاروا في المدينة دولة، وكانوا في مكة مضطهدين، فصاروا في المدينة مكرمين.

 

وكانوا في مكة فاقدي الأمن، فصاروا في المدينة آمنين.

 

وكانوا في مكة لا يردون عن أنفسهم أذى، فصاروا في المدينة يكيدون من كادهم، ويرهبون من يعاديهم.

 

كانوا في مكة يعبدون الله سراً، فصاروا في المدينة يرفعون الأذان عالياً مدوياً خمس مرات في اليوم لا يخافون إلا الله -عز وجل-.

 

هذه هي هجرتهم، تحوّل عظيم صاعد في سماء الدعوة، وعند دراستنا للسيرة النبوية، نجد أن الهجرة كانت رحمة من الله لعباده، حيث اشتملت على دروس كثيرة عميقة الدلالة دقيقة المغزى، بعيدة الأثر، ومن واجب الأمة الإسلامية الاستفادة من هذه الدروس عن طريق تذكرها والتأثر بها، وخير احتفال بذكرى الهجرة أن نعود إلى هذه القيم والتي تتطلب منا أن نرتفع بها من المدارسة إلى الممارسة، ونقف اليوم عند بعض الدروس ومنها درس المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار.

 

أيها المسلمون: إن الإخاء بين المهاجرين والأنصار أحد الأسس الهامة التي قامت عليها الدولة الإسلامية، وهو المثال الأول في التاريخ الإسلامي، الذي جمع بين قبائل شتى من مكة المكرمة والمدينة المنورة، وقد أثنى القرآن الكريم على الطرفين اللذين تكوَّن منهم المجتمع الإسلامي أطيب الثناء وأعطره؛ كما في قوله تعالى: (لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[الحشر: 8-9].

 

وما أعظم الحدث الذي تتلاقى فيه كرام الفضائل، مهاجر يعلن للدنيا عقيدته الصادقة، ويبتغي فضل الله -عز وجل- ورضوانه، وينصر الله ورسوله، وأنصاريّ يستقبل بالحب والترحاب أخاه في الإسلام، فيأوي الضيف، ويؤمَنه من خوف، ويشاركه في كل شيء؛ كما جاء في الحديث الذي يرويه إبراهيم بن سعد عن أبيه عن جده قال: "لما قدموا المدينة آخى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين عبد الرحمن وسعد بن الربيع، قال لعبد الرحمن: إني أكثر الأنصار مالاً، فأقسم مالي نصفين، ولي امرأتان، فانظر أعجبَهما إليك فَسمِّها لي أطلَّقها، فإذا انقضتْ عدَّتها فتزوجها، قال: بارك الله لك في أهلك ومالك، أين سوقكم؟ فدلوه على سوق بني قينُقاع، فما انقلب إلا ومعه فضلٌ من أقط وسمن".

 

لقد أسس الإسلام مبدأ التكافل الاجتماعي بين أبنائه، فلم يعرف تاريخ البشرية حادثاً جماعياً كحادث استقبال الأنصار للمهاجرين بهذا الحب الكريم وبهذا البذل السخي، وبهذه المشاركة الرضية، وبهذا التسابق إلى الإيواء واحتمال الأعباء.

 

أيها المسلمون: لقد أنعم الله -سبحانه وتعالى- علينا في هذه الأيام بنعمة نزول الغيث، حيث أكرمنا الله -سبحانه وتعالى- في هذه الأيام بنزول الغيث: (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ) [الشورى: 28].

 

فقد عمَّ الخير بلادنا المباركة فلسطين -والحمد لله-، فكان غيثا مغيثا، غدقا طبقا بفضل الله -عز وجل-، والجميع الآن في بهجة وسرور ويحمدون الله -عز وجل- على نعمه التي لا تعد ولا تحصي.

 

لذلك يجب علينا جميعاً: أن نشكر الله -سبحانه وتعالى- على ما أولانا من فضله وإنعامه، فقد وعد الله الشاكرين على شكرهم حيث قال سبحانه تعالى: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) [إبراهيم: 7].

 

إن الواجب على الأغنياء: إخراج زكاة أموالهم، والتصدق على الفقراء والمحتاجين.

 

ومن أشكال الصدقات والبر خصوصاً في مثل هذه الأيام: مساعدة الفقراء والمعوزين، مساعدتهم بشراء الملابس الشتوية لهم، مساعدة الضعفاء والفقراء بتجهيز بيوتهم وصيانتها من برد الشتاء، وإدخال السرور على القلوب البائسة بما أفاء الله عليك من النعم، ومساعدة المرضى خصوصاً المزمنين، وتوفير العلاج لهم، وكذلك مساعدة الطلاب الفقراء خصوصاً في رسومهم الجامعية والمدرسية، والله في عون العبد مادام العبد في عون أخيه.

 

أيها المسلمون: إن القنوط واليأس أمر يفتك بالأمم، من هنا حارب الإسلام ذلك وأوجد البديل، فقد حارب اليأس وأوجد الأمل، وحارب التشاؤم وأوجد التفاؤل.

 

ونحن هنا نذكر مثالاً على تفاؤله صلى الله عليه وسلم، رغم الظروف الصعبة والقاسية التي صاحبت حادثة الهجرة، حيث نتعلم من هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- درساً عظيماً فحينما هاجر عليه الصلاة والسلام وخرج من بلده مع صاحبه أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-، تبعهما أحد فرسان العرب الطامعين في الجائزة التي رصدتها قريش لمن يأتي بمحمد وصاحبه حياً أو ميتاً، وهي مائة ناقة، فصمم "سراقة بن مالك" على الفوز بها، فركب فرسه، وأخذ سلاحه ورمحه، وأسرع حتى أدرك النبي وصاحبه أبا بكر، فعثرت قدم فرسه مرة ومرة ومرة، ثم غاصت أقدام الفرس في الأرض، ثم قال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "عُدْ يا سراقة وإنني أعدك بسواري كسرى"؟ قال له: كسرى بن هرمز؟! قال: "نعم كسرى بن هرمز".

 

سمع الرجل هذا وهو غير مصدق أن هذا المطارد المهاجر يطمع في أن يرث مملكة كسرى وكنوزه، فأخذ هذا الكلام، ودخل بعد ذلك في الإسلام، حتى كان عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، وقد فتحت مملكة كسرى وفتح إيوان كسرى في المدائن، وجاءت كنوز كسرى ومنها سواراه، فتذكر عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- بشرى النبي -صلى الله عليه وسلم- لسراقة، فنادى في الناس: أين سراقة بن مالك؟ فجاء من وسط الجماهير وهو يقول: ها أنا يا أمير المؤمنين، قال: أتذكر يوم قال لك النبي -صلى الله عليه وسلم- كذا وكذا، قال: نعم أذكره ولا أنساه، فقال له: تعالى ألبسك سوارى كسرى، وألبسه السوارين، وقال له: الحمد لله الذي أذل بالشرك كسرى وأعز بالإسلام سراقة بن مالك، ما الذي دفع الرسول -عليه السلام- أن يقول ذلك لسراقة؟.

 

 إنه التفاؤل بما عند الله -عز وجل-، وهكذا كان أمل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو مطارد من بلده، كان يعتقد أنه سينتصر، وأن دينه سيظهر، وأن الله ناصر عبده، بفضله وكرمه.

 

ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فيا فوز المستغفرين، استغفروا الله...

 

 

الخطبة الثانية:

 

أيها المسلمون: لقد سعد شعبنا الفلسطيني بالتقاء الأخوة في حركتي فتح وحماس بالقاهرة أمس الخميس، وكان اللقاء ناجحاً -والحمد لله-، حيث أسس لصفحة جديدة بين الأشقاء.

 

كما وضع أسساً جديدة للشراكة بين الأخوة في جميع المجالات.

 

فشعبنا الفلسطيني أحوج ما يكون إلى الوحدة والمحبة، والتكاتف والتعاضد، ورص الصفوف، وجمع الشمل، وتوحيد الكلمة، خصوصاً في هذه الظروف الصعبة التي يمر بها شعبنا الفلسطيني، وفي هذا الوقت العصيب من حياة شعبنا، وكلنا ثقة وأمل في الله -سبحانه وتعالى- بأن يجمع الله شمل شعبنا ويوفق قادته لرص الصفوف، وإنهاء الانقسام والتعالي على الجراح، وفتح صفحة جديدة من الاحترام والتقدير، كي نعود كما كنّا دائماً على قلب رجل واحد، ما أحوج أبناء شعبنا إلى المحبة والتسامح، وطيّ صفحات الماضي المؤلمة، وأن نفتح جميعاً صفحة جديدة من الأخوة والمحبة والإخاء.

 

أيها المسلمون: لقد علّم رسولنا -صلى الله عليه وسلم- البشرية كلها حب الأوطان، فعندما هاجر -صلى الله عليه وسلم- من مكة المكرمة إلى يثرب، علّم الدنيا حب الأوطان والأماكن المباركة، فعندما ألقى -صلى الله عليه وسلم- نظرة الوداع على مكة المكرمة وهو مهاجر منها، وقال كلمته الخالدة: "والله إني لأعلم أنك أحب بلاد الله إلى الله، وأحب بلاد الله إليّ، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت".

 

أجل فما من الوطن بُد، وما للإنسان عنه من منصرف أو غنى، في ظله يأتلف الناس، وعلى أرضه يعيش الفكر، وفي حماه تتجمع أسباب الحياة، وما من ريب أن ائتلاف الناس هو الأصل وسيادة العقل فيهم هي الغاية، ووفرة أسباب العيش هو القصد مما يسعون ويكدحون، ولكن الوطن هو المهد الذي يترعرع فيه ذلك كله، كالأرض هي المنبت الذي لا بُدَّ منه للقوت والزرع والثمار.

 

أيها المسلمون: ونحن نتحدث عن الوطن ومكانته، لا بُدَّ لنا أن نتحدث عما يجري في وطننا فلسطين، فقد تناقلت وسائل الإعلام المختلفة قبل أيام القرار الذي أصدرته محكمة الاحتلال الإسرائيلي والمتضمن هدم تلة وجسر باب المغاربة الذي يربط حائط البراق بالمسجد الأقصى المبارك، واستبداله بجسر حديدي خلال شهر، ومن الجدير بالذكر أن سلطات الاحتلال تهدف من وراء هذه الخطوة إلى السيطرة على مداخل المسجد الأقصى المبارك، والسماح لقوات الاحتلال وقطعان المستوطنين باقتحام المسجد الأقصى المبارك في أي وقت دون حسيب ولا رقيب، مما يؤدي إلى مضاعفات خطيرة تمس المصلين والمسجد الأقصى المبارك.

 

إن هذا الاعتداء هو اعتداء إجرامي جديد على تاريخ وتراث وحضارة مدينة القدس والمسجد الأقصى المبارك، حيث يهدف إلى طمس المعالم الأثرية والتراثية والحضارية الإسلامية في محيط المسجد الأقصى المبارك، من أجل إضفاء الطابع اليهودي عليها، وكذلك إلي توسعة ساحة المغاربة الملاصقة لحائط البراق.

 

أيها المسلمون: إننا نعلن استنكارنا لهذه الإجراءات الاحتلالية، كما نؤكد على أن القرار الذي أصدرته محكمة الاحتلال الإسرائيلي والمتضمن هدم تلة باب المغاربة وإقامة الجسر الحديدي هو قرار باطل؛ لأن هذه التلة تُعدّ من مرافق المسجد الأقصى المبارك.

 

كما أن هذه المنطقة كلها وقف إسلامي.

 

كما نؤكد بأن المسجد الأقصى المبارك مسجد إسلامي، لا تنازل عنه، ولا عن أية ذرة من تراب وطننا الغالي فلسطين، وبهذه المناسبة فإننا نحيي صمود إخواننا المقدسيين وثباتهم أمام كل المؤامرات التي تهدف إلى طردهم من مدينتهم المقدسة، ونحيي كل المسيرات المليونية التي ستشهدها بعض العواصم العربية بعد صلاة الجمعة، حيث تبرهن هذه المسيرات على مدى حب أبناء أمتنا العربية والإسلامية للأقصى والقدس وفلسطين، ورفضها لكل المخططات الإجرامية الإسرائيلية.

 

وندعو الأمتين العربية والإسلامية إلى ضرورة دعم المقدسيين كي يبقوا مرابطين فوق أرضهم المباركة.

 

ونناشد أبناء أمتنا العربية والإسلامية إلى ضرورة رص الصفوف، وجمع الشمل، وتوحيد الكلمة، فالقدس لم تُحرر عبر التاريخ إلا بتمسكنا بعقيدتنا، وبوحدتنا ورص صفوفنا.

 

والله نسأل أن يحفظ الأقصى والقدس وفلسطين وسائر بلاد العرب والمسلمين من كل سوء.

 

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

 

 

 

المرفقات

وعبر من حادثة الهجرة النبوية

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات