رؤية الله ألذ النعيم

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/ الحذر من الغفلة و المسارعة إلى الجنان 2/من نعيم أهل الجنة 3/أعظم نعيم أهل الجنة 4/أطيب ما في الدنيا الشوق إلى لقاء الله 5/إثبات رؤية الله في الآخرة 6/كيف نظفر بهذه الكرامة   7/المحرومون من النظر إلى وجه الله الكريم 8/أبيات في الرؤية من نونية ابن القيم

اقتباس

إن رؤية الله -تبارك وتعالى- بالأبصار جهرة كما يرى القمر ليلة البدر، وتجليه ضاحكاً لهم، هو أفضل نعيم أهل الجنة وأشرفه، وأجله قدراً، وأعلاه شرفاً، وأقره عيناً، وهو الغاية التي شمر إليها المشمرون، وتنافس فيها المتنافسون، وتسابق إليها المتسابقون، ولمثلها فليعمل العاملون، إذا ناله أهل الجنة نسوا ما هم فيه من النعيم...

 

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله الذي منَّ على أهل الإيمان بالنعيم المقيم في جنات النعيم، وزادهم فوق ذلك النظر إلى وجهه الكريم، فنعمه على عباده لا تحصى، وفضله عليهم لا يستقصى، أحمده حمد المعترف بآلائه، وأشكره شكراً يوصل إلى المزيد من نعمائه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ شهادة أرجو بها الفوز في يوم القيام، وأدخرها سلم نجاة في يوم الزحام.

 

وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم، أرسله ربه إلى العالمين بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، وعلى آله وصحبه الأتقياء الأمجاد، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم التناد.

 

أما بعد:

 

عباد الله: اتقوا الله ولا تغتروا بهذه الحياة، فإن كل ما في هذه الدنيا آيل للزوال والخراب، واستعدوا لدار خلد لا يخرب بنيانها، ولا يهرم شبابها، ولا ينقطع نعيمها، يقول المولى -جلَّ وعلا- وهو يحثنا على المبادرة إليها: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ) [آل عمران:133 - 136].

 

إن أهل الجنة في الجنة في مقام أمين، وفي أمان من تغيرات الزمان وتقلبات الحياة، يتقلبون في جنات ونعيم لهم فيها ما يشاءون، متنعمين مع الزوجات من الحور العين، (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ * كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ * يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ * لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [الدخان:51 - 57]، يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "قال الله تعالى: أعددتُ لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، واقرؤوا إن شئتم (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [السجدة:17]، [ البخاري (3244 (مسلم 2824 ].

 

أما تمام النعيم وأعظم اللذائذ وأكبر السرور في الجنة فهو يوم المزيد، يقول الله -سبحانه وتعالى-: (ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ) [ق:34-35]، ويقول: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ) [يونس:26]، وقد فسر الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم- الزيادة بأنها رؤية المؤمنين لربهم -تبارك وتعال-ى في الجنة، فيصيبهم من النور والضياء، ويجدون من اللذة عند رؤيته ما يصغر معه نعيم الجنة على ما فيها من أنواع اللذائذ والنعيم، ويرجعون إلى بيوتهم وقد ازدادوا نوراً وضياء، وقد صرح الحق -تبارك وتعالى- بما يلحق المؤمنين من الحسن والبهاء والنضارة برؤيتهم لربهم في جنات النعيم فقال: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) [القيامة: 22، 23].

 

أيها المسلمون: إن الله -سبحانه وتعالى- خلق الخلق لعبادته، فبذكره تطمئن قلوبهم، وتسكن نفوسهم، وبرؤيته في الآخرة تقر عيونهم، ويتم نعيمهم، فلا يعطيهم في الآخرة شيئا خيراً لهم ولا أحب إليهم، ولا أقر لعيونهم، ولا أنعم لقلوبهم، من النظر إليه، وسماع كلامه منه بلا واسطة، ولم يعطهم في الدنيا شيئا خيراً لهم ولا أحب إليهم، ولا أقر لعيونهم من الإيمان به، ومحبته والشوق إلى لقائه، والأنس بقربه، والتنعم بذكره، ولذلك جمع النبي -صلى الله عليه وسلم- بين هذين الأمرين في الدعاء الذى كان -صلى الله عليه وسلم- يدعو به فيقول: "اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق، أحيني ما علمت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً بي، وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الحق في الرضى والغضب، وأسألك القصد في الفقر والغنى، وأسألك نعيما لا ينفد، وأسألك قرة عين لا تنقطع، وأسألك الرضى بعد القضاء، وأسألك برد العيش بعد الموت، وأسألك لذة النظر إلى وجهك، وأسألك الشوق إلى لقائك في غير ضراء مُضِرَّة، ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين" [صحيح سنن النسائي]، فجمع النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذا الدعاء العظيم بين أطيب شيء في الدنيا، وهو الشوق إلى لقاء الله -سبحانه وتعالى-، وأطيب شيء في الآخرة، وهو النظر إلى وجهه -سبحانه-.

 

أيها الناس: إن رؤية الله -تبارك وتعالى- بالأبصار جهرة كما يرى القمر ليلة البدر، وتجليه ضاحكاً لهم، هو أفضل نعيم أهل الجنة وأشرفه، وأجله قدراً، وأعلاه شرفاً، وأقره عيناً، وهو الغاية التي شمر إليها المشمرون، وتنافس فيها المتنافسون، وتسابق إليها المتسابقون، ولمثلها فليعمل العاملون، إذا ناله أهل الجنة نسوا ما هم فيه من النعيم، وحرمانه والحجاب عنه لأهل الجحيم أشد عليهم من عذاب الجحيم، وقد أخبر الله -سبحانه وتعالى- عن أعلم الخلق به في زمانه, وهو كليمه ونجيه وصفيه من أهل الأرض موسى -عليه السلام-، أنه سأل ربه تعالى النظر إليه فقال له ربه -تبارك وتعالى-: (لنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا) [الأعراف: 143] وهذا معناه إن رؤية الله في الدنيا غير ممكنة، أما في الآخرة فإن الرؤية ممكنة وليست مستحيلة. وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أَنَّ النَّاسَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ, هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ القِيَامَةِ؟ قَالَ: "هَلْ تُمَارُونَ فِي القَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ لَيْسَ دُونَهُ سَحَابٌ" قَالُوا: لاَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: "فَهَلْ تُمَارُونَ فِي الشَّمْسِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ" قَالُوا: لاَ، قَالَ: "فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَهُ كَذَلِكَ ..." [البخاري ومسلم].

 

وعَنْ أَنَسٍ -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "أَتَانِي جِبْرِيلُ، وَفِي يَدِهِ كَالْمِرْآةِ الْبَيْضَاءِ فِيهَا كَالنُّكْتَةِ السَّوْدَاءِ، فَقُلْتُ: يَا جَبْرَائِيلُ مَا هَذِهِ؟ قَالَ: الْجُمُعَةُ" قَالَ: "قُلْتُ: وَمَا الْجُمُعَةُ؟" قَالَ: لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ" قَالَ: "قُلْتُ: وَمَا لَنَا فِيهَا؟" قَالَ: يَكُونُ عِيدًا لَكَ، وَلِقَوْمِكَ مِنْ بَعْدِكَ، وَيَكُونُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى تَبَعًا لَكَ, قَالَ: "قُلْتُ: وَمَا لَنَا فِيهَا؟ قَالَ: لَكُمْ فِيهَا سَاعَةٌ، لَا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ يَسْأَلُ اللَّهَ فِيهَا شَيْئًا مِنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ هُوَ لَهُ قَسَمٌ، إِلَّا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ، أَوْ لَيْسَ بِقَسَمٍ، إِلَّا ادَّخَرَ لَهُ عِنْدَهُ مَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ، أَوْ يَتَعَوَّذُ بِهِ مِنْ شَرٍّ هُوَ عَلَيْهِ مَكْتُوبٌ، إِلَّا صَرَفَ عَنْهُ مِنَ الْبَلَاءِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ, قَالَ: "قُلْتُ لَهُ: وَمَا هَذِهِ النُّكْتَةُ فِيهَا؟" قَالَ: هِيَ السَّاعَةُ، هِيَ تَقُومُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَهُوَ عِنْدَنَا سَيِّدُ الْأَيَّامِ، وَنَحْنُ نَدْعُوهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَوْمَ الْمَزِيدِ, قَالَ: "قُلْتُ: مِمَّ ذَاكَ؟" قَالَ: لِأَنَّ رَبَّكَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- اتَّخَذَ فِي الْجَنَّةِ وَادِيًا مِنْ مِسْكٍ أَبْيَضَ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، هَبَطَ مِنْ عِلِّيِّينَ عَلَى كُرْسِيِّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، ثُمَّ حَفَّ الْكُرْسِيَّ بِمَنَابِرَ مِنْ ذَهَبٍ مُكَلَّلَةٍ بِالْجَوَاهِرِ، ثُمَّ يَجِيءُ النَّبِيُّونَ حَتَّى يَجْلِسُوا عَلَيْهَا، وَيَنْزِلُ أَهْلُ الْغُرَفِ حَتَّى يَجْلِسُوا عَلَى ذَلِكَ الْكَثِيبِ، ثُمَّ يَتَجَلَّى لَهُمْ رَبُّكَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، ثُمَّ يَقُولُ: سَلُونِي أُعْطِكُمْ, قَالَ: فَيَسْأَلُونَهُ الرِّضَى، فَيَقُولُ: رِضَائِي أُحِلُّكُمْ دَارِي، وَأُنِيلُكُمْ كَرَاسِيَّ، فَسَلُونِي أُعْطِكُمْ" قَالَ: "فَيَسْأَلُونَهُ" قَالَ: "فَيُشْهِدُهُمْ أَنَّهُ قَدْ رَضِيَ عَنْهُمْ" قَالَ: "فَيُفْتَحُ لَهُمْ مَا لَمْ تَرَ عَيْنٌ، وَلَمْ تَسْمَعْ أُذُنٌ، وَلَا يَخْطِرُ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ" قَالَ: "وَذَلِكُمْ مِقْدَارُ انْصِرَافِكُمْ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ" ثُمَّ قَالَ: "يَرْتَفِعُ وَيَرْتَفِعُ مَعَهُ النَّبِيُّونَ وَالصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ وَيَرْجِعُ أَهْلُ الْغُرَفِ إِلَى غُرَفِهِمْ، وَهِيَ دُرَّةٌ بَيْضَاءُ لَيْسَ فِيهَا فَصْمٌ وَلَا قَصْمٌ، أَوْ دُرَّةٌ حَمْرَاءُ، أَوْ زَبَرْجَدَةٌ خَضْرَاءُ فِيهَا غُرَفُهَا وَأَبْوَابُهَا مُطَرَّزَةٌ، وَفِيهَا أَنْهَارُهَا وَثِمَارُهَا مُتَدَلِّيَةٌ" قَالَ: "فَلَيْسُوا إِلَى شَيْءٍ أَحْوَجَ مِنْهُمْ إِلَى يَوْمِ الْجُمُعَةِ لِيَزْدَادُوا إِلَى رَبِّهِمْ نَظَرًا، وَلِيَزْدَادُوا مِنْهُ كَرَامَةً". [ مصنف ابن أبي شيبة (5517( وقال الألباني حسن لغيره].

 

ولله أبصار ترى الله جهرة *** فلا الضيم يغشاها ولا هي تسأم

فيا نظرة أهدت إلى الوجه نضرة *** أمن بعدها يسلو المحب المتيم

 

إن هذه الأحاديث وغيرها تشوق المؤمن إلى هذا الفوز العظيم، والظفر الكبير لرؤية وجه الله الجليل الذي هو أطيب الوجوه وأكرمها، (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [القصص : 88]، (وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ) [الرحمن : 27]، فأعظم النعيم هو النظر إلى وجه الله الكريم في جنات النعيم، فهل اشتقنا -يا عباد الله- إلى رؤية الله -تبارك وتعالى-؟ فإن "من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه" [ البخاري ومسلم ]، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "جَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ آنِيَتُهُمَا، وَمَا فِيهِمَا، وَجَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ آنِيَتُهُمَا، وَمَا فِيهِمَا، وَمَا بَيْنَ الْقَوْمِ وَبَيْنَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى رَبِّهِمْ إِلَّا رِدَاءُ الْكِبْرِيَاءِ عَلَى وَجْهِهِ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ" [ مسلم]. يقول ابن الأثير -رحمه الله-: "رؤية الله هي الغاية القصوى في نعيم الآخرة، والدرجة العليا من عطايا الله الفاخرة، بلغنا الله منها ما نرجو".

 

قلت ما سمعتم واستغفروا لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله رب العالمين الذي خلق الجنة وأعدها لمن أطاعه واتقاه، وخلق النار وأعدها لمن عصى وتكبر وابتعد عن طاعة الله، أحمده سبحانه أوضح لنا طريق الحق، وأمرنا باتباعه، ونهانا أن نسلك سبل الغواية والضلال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي لا ينطق عن الهوى، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.

 

أما بعد:

 

أيها المؤمنون: لقد وصف الله الجنة لعباده المؤمنين؛ ليزدادوا لها شوقاً ومسابقة وعملاً، فوصف لهم ما فيها من الأنهار والأشجار، وما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين من النعيم الأبدي، ووصف لهم ما فيها من الدرجات العالية والمنازل الرفيعة، وما لهم من الزوجات الحسان، وما يحصلون عليه من ألذ النعيم وأعظم اللذة برؤية وجهه الكريم.

 

فمن أحب أن يُكرمه الله بهذه النعمة فعليه أن يحرص على أداء صلاتي الفجر والعصر في جماعة، فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا الْقَمَرَ لا تُضَامُّونَ فِي رُؤْيَتِهِ، فَإِنْ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لا تُغْلَبُوا عَلَى صَلاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا فَافْعَلُوا، ثُمَّ قَرَأَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ [ق: 39]، [ البخاري ومسلم]، والمعنى: لا تُغلبوا فتفوّتوا هاتين الصلاتين في جماعة فيفوتكم هذا الفوز الكبير، فتحرمون من النظر إلى وجه الله الكريم.

 

فالله الله في المحافظة على هاتين الصلاتين صلاة العصر وصلاة الفجر، فإن من حافظ على هاتين الصلاتين في جماعة أكرمه الله برؤية وجهه الكريم في جنات النعيم. وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تُضامون في رؤيته" معناه: لا تزدحمون على رؤيته، ولا يحال بينكم وبينه شيء، فمن حيل بينه وبين رؤيته وحجب عنه فقد ضيم وأذل غاية المذلة، نسأل الله السلامة والعافية.

 

عباد الله: علينا أن نحذر كل الحذر من أن نكون من المحرومين من هذه النعمة، المحجوبين عن رؤية ربهم والنظر إليه، فهذا هو الشقاء المقيم، هؤلاء هم أهل الحرمان الكبير، فأشد الحرمان حرمانهم، وأقسى العذاب عذابهم، فهم المحرمون من النظر إلى ربهم ورؤية وجهه الكريم، وهم المطرودون عن هذا النعيم العظيم، فيالخسارتهم وذلهم وخزيهم ونكالهم، ألا بعداً وسحقاً لهم، فهل تعلمون من هم هؤلاء الذين سبق عليهم القول من ربهم بهذا الحرمان الأليم:

 

أولهم: الكافرون وهم الذين استبدلوا الكفر بالإيمان، وأعرضوا عن عبادة الرحمن، فأعرض الله عنهم، وحرمهم لذة النظر إلى وجهه الجميل، وحجبهم عن رؤية وجهه الكريم، (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ * ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ) [المطففين:15-16].

 

ثانياً: المنافقون الذين يعذبون في الدرك الأسفل من النار، فأشد العذاب عذابهم، ومن العذاب أن يحجبوا عن رؤية الله، ويمنعوا من النظر إلى وجه الله ورؤية وجهه الكريم.

 

ثالثاً: أهل البدعة المنكرين للرؤية، الذين يرون أن الله لا يرى في الجنة، ويردون كل هذه الأدلة الواضحة، من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، بشبهات باطلة، وتأويلات فاسدة، يقول الإمام أحمد -رحمه الله- في كتابه الرد على الجهمية والزنادقة: روى ثابت البناني، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن صهيب، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا استقر أهل الجنة في الجنة ونادى منادٍ: يا أهل الجنة إن الله قد أذن لكم في الزيادة، قال: فيكشف الحجاب فينظرون إلى الله لا إله إلا هو"، ثم قال الإمام أحمد -رحمه الله-: "وإنا لنرجو أن يكون الجهم وشيعته ممن لا ينظرون إلى ربهم ويحجبون عن الله تعالى" [الرد على الجهمية]. ويقول السيوطي -رحمه الله-: "رأيت جماعة من العلماء صرحوا بأن الجهمية المنكرين للرؤية لا يرون ربهم وإن دخلوا الجنة، فيكونون مختصين مخصوصين من عموم من يرى".

 

وفي الختام أحب أن أختم بهذه الأبيات الجميلة العذبة في باب الرؤية من نونية ابن القيم -رحمه الله- حيث:

ويرونه سبحانه من فوقهم *** نظر العيان كما يرى القمران

هذا تواتر عن رسول الله لم *** ينكره إلا فاسد الإيمان

وأتى به القرآن تصريحا وتعـ *** ـريضا هما بسياقه نوعان

وهي الزيادة قد أتت في يونس *** تفسير من قد جاء بالقرآن

ورواه عنه مسلم بصحيحه *** يروي صهيب ذا بلا كتمان

وهو المزيد كذاك فسره أبو *** بكر هو الصديق ذو الإيقان

وعليه أصحاب الرسول وتابعو *** هم بعدهم تبعية الإحسان

ولقد أتى ذكر اللقاء لربنا الـ *** ـرحمان في سور من الفرقان

ولقاؤه إذ ذاك رؤيته حكى الـ *** إجماع فيه جماعة ببيان

وعليه أصحاب الحديث جميعهم *** لغة وعرفا ليس يختلفان

هذا ويكفي أنه سبحانه *** وصف الوجوه بنظرة بجنان

وأعاد أيضا وصفها نظرا وذا *** لا شك يفهم رؤية بعيان

ولقد أتى في سورة التطفيف أن *** القوم قد حجبوا عن الرحمان

فيدل بالمفهوم أن المؤمنيـ *** ـن يرونه في جنة الحيوان

وبذا استدل الشافعي وأحمد *** وسواهما من عالمي الأزمان

وأتى بذا المفهوم تصريحا بآ *** خرها فلا تخدع عن القرآن

وروى ابن ماجة مسندا عن جابر *** خبراً وشاهده ففي القرآن

بينا هم في عيشهم وسرورهم *** ونعيمهم في لذة وتهان

وإذا بنور ساطع قد أشرقت *** منه الجنان قصيها والداني

رفعوا إليه رؤوسهم فرأوه نور *** الرب لا يخفى على إنسان

وإذا بربهم تعالى فوقهم *** قد جاء للتسليم بالإحسان

قال السلام عليكم فيرونه *** جهرا تعالى الرب ذو السلطان

مصداق ذا يس قد ضمنته عنـ *** ـد القول من رب بهم رحمان

من ردّ ذا فعلى رسول الله رد *** وسوف عند الله يلتقيان

أو ما سمعت منادي الإيمان يخـ *** ـبر عن منادي جنة الحيوان

يا أهلها لكم لدى الرحمن وعـ *** ـد وهو منجزه لكم بضمان

قالوا أما بيضت أوجهنا كذا *** أعمالنا أثقلت في الميزان

وكذاك قد أدخلتنا الجنات حيـ *** ـن أجرتنا من مدخل النيران

فيقول عندي موعد قد آن أن *** أعطيكموه برحمتي وحناني

فيرونه من بعد كشف حجابه *** جهرا روى ذا مسلم ببيان

ولقد أتانا في الصحيحين اللذيـ *** ـن هما أصح الكتب بعد قران

برواية الثقة الصدوق جريـ *** ـر البجلي عمن جاء بالقرآن

أن العباد يرونه سبحانه *** رؤيا العيان كما يرى القمران

فإن استطعتم كل وقت فاحفظوا الـ *** ـبردين ما عشتم مدى الأزمان

وألذ شيء للقلوب فهذه الأخبار *** مع أمثالها هي بهجة الإيمان

والله لولا رؤية الرحمن في الـ *** ـجنات ما طابت لذي العرفان

أعلى نعيم رؤية وجهه *** وخطابه في جنة الحيوان

وأشد شيء في العذاب حجابه *** سبحانه عن ساكني النيران

وإذا رآه المؤمنون نسوا الذي *** هم فيه مما نالت العينان

فإذا توارى عنهم عادوا إلى *** لذاتهم من سائر الألوان

فلهم نعيم عند رؤيته سوى *** هذا النعيم فحبذا الأمران

أو ما سمعت سؤال أعرف خلقه *** بجلاله المبعوث بالقرآن

شوقا إليه ولذة النظر التي *** بجلال وجه الرب ذي السلطان

فالشوق لذة روحه في هذه الـ *** ـدنيا ويوم قيامة الأبدان

تلتذ بالنظر الذي فازت به *** دون الجوارح هذه العينان

والله ما في هذه الدنيا ألذ *** من اشتياق العبد للرحمن

وكذاك رؤية وجهه سبحانه *** هي أكمل اللذات للإنسان

 

اللهم متعنا بالنظر إلى وجهك الكريم، والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة.

اللهم حقق لنا ما نرجو، وآمنا مما نخاف، ولا تخزنا يوم القيامة، واجعل لنا ذكرًا حسنًا في العالمين.

 

اللهم اختم لنا بخاتمة الصالحين التائبين، واجعلنا يوم الفزع آمنين، واجعلنا ممن يؤتون كتابهم باليمين، وممن يُرفع مقامُهم في عليين.

 

اللهم ثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، واجعلنا ممن يأخذون صحائف الأعمال باليمين.

 

نسألك يا الله أن توفقنا لما تحبه وترضاه، وأن تعيننا على أنفسنا بالخشية منك، وأن تقر أعيننا برؤية وجهك الكريم مع نبينا الكريم -صلى الله عليه وسلم- في جنات عدن.

 

وصلى اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين.

 

والحمد لله رب العالمين.

 

 

 

 

المرفقات

الله ألذ النعيم

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات